محمد زفزاف - مهمة صحفيّة

تبدو المدينة هادئة تماما، شوارعها خالية، واذا ما ظهر شبح انسان فلا شك أنه شبح خادمة، لأن الكل يشتغل هنا، وحتى في الليل تغلق الأبواب استعدادا للعمل في الغد، يتم ما يتم في الخفاء، وبين أربعة جدران، أو - عفوا - بين عشرات الجدران، لأن " الفيلات " كثيرة متراصة، بنيت في الثلاثينيات، واستطالت نخلاتها وأشجارها، وتغيّرت نباتاتها وأزهارها، قال لي موظف ينتمي الى منطقة " حمر":
- كان ممنوعا علينا أن ندخل الى هذه المدينة عندما كنا صغارا، قبل الاستقلال، وكان يسمح للخادمات وحدهن بذلك، ولكننا كنا نستطيع أن نتسرب ونتجنب أعين العسس المغاربة والفرنسيين، وكنا نتلصص على الفرنسيين وهم يرقصون، ويشربون، ويتعانقون، ويأكلون الشواء، وغير ذلك، كانوا يعيشون في جنة، ويقيمون الحفلات ليلة السبت في الشوارع.
وصلت الى هذه المدينة قبل حوالي ثلاثة أيام، في مهمة صحفية لإجراء تحقيق عن وضعية عمال مناجم الفوسفات، استطعت أن أتجول بالسيارة بين الفيلات، وفي الحي الشعبي خلال ساعة واحدة فقط، كانت الفيلات متشابهة الهندسة، وليس هناك ما يميّز الواحدة منها عن الأخرى، في حين أن الحي الشعبي مبني بطريقة عشوائية، شأن باقي الأحياء في المدن الأخرى التي عرفت.
استطاع الموظف أن يربط معي علاقة بسهولة، كما أنه قدم لي موظفين آخرين يرتادون نفس النادي التابع لمكتب الفوسفات، انهم يعرفون بعضهم، فهم يلتقون كل يوم في العمل والنادي، وربما كانوا يتزاورون كذلك، كنت الوجه الغريب بينهم، وفهمت أنهم في حصارهم ذاك يريدون أن يتسقطوا أخبارا من خارج مملكتهم : من خارج عالمهم اليومي المتكرر، وخمنت أنهم يعيشون عزلة نفسية قاسية، رغم شساعة " الفيلات " وتوفر السيارات، وأجهزة " الفيديو " ووسائل التسلية الأخرى. لكن كل ذلك بدا لي عبثا في عبث، وتصورتهم مثل الأطفال، كلما امتلكوا لعبة طمعوا في أخرى جديدة، دون أن تنتهي رغباتهم أبدا، وهذا ما يشعرهم بوحدتهم وبرتابة حياتهم هنا، رغم محاولة الإدارة المركزية للتخفيف عنهم في غربتهم، بتوفير إمكانيات اقتناء هذه اللعب، وهم ينتظرون شيئا لا يعرفونه بالضبط، وتذكرت رواية " صحراء التتار " لدينو بوتزاتي. كان البطل فيها ينتظر دائما عدوا وهميا في قلعته، لكن هؤلاء ينتظرون شيئا ما في فيلاتهم الفسيحة، ما هو هذا الشيء؟ لا أدري، يمكن لعلماء النفس أن يفهموا ذلك، أما أنا كصحفي، فلا أستطيع أن أستخبر إلا النزر القليل من دواخل هؤلاء الناس، وعلى كل فقد استطعت أن أتعرف على مجموعة منهم في النادي، بل استطعت كذلك أن أتعرف على بعض العمال الذين بترت أيديهم أو أرجلهم، وهم لا يلفتون الانتباه إلا بالنسبة لزائر غريب مثلي، وعندما سألت عن ذلك، قيل لي بأن ذلك شيء عادي بالنسبة لأي عامل منجم، عندما يلتحق العامل بعمله في الصباح أو الليل، فإنه يضع في ذهنه أن الحزام الذي ينقل الفوسفات لا شك أنه سيبتر له يدا. سألت أحد الموظفين عن سبب ذلك فأجابني: - إنه الإرهاق، أحيانا ينام العامل من كثرة الإنهاك، فلا يستيقظ إلا وقد بتر الحزام يده.
وقال لي موظف آخر: - أو ينهار عليه المنجم، هل قرأت رواية " جيرمينال " لإميل زولا؟
- نعم كلنا قرأناها،
- إنها نفس الوضعية التي يعيشها العمال هنا، يجب أن تتاح لك الفرصة لزيارة المناجم، أو على الأقل ، استيقظ في الصباح مبكرا، وتعال لترى سحناتهم هنا وهم يفطرون في النادي.
وكانت فكرة رائعة أن أستيقظ مبكرا وأزور هذا النادي الوحيد في المدينة، ففيه يفطر العمال، وفي المساء يكون خاصا بالأطر العليا للمكتب، كررت الزيارة مرارا، لكن لم تكن هناك إمكانية للتحاور مع أي عامل، لأنهم دائما متعجلون، كانت سحناتهم داكنة متشابهة، يلبسون جميعا أحذية طويلة مطاطية، وفي النهار كنت أتجول بالسيارة في المدينة، دون أن ألتقي بأحد إلا في النادر، ثم أعود أدراجي إلى النادي لأدردش قليلا، أو لأشرب شيئا، وقلت في نفسي متى أشرع في العمل؟ وحاولت مرارا أن أسجل بعض النقط، إلا أني كنت عاجزا تماما عن فعل ذلك، على الرغم من أني حصلت على بعض المعلومات والإحصاءات، أحيانا كنت أنزوي في غرفتي، إلا أني في أغلب الأوقات كنت ألتحق بالنادي ليلا، وأظل أتأمل هذه الوجوه، بعضها يلعب الورق، وبعضها يتفرج على التلفاز، والبعض الآخر يدرس، وكنت أفضل هذا النوع الأخير وأنضم إليه.
قال لي أحدهم عندما حدثته عن هذا الهدوء القاتل هنا: - اسمع، لقد طلقت زوجتي، وأنا أفضل أن أعيش هنا، ولو أعطيتني مال قارون لما عشت في مدينة هائلة كالدار البيضاء، رفضت زوجتي العيش هنا فطلقتها.
وقال لي آخر: - أنا أصلي من الدار البيضاء، في الستة أشهر الأولى لم آلف هذه المدينة، وكنت كل نهاية أسبوع أسافر الى الدار البيضاء، لكني فيما بعد لم أشعر إلا وقد قضيت عشر سنوات، الآن لم أعد أفكر في مدينتي الأصلية.
اكتشفت في الأخير أنهم ألفوا عزلتهم هذه، واعتادوا على هذه الرتابة اليومية، على الرغم من أنهم يحاولون معرفة ما يجري " هناك ". تطورت علاقتي معهم كثيرا، ودخلت الى بيوتهم، وبدأت أنا كذلك أنسى تلك الرتابة اليومية، بل إنني بدأت آلفها، وطوال هذه المدة لم أكن أتصل بالجريدة، لكن بعد أسبوعين اتصل بي رئيس التحرير قائلا: - هل ستقيم في تلك المدينة الى الأبد؟ لقد أرسلناك لتبقى يومين أو ثلاثة وليس دهرا.
- إن الهاتف معطل هنا يا سيدي
- عد حالا
- أمرك
واكتشفت أنني بقيت هنا طويلا بالفعل، وأن من حق رئيس التحرير أن يكلمني بتلك الفظاظة، حزمت حقيبتي والتحقت بالدار البيضاء، كانت معي مجموعة من المعلومات والأوراق، أجلت استغلالها فيما بعد، وحتى في الدار البيضاء ، بعد أن ابتعدت عن تلك المدينة لم أستطع أن أكتب شيئا، وانتظر رئيس التحرير طويلا مقالاتي المفصلة لكن بدون جدوى، بعدها ناداني الى مكتبه:
- أين ما أنجزت؟ لا شك أنك تؤلف كتابا عن تلك المدينة.
- لا كتاب ولا هم يحزنون.
- ماذا تقول؟ كيف تتحدث بهذه الطريقة؟
- لقد أصبحت مثل أولئك الناس، في تلك المدينة.
- إني أطلب منك التحقيق الذي أنجزت؟
- لم أنجزه ولا أحد يستطيع أن ينجزه.
- لا شك أنك أصبت بلوثة، وأعتقد أنك في حاجة الى الالتحاق بالجناح رقم 36 من مستشفى ابن رشد للأمراض العقلية، سوف أتخذ في حقك الإجراءات اللازمة.
- عندما تقيم في تلك المدينة ياسيدي سوف تعرف كل شيء، ثم خرجت دون أن أصفق الباب.



هذه القصة نشرت في مجلة العربي، وكتاب العربي " القصة العربية أجيال .. وآفاق "
الكتاب الرابع والعشرون 15 من يوليو1989

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...