أوقف جزازة العشب في وسط ساحة الدار لأنه شعر أن الشمس في تلك اللحظة بدأت في المغيب والنجوم بدأت تظهر في قبة السماء . وبدأ العشب المقطوع حديثا والذي غطى وجهه بالذبول بهدوء . نعم كانت النجوم هناك ، خافتة في البداية ، ثم تشع ببريق أخاذ في السماء الصحراوية الصافية . سمع باب الشرفة يغلق وشعر أن زوجته تراقبه بينما هو يرقب الليل.
قالت : ” تأخر الوقت ”
أومأ برأسه موافقا . لم يشعر أن عليه أن ينظر إلى ساعته . في اللحظات العابرة شعر وكأنه عجوز جدا ، ثم يافع جدا ، ثم بارد جدا ، ثم دافئ جدا ، مرة هذه ومرة تلك . فجأة صار على بعد أميال. شعر وكأنه ابنه يتحدث بثبات ويتحرك برشاقة ليخفي خفقات قلبه ونوبات ذعره الشديدة حالما شعر أنه يرتدي لباسا جديدا ، يتحقق من المؤونة الغذائية واسطوانات الأوكسجين وخوذة الضغط ولباس الفضاء وفجأة عاد مرة ثانية أب الابن يمسك بيديه قبضة جزازة العشب .
نادته زوجته : ” تعال نجلس على الشرفة .”
أجابها قائلا : ” لقد اعتدت أن أظل مشغولا . ”
نزلت إليه وعبرت المرج وقالت : ” لا تقلق على روبرت . سيكون بخير .”
سمع نفسه يقول : ” لكن كل شيء جديد . لم يقم أحد بالمهمة من قبل. فكري بالأمر . صاروخ مأهول يصعد الليلة ليبني أول محطة فضائية . يا إلهي! لا يمكن تنفيذ ذلك ، لا يمكن أن تولد الفكرة ، لا يوجد صاروخ ، لا يوجد أرض ثابتة ، لا يوجد زمن للإقلاع ، لا يوجد فنيون . لهذا السبب ، ليس لدي ولد اسمه بوب . لا أستطيع أن أحتمل كل ذلك.”
ردت عليه قائلة : ” وماذا تفعل أنت هنا ؟ بماذا تحدق؟ ”
هز رأسه وقال : ” حسنا ، في وقت متأخر هذا الصباح وأنا في طريقي أسير إلى المكتب ، سمعت شخصا ما يضحك بصوت عال ٍ. صدمني الصوت فتجمدت وسط الشارع . كنت أنا من يضحك ! لماذا ؟ لأنني عرفت أخيرا بحق ما سيفعله بوب هذه الليلة ؛ أخيرا صدقت الأمر. القداسة كلمة لا أستخدمها أبدا لكن هذا ما شعرت به وسط كل هذا الزحام وفي منتصف النهار اكتشفت أنني أهَمْهِم . أنت تعرفين الأغنية التي تقول : دولاب داخل دولاب . هناك طريق في الجو . ضحكت ثانية. طبعا ، لقد فكرت بالمحطة الفضائية . دولاب كبير بسلالم مجوفة وهناك سيعيش بوب لمدة ستة أو ثمانية أشهر ثم يصل إلى القمر . في طريق عودتي للبيت تذكرت أشياء كثيرة من الأغنية ” الدولاب الصغير يقوده الإيمان والدولاب الكبير يقوده سمو الإله ” . أردت أن أقفز وأصرخ وأحرق نفسي. ”
لمست زوجته ذراعه وقالت : ” إذا بقينا هنا دعنا على الأقل أن نكون مرتاحين ” . وضعا كرسيين هزازين وسط المرج وجلسا بهدوء بينما النجوم تذوب وسط الظلام وكأنها حطام صخر ملحي شاحب ينتقل من أفق إلى أفق.
أخيرا قالت زوجته : ” لماذا نحن هكذا كمن ينتظر حفلة الألعاب النارية في حقول سيسلي كل عام؟ ”
أجابها قائلا : ” الحشود أكبر هذه الليلة .”
ردت قائلة : ” سأبقى أفكر . هناك الملايين تراقب السماء الآن وأفواههم مفتوحة. ”
انتظرا وشعرا أن الأرض تتحرك تحتهما .
سألته قائلة : ” كم الساعة الآن؟ ”
أجابها قائلا :” الثامنة إلا إحدى عشرة دقيقة ”
ردت قائلة : ” أنت دائما على حق. لا بد أن هناك ساعة في رأسك .”
أجابها : ” لا يمكن أن تخطئ ساعتي الليلة . سأكون قادرا أن أخبرك بالثانية قبل أن يحدث الانفجار وينطلقوا. انظري ! تحذير العشرة دقائق قبل الانطلاق. ”
شاهدا أربعة ألسنة من اللهب على السماء الغربية ووميض يغمر الرياح فوق الصحراء ثم يغوص بصمت داخل الأرض التي تطفئ كل شيء.
وسط هذا الظلام تسمر الزوج والزوجة في كرسيهما من دون حراك .
بعد لحظة ، قال لها : ” ثماني دقائق.” توقف . ” سبع دقائق” . بدت الوقفات أطول “ست….”
ارخت الزوجة رأسها للوراء وتفحصت النجوم فوقها وتمتمت قائلة : ” لماذا هذه الصواريخ ؟ لماذا الليلة ؟ لماذا كل هذا ؟ أتمنى أن أعرف .”
تفحص وجهها الشاحب وسط النور الباهت الذي ينثره درب التبانة مثل البودرة . وشعر أن شيئا يدفعه للإجابة لكنه ترك زوجته تكمل قائلة :
” أقصد ليس نفس الشيء القديم . أليس كذلك ؟ عندما سأل الناس لماذا يتسلق الكثيرون قمة جبل إفرست وكانوا يجيبون لأنها موجودة ؟ أنا لم أفهم أبدا لماذا يفعلون ذلك . الأجوبة لم تقنعني أبدا .”
فكّر …خمس دقائق…الزمن يحدث صوتا … إنها ساعة يده …. دولاب داخل دولاب…الدولاب الصغير يدور …الدولاب الكبير يدور …والطريق في المنتصف … أربع دقائق… يدخل الرجال إلى الصاروخ الآن …. الخلية … لوحة التحكم تتوهج بالأنوار.
تحركت شفتاه …. وقال:
” كل ما أعرفه هو أنها في الحقيقية نهاية البداية . العصر الحجري ، العصر البرونزي، العصر الحديدي ، ومن الآن سوف نتجاوز هذه العصور مجتمعة تحت اسم كبير واحد لأننا عندما مشينا على الأرض وسمعنا زقزقة الطيور في الصباح حسدناها . ربما نسميه عصر الأرض أو ربما عصر الجاذبية . لقد حاربنا الجاذبية ملايين السنين وعندما كنا وحيدي الخلية وأسماك حاربنا للخروج من البحر من دون أن تحطمنا الجاذبية . وعندما وصلنا آمنين على الشاطئ حاربنا لكي نقف على قدمينا من دون جاذبية وأطلقنا الاختراع الجديد العمود الفقري وحاولنا المشي من دون تعثر وركضنا من دون أن نسقط . وقد أبقتنا الجاذبية ملتصقين بمنازلنا لمليارات السنين وسخرت منا بالرياح والغيوم وعثة الملفوف والجراد . وهذا هو الشيء الجديد المخيف هذه الليلة …إنها نهاية جاذبية الإنسان القديم وهو العصر الذي سنتذكره لمرة واحدة وللأبد. لا أعلم كيف سيقسمون العصور . عصر الفرس الذين حلموا بالسجاد الطائر أم عصر الصين الذين احتفلوا بأعياد الميلاد و رأس السنة وأصابع السيدات والألعاب النارية والأبراج العالية أم بدقيقة ما بثانية لا يمكن تصديقها في الساعة القادمة . لكننا في نهاية مليار سنة نحاول انهاء شيء ما استمر طويلا بالنسبة لنا نحن البشر شيء كنا نعتز به على أية حال .”
ثلاث دقائق ….دقيقتان وتسع وخمسون ثانية …..دقيقتان وثمان وخمسون ثانية ….
قالت زوجته : ” لكنني حتى الآن لا أعرف لماذا …”
فكر للحظة ، دقيقتان ….مستعد ؟ مستعد؟ مستعد ؟ جاء صوت الراديو بعيدا مستعد! مستعد ! مستعد ! كانت الأجوبة السريعة القادمة من الصاروخ الذي يهمهم ضعيفة . تدقيق! تدقيق! تدقيق! فكر للحظة في عقله وكأنه يقول الليلة حتى لو فشلنا سنرسل سفينة ثانية وثالثة وسوف ننطلق إلى كل الكواكب وفي وقت لاحق إلى كل النجوم . وسوف نستمر في عملنا حتى نحقق الكلمات الكبرى مثل الخلود ليصبح معناها مستمرا للأبد . الكلمات الكبرى ، نعم ، هذا ما نريده . الاستمرار. وحيث أن ألسنتنا هي أول ما تحرك في أفواهنا ، صرنا نطرح الأسئلة . ما الذي يعنيه ذلك ؟ ليس هناك سؤال أكبر من الموت الذي يحطم رقابنا . ولكن دعونا نستوطن في عشرة الاف عالم يدور حول عشرة ألاف شمس في كون فسيح غير محدود لا ينتهي . سيستمر الانسان للأبد طالما يوجد الكون . سيموت الأفراد كما يحصل دائما ولكن تاريخنا سيصل إلى أبعد حد ممكن في المستقبل مع معرفتنا بأن حياتنا على مر الزمان آتية لا محالة وسوف نحصل على كلمة السر والاجابة على كل الأسئلة التي بحثنا عن أجوبتها طويلا . ستوهب لنا الحياة وعلى الأقل نستطيع أن نحافظ عليها ونمررها هدية للأبدية . وهذا الهدف يستحق أن نبحث عنه .
صار صوت الكرسي الهزاز ناعما يهمس كصوت العشب.
دقيقة واحدة .
قال بصوت عال : ” بقي دقيقة واحدة .”
تحركت زوجته فجأة وأمسكت بيديه وقالت : ” أوه ! أمل أن يكون بوب ….”
رد قائلا : ” سيكون بخير !”
قالت : ” أوه ! يا إلهي ، بحمايتك …”
ثلاثون ثانية .
” راقبي الآن .”
خمس عشرة ثانية ، عشر ثواني ، خمس ثواني….
” راقبي.”
أربعة ، ثلاثة ، اثنان ، واحد.
” هناك ! هناك ! أوه ! هناك !هناك!”
صرخا معا . ثم وقفا . رجعت الكراسي نحو الوراء فسقطا على المرج . تأرجح الرجل وزوجته ، وحاولت يداهما أن تلتقطا بعضهما ، أن تمسكا ببعضهما بقوة شديدة. شاهدا لون السماء المضيئة وبعد عشر ثوان ينطلق المذنب الصاعد حارقا الهواء مطفأ النجوم مندفعا بسرعة نارية خارقة ليصبح نجما آخر في درب التبانة.
احتضن الرجل والزوجة بعضهما وكأنهما تعثرا على حافة منحدر لا يصدق يواجه هاوية عميقة ومظلمة يبدو وكأنها بلا نهاية . وعندما نظرا نحو السماء سمعا نفسيهما ينشجان وينوحان ولم يستطيعا الكلام إلا بعد فترة طويلة من الزمن .
” لقد ابتعدت بعيدا . ابتعدت . أليس كذلك ؟ ”
“نعم …”
“كل شيء على ما يرام . أليس كذلك؟
“نعم….نعم…”
“ولم يسقط …….؟”
” كلا. كلا. كل شيء على ما يرام . بوب على ما يرام . كل شيء على ما يرام .”
وقفا مبتعدين قليلا عن بعضهما أخيرا .
تحسس وجهه بيده و رمق أصابعه الرطبة وقال : ” سأكون ملعونا …سأكون ملعونا.”
انتظرا خمس دقائق ثم عشر دقائق حتى حل الظلام في رأسيهما وشبكة عينيهما المتألمة وكأن بها مليون ذرة من الملح الناري . كان عليهما أن يغلقا عينيهما.
بادرته قائلة :” حسنا . الآن علينا أن ندخل.”
لم يقو على الحركة . امتدت يده فقط على مسافة طويلة لوحدها لتجد مقبض جزازة العشب. رأى ما فعلته يده وقال : ” هناك فقط القليل الذي عليّ فعله….”
أجابته قائلة : ” لكنك لا تستطيع أن ترى .”
رد قائلا : ” حسنا فقط علي أن أنهي هذه بعدها سوف نجلس على الشرفة قبل أن ندخل .”
وساعدها على وضع الكراسي على الشرفة ، وأجلسها . ثم انسحب عائدا ليضع يده على دليل العمل لجزازة العشب . جزازة العشب . دولاب داخل دولاب . ألة بسيطة تمسك بها برباط وترسلها نحو الأمام بقوة وضجيج وأنت تمشي خلفها بفلسفتك الهادئة . مثل مضرب التنس يتبعه صمت دافئ. الدولاب يدور ثم تخطر ببالك فكرة صغيرة ناعمة .
قال في نفسه :” عمري مليار سنة عمري دقيقة واحدة بوصة واحدة . كلا . طولي عشرة الآف ميل .أنظر نحو الأسفل ولا أستطيع أن أرى قدمي . إنهما بعيدتان ، لقد ذهبتا بعيدا جدا نحو الأسفل .
حرك جزازة العشب . بدأ العشب يتطاير حوله بنعومة ، شعر بالسعادة والراحة وشعر أنه و كأن كل الإنسانية تستحم أخيرا بالمياه العذبة لنافورة الشباب.
وهكذا استحم وتذكر الأغنية عن العجلات والايمان وسمو الله لأنه في العلالي وسط السماء حيث يتواجد ذلك النجم الوحيد الذي ينتصب وسط ملايين النجوم الراكدة بلا حراك ويتجرأ أن يتحرك ويستمر في الحركة .
ثم أنهى جز العشب .
العنوان الأصلي والمصدر :
THE END OF THE BEGINNING , Ray Bradbury, (Short stories) 1969.
قالت : ” تأخر الوقت ”
أومأ برأسه موافقا . لم يشعر أن عليه أن ينظر إلى ساعته . في اللحظات العابرة شعر وكأنه عجوز جدا ، ثم يافع جدا ، ثم بارد جدا ، ثم دافئ جدا ، مرة هذه ومرة تلك . فجأة صار على بعد أميال. شعر وكأنه ابنه يتحدث بثبات ويتحرك برشاقة ليخفي خفقات قلبه ونوبات ذعره الشديدة حالما شعر أنه يرتدي لباسا جديدا ، يتحقق من المؤونة الغذائية واسطوانات الأوكسجين وخوذة الضغط ولباس الفضاء وفجأة عاد مرة ثانية أب الابن يمسك بيديه قبضة جزازة العشب .
نادته زوجته : ” تعال نجلس على الشرفة .”
أجابها قائلا : ” لقد اعتدت أن أظل مشغولا . ”
نزلت إليه وعبرت المرج وقالت : ” لا تقلق على روبرت . سيكون بخير .”
سمع نفسه يقول : ” لكن كل شيء جديد . لم يقم أحد بالمهمة من قبل. فكري بالأمر . صاروخ مأهول يصعد الليلة ليبني أول محطة فضائية . يا إلهي! لا يمكن تنفيذ ذلك ، لا يمكن أن تولد الفكرة ، لا يوجد صاروخ ، لا يوجد أرض ثابتة ، لا يوجد زمن للإقلاع ، لا يوجد فنيون . لهذا السبب ، ليس لدي ولد اسمه بوب . لا أستطيع أن أحتمل كل ذلك.”
ردت عليه قائلة : ” وماذا تفعل أنت هنا ؟ بماذا تحدق؟ ”
هز رأسه وقال : ” حسنا ، في وقت متأخر هذا الصباح وأنا في طريقي أسير إلى المكتب ، سمعت شخصا ما يضحك بصوت عال ٍ. صدمني الصوت فتجمدت وسط الشارع . كنت أنا من يضحك ! لماذا ؟ لأنني عرفت أخيرا بحق ما سيفعله بوب هذه الليلة ؛ أخيرا صدقت الأمر. القداسة كلمة لا أستخدمها أبدا لكن هذا ما شعرت به وسط كل هذا الزحام وفي منتصف النهار اكتشفت أنني أهَمْهِم . أنت تعرفين الأغنية التي تقول : دولاب داخل دولاب . هناك طريق في الجو . ضحكت ثانية. طبعا ، لقد فكرت بالمحطة الفضائية . دولاب كبير بسلالم مجوفة وهناك سيعيش بوب لمدة ستة أو ثمانية أشهر ثم يصل إلى القمر . في طريق عودتي للبيت تذكرت أشياء كثيرة من الأغنية ” الدولاب الصغير يقوده الإيمان والدولاب الكبير يقوده سمو الإله ” . أردت أن أقفز وأصرخ وأحرق نفسي. ”
لمست زوجته ذراعه وقالت : ” إذا بقينا هنا دعنا على الأقل أن نكون مرتاحين ” . وضعا كرسيين هزازين وسط المرج وجلسا بهدوء بينما النجوم تذوب وسط الظلام وكأنها حطام صخر ملحي شاحب ينتقل من أفق إلى أفق.
أخيرا قالت زوجته : ” لماذا نحن هكذا كمن ينتظر حفلة الألعاب النارية في حقول سيسلي كل عام؟ ”
أجابها قائلا : ” الحشود أكبر هذه الليلة .”
ردت قائلة : ” سأبقى أفكر . هناك الملايين تراقب السماء الآن وأفواههم مفتوحة. ”
انتظرا وشعرا أن الأرض تتحرك تحتهما .
سألته قائلة : ” كم الساعة الآن؟ ”
أجابها قائلا :” الثامنة إلا إحدى عشرة دقيقة ”
ردت قائلة : ” أنت دائما على حق. لا بد أن هناك ساعة في رأسك .”
أجابها : ” لا يمكن أن تخطئ ساعتي الليلة . سأكون قادرا أن أخبرك بالثانية قبل أن يحدث الانفجار وينطلقوا. انظري ! تحذير العشرة دقائق قبل الانطلاق. ”
شاهدا أربعة ألسنة من اللهب على السماء الغربية ووميض يغمر الرياح فوق الصحراء ثم يغوص بصمت داخل الأرض التي تطفئ كل شيء.
وسط هذا الظلام تسمر الزوج والزوجة في كرسيهما من دون حراك .
بعد لحظة ، قال لها : ” ثماني دقائق.” توقف . ” سبع دقائق” . بدت الوقفات أطول “ست….”
ارخت الزوجة رأسها للوراء وتفحصت النجوم فوقها وتمتمت قائلة : ” لماذا هذه الصواريخ ؟ لماذا الليلة ؟ لماذا كل هذا ؟ أتمنى أن أعرف .”
تفحص وجهها الشاحب وسط النور الباهت الذي ينثره درب التبانة مثل البودرة . وشعر أن شيئا يدفعه للإجابة لكنه ترك زوجته تكمل قائلة :
” أقصد ليس نفس الشيء القديم . أليس كذلك ؟ عندما سأل الناس لماذا يتسلق الكثيرون قمة جبل إفرست وكانوا يجيبون لأنها موجودة ؟ أنا لم أفهم أبدا لماذا يفعلون ذلك . الأجوبة لم تقنعني أبدا .”
فكّر …خمس دقائق…الزمن يحدث صوتا … إنها ساعة يده …. دولاب داخل دولاب…الدولاب الصغير يدور …الدولاب الكبير يدور …والطريق في المنتصف … أربع دقائق… يدخل الرجال إلى الصاروخ الآن …. الخلية … لوحة التحكم تتوهج بالأنوار.
تحركت شفتاه …. وقال:
” كل ما أعرفه هو أنها في الحقيقية نهاية البداية . العصر الحجري ، العصر البرونزي، العصر الحديدي ، ومن الآن سوف نتجاوز هذه العصور مجتمعة تحت اسم كبير واحد لأننا عندما مشينا على الأرض وسمعنا زقزقة الطيور في الصباح حسدناها . ربما نسميه عصر الأرض أو ربما عصر الجاذبية . لقد حاربنا الجاذبية ملايين السنين وعندما كنا وحيدي الخلية وأسماك حاربنا للخروج من البحر من دون أن تحطمنا الجاذبية . وعندما وصلنا آمنين على الشاطئ حاربنا لكي نقف على قدمينا من دون جاذبية وأطلقنا الاختراع الجديد العمود الفقري وحاولنا المشي من دون تعثر وركضنا من دون أن نسقط . وقد أبقتنا الجاذبية ملتصقين بمنازلنا لمليارات السنين وسخرت منا بالرياح والغيوم وعثة الملفوف والجراد . وهذا هو الشيء الجديد المخيف هذه الليلة …إنها نهاية جاذبية الإنسان القديم وهو العصر الذي سنتذكره لمرة واحدة وللأبد. لا أعلم كيف سيقسمون العصور . عصر الفرس الذين حلموا بالسجاد الطائر أم عصر الصين الذين احتفلوا بأعياد الميلاد و رأس السنة وأصابع السيدات والألعاب النارية والأبراج العالية أم بدقيقة ما بثانية لا يمكن تصديقها في الساعة القادمة . لكننا في نهاية مليار سنة نحاول انهاء شيء ما استمر طويلا بالنسبة لنا نحن البشر شيء كنا نعتز به على أية حال .”
ثلاث دقائق ….دقيقتان وتسع وخمسون ثانية …..دقيقتان وثمان وخمسون ثانية ….
قالت زوجته : ” لكنني حتى الآن لا أعرف لماذا …”
فكر للحظة ، دقيقتان ….مستعد ؟ مستعد؟ مستعد ؟ جاء صوت الراديو بعيدا مستعد! مستعد ! مستعد ! كانت الأجوبة السريعة القادمة من الصاروخ الذي يهمهم ضعيفة . تدقيق! تدقيق! تدقيق! فكر للحظة في عقله وكأنه يقول الليلة حتى لو فشلنا سنرسل سفينة ثانية وثالثة وسوف ننطلق إلى كل الكواكب وفي وقت لاحق إلى كل النجوم . وسوف نستمر في عملنا حتى نحقق الكلمات الكبرى مثل الخلود ليصبح معناها مستمرا للأبد . الكلمات الكبرى ، نعم ، هذا ما نريده . الاستمرار. وحيث أن ألسنتنا هي أول ما تحرك في أفواهنا ، صرنا نطرح الأسئلة . ما الذي يعنيه ذلك ؟ ليس هناك سؤال أكبر من الموت الذي يحطم رقابنا . ولكن دعونا نستوطن في عشرة الاف عالم يدور حول عشرة ألاف شمس في كون فسيح غير محدود لا ينتهي . سيستمر الانسان للأبد طالما يوجد الكون . سيموت الأفراد كما يحصل دائما ولكن تاريخنا سيصل إلى أبعد حد ممكن في المستقبل مع معرفتنا بأن حياتنا على مر الزمان آتية لا محالة وسوف نحصل على كلمة السر والاجابة على كل الأسئلة التي بحثنا عن أجوبتها طويلا . ستوهب لنا الحياة وعلى الأقل نستطيع أن نحافظ عليها ونمررها هدية للأبدية . وهذا الهدف يستحق أن نبحث عنه .
صار صوت الكرسي الهزاز ناعما يهمس كصوت العشب.
دقيقة واحدة .
قال بصوت عال : ” بقي دقيقة واحدة .”
تحركت زوجته فجأة وأمسكت بيديه وقالت : ” أوه ! أمل أن يكون بوب ….”
رد قائلا : ” سيكون بخير !”
قالت : ” أوه ! يا إلهي ، بحمايتك …”
ثلاثون ثانية .
” راقبي الآن .”
خمس عشرة ثانية ، عشر ثواني ، خمس ثواني….
” راقبي.”
أربعة ، ثلاثة ، اثنان ، واحد.
” هناك ! هناك ! أوه ! هناك !هناك!”
صرخا معا . ثم وقفا . رجعت الكراسي نحو الوراء فسقطا على المرج . تأرجح الرجل وزوجته ، وحاولت يداهما أن تلتقطا بعضهما ، أن تمسكا ببعضهما بقوة شديدة. شاهدا لون السماء المضيئة وبعد عشر ثوان ينطلق المذنب الصاعد حارقا الهواء مطفأ النجوم مندفعا بسرعة نارية خارقة ليصبح نجما آخر في درب التبانة.
احتضن الرجل والزوجة بعضهما وكأنهما تعثرا على حافة منحدر لا يصدق يواجه هاوية عميقة ومظلمة يبدو وكأنها بلا نهاية . وعندما نظرا نحو السماء سمعا نفسيهما ينشجان وينوحان ولم يستطيعا الكلام إلا بعد فترة طويلة من الزمن .
” لقد ابتعدت بعيدا . ابتعدت . أليس كذلك ؟ ”
“نعم …”
“كل شيء على ما يرام . أليس كذلك؟
“نعم….نعم…”
“ولم يسقط …….؟”
” كلا. كلا. كل شيء على ما يرام . بوب على ما يرام . كل شيء على ما يرام .”
وقفا مبتعدين قليلا عن بعضهما أخيرا .
تحسس وجهه بيده و رمق أصابعه الرطبة وقال : ” سأكون ملعونا …سأكون ملعونا.”
انتظرا خمس دقائق ثم عشر دقائق حتى حل الظلام في رأسيهما وشبكة عينيهما المتألمة وكأن بها مليون ذرة من الملح الناري . كان عليهما أن يغلقا عينيهما.
بادرته قائلة :” حسنا . الآن علينا أن ندخل.”
لم يقو على الحركة . امتدت يده فقط على مسافة طويلة لوحدها لتجد مقبض جزازة العشب. رأى ما فعلته يده وقال : ” هناك فقط القليل الذي عليّ فعله….”
أجابته قائلة : ” لكنك لا تستطيع أن ترى .”
رد قائلا : ” حسنا فقط علي أن أنهي هذه بعدها سوف نجلس على الشرفة قبل أن ندخل .”
وساعدها على وضع الكراسي على الشرفة ، وأجلسها . ثم انسحب عائدا ليضع يده على دليل العمل لجزازة العشب . جزازة العشب . دولاب داخل دولاب . ألة بسيطة تمسك بها برباط وترسلها نحو الأمام بقوة وضجيج وأنت تمشي خلفها بفلسفتك الهادئة . مثل مضرب التنس يتبعه صمت دافئ. الدولاب يدور ثم تخطر ببالك فكرة صغيرة ناعمة .
قال في نفسه :” عمري مليار سنة عمري دقيقة واحدة بوصة واحدة . كلا . طولي عشرة الآف ميل .أنظر نحو الأسفل ولا أستطيع أن أرى قدمي . إنهما بعيدتان ، لقد ذهبتا بعيدا جدا نحو الأسفل .
حرك جزازة العشب . بدأ العشب يتطاير حوله بنعومة ، شعر بالسعادة والراحة وشعر أنه و كأن كل الإنسانية تستحم أخيرا بالمياه العذبة لنافورة الشباب.
وهكذا استحم وتذكر الأغنية عن العجلات والايمان وسمو الله لأنه في العلالي وسط السماء حيث يتواجد ذلك النجم الوحيد الذي ينتصب وسط ملايين النجوم الراكدة بلا حراك ويتجرأ أن يتحرك ويستمر في الحركة .
ثم أنهى جز العشب .
العنوان الأصلي والمصدر :
THE END OF THE BEGINNING , Ray Bradbury, (Short stories) 1969.