محمود درويش - سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا

يجيئون،
أبوابُنا البحرُ، فاجأنا مطرٌ. لا إله سوى الله. فاجأنا
مطرٌ و رصاصٌ. هنا الأرضُ سُجّادةٌ، و الحقائب
غربهْ!
يجيئون،
فلتترجّلْ كواكبُ تأتي بلا موعد. و الظهورُ التي
استندتْ للخناجر مضطرة للسقوط
و ماذا حدث ؟
أنت لا تعرف اليوم. لا لون. لا صوت. لا طعم
لا شكل.. يُولد سرحان، يكبر سرحان،
يشرب خمراً و يسكُرّ. يرسم قاتله، و يمزِّق
صورته. ثم يقتله حين يأخذ شكلا أخيراً
و يرتاح سرحان:
سرحان! هل أنت قاتل ؟
و يكتب سرحان شيئاً على كُمِّ معطفه، ثمَّ تهرب
ذاكرةٌ من ملفَّ الجريمة.. تهرب.. تأخذ
منقار طائر.
و تأكل حبة قمح بمرج بن عامر
و سرحان مُتّهم بالسكوت، و سرحان قاتل
***
و ما كان حُبّاً
يدان تقولان شيئاً، و تنطفئان
قيودٌ تلد
سجون تلد
منافٍ تلد
و نلتفُّ باسمكِ.
ما كان حُبّاً
يدان تقولان شيئاً.. و تنطفئان
و نعرف، كُنّا شعوباً و صرنا حجارة
و نعرف كنتِ بلادا و صرتِ دخان
و نعرف أشياء أكثر
نعرف، لكنّ كل القيود القديمة
تصير أساور ورد
تصير بكارهْ
في المنافي الجديدة
و نلتفُّ باسمك
ما كان حُبّاً
يدان تقولان شيئاً و تنطفئان.
و سرحان يكذب حين يقول رضعتُ حليبك، سرحان
من نسل تذكرة، و تربّى بمطبخ باخرة لم تلامس
مياهكِ. ما اسمك؟
_نسيت .
و ما اسم أبيك ؟
_نسيت
و أمك
_نسيت
و هل نمت ليلةَ أمس ؟
_لقد نمتُ دهراً
حلمت ؟
_كثيراً
بماذا
_بأشياء لم أرها في حياتي
و صاح بهم فجأة :
_لماذا أكلتم خضاراً مُهرّبة من حقول أريحا؟
_لماذا شربتم زيوتاً مهربَّة من جراح المسيح؟
و سرحانُ متّهم بالشذوذ عن القاعدة
***
رأينا أصابعه تستغيث. و كان يقيس السماء بأغلاله
زرقةُ البحر يزجرها الشرطيّ، يعاونه خادم آسيويّ،
بلاد تغّير سكانها، و النجوم حصى
و كان يغنّي مضى جيلنا و انقضى.
مضى جيلنا و انقضى.
و تناسل فينا الغُزاةُ تكاثر فينا الطغاة. دم كالمياه.
و ليس تجفّفه غير سورة عم و قبعةِ الشرطيّ
و خادمهِ الآسيوي. و كان يقيس الزمان بأغلاله
سألناه: سرحان عمَّ تساءلت؟
قال: اذهبوا، فذهبنا
إلى الأمهات اللواتي تزوّجن أعداءنا.
و كنّ ينادين شيئاً شبيهاً بأسمائنا.
فيأتي الصدى حَرَساً
ينادين قمحاً
فيأتي الصدى حَرَساً
ينادين عدلاً
فيأتي الصدى حَرَساً.
ينادين يافا
فيأتي الصدى حرساً
و من يومها، كفَّت الأمهات عن الصلوات و صرنا
نقيس السماء بأغلالنا
و سرحان يضحك في مطبخ الباخرة
يعانق سائحة، و الطريق بعيدٌ عن القدس و الناصرة
و سرحان مُتّهم بالضياع و بالعدميَّة
***
و كلّ البلاد بعيدهْ .
شوارعُ أخرى اختفت من مدينته ( أخبرتهُ الأغاني
و عزلتُهُ ليلة العيد أن له غرفة في مكان)
ورائحةُ البنِّ جغرافيا
و ما شرَّدوك.. و ما قتلوك .
أبوك احتمى بالنصوص، و جاء اللصوص
و لست شريداً.. و لست شهيداً.. و أُمك باعت
ضفائرها للسنابل و الأمنيات:( و فوق سواعدنا
فارسٌ لا يسلِّم (وشم عميق ). و فوق أصابعنا
كرمةٌ لا تهاجر ( وشم عميق )
خُطى الشهداء تُبيدُ الغزاة
(نشيد قديم)
و نافذتان على البحر يا وطني تحذفان المنافي..وأرجع
(حلم قديم –جديد)
شوارع أخرى اختفت من مدينته ( أخبرته الأغاني
و عزلته ليلة العيد أن له غرفة في مكان ).
و رائحةُ البُنِّ جغرافيا
و رائحة البن يدْ
و رائحة البن صوت ينادي.. و يأخذ
رائحة البن صوت و مئذنة (ذات يوم تعود).
و رائحة البن ناي تزغرد فيه مياه المزا ريب ينكمش
الماء يوماً و يبقى الصدى .
و سرحان يحمل أرصفةً و نواديْ و مكتبَ حجز التذاكر
سرحان يعرف أكثر من لغة و فتاه. و يحمل تأشيرة
لدخول المحيط و تأشيرة للخروج و لكنّ سرحانَ
قطرة دم تفتِّش عن جبهة نزفتها.. و سرحان
قطرة دم تفتّش عن جثة نسيتها.. و أين ؟
و لست شريداً.. و لست شهيداً
و رائحة البن جغرافيا.
و سرحان يشرب قهوته ..
و يضيع
****
هنا القدس .
يا امرأة من حليب البلابل كيف أُعانق ظلّي
و أبقى ؟
خُلقتَ هنا.. و تنامُ هناك
مدينته لا تنام و أسماؤها لا تدوم. بيوت تغيَّر
سكانها. و النجوم حصى .
و خمسُ نوافذ أخرى، و عشر نوافذ أخرى تغادر
حائط
و تسكن ذاكرةً.. و السفينةُ تمضي .
و سرحان يرسم شكلاً و يحذفه: طائرات وربُّ قديم
و نابالم يحرق وجهاً و نافذة.. و يؤلف دولهْ .
هنا القدس .
يا امرأة من حليب البلابل كيف أعانق ظلي..
و أبقى؟
و لا ظلّ للغرباء.
مساءٌ يرافقهم، و المساء بعيد عن الأمهات قريب من
الذكريات. و سرحان لا يقرأ الصحف العربية...
لا يعرف المهرجانات و التوصيات.فكيف إذن
جاءه الحزن.. كيف تقيّأ ؟
و ما القدس و المدن الضائعة
سوى ناقة تمتطيها البداوة
إلى السلطة الجائعة
و ما القدس و المدن الضائعة
سوى منبر للخطابة
و مستودعٍ للكآبة
و ما القدس إلاّ زجاجة خمر و صندوق تبغ
..و لكنها وطني .
من الصعب أن تعزلوا
عصير الفواكه عن كريات دمي ..
و لكنها وطني
من الصعب أن تجدوا فارقاً واحداً
بين حقل الذرة
و بين تجاعيد كفيّ
و لكنها وطني..
لا فوارق بين المساء الذي يسكن الذاكرة
و بين المساء الذي يسكن الكر ملا
و لكنها وطني
في الحقيقة و الدم متَّسع للجميع
و خط الطباشير لا يكسر المطر المقبلا
هنا القدس ..
كيف تعانق حريتي_ في الأغاني_ عبوديتي ؟
و سرحان يرسم صدراً و يسكنه
و سرحان يبكي بلا ثمن ووسام
و يشرب قهوته.. و يضيع
***
يُمَزَّقُ غيماً، و يرسله في اتجاه الرياح. و ماذا؟ هنالك
غيم شديد الخصوبة. لا بُدَّ من تربة صالحه
أتذهب صيحاتنا عبثاً؟
أكلتَ.. شربتَ.. و نمتَ.. حلمت كثيراً. أفقتْ
تعلمت تصريف فعل جديد. هل الفعل معنى بآنية
الصوت.. أم حركه؟
و تكتب ض. ظ. ق. ص. ع. و تهرب منها، لأن
هدير المحيطات فيها و لا شيء فيها ضجيج الفراغ
حروف تميزنا عن سوانا_ طلعنا عليهم طلوع
المنون- فكانوا هباء و كانوا سدىَّ. سدىَّ نحن
هم يحرثون طفولتنا و يصكون أسلحة من أساطير
أعلامهم لا تغني و أعلامنا تجهضُ الرعد نقصفهم بالحروف
السمينة ض.ظ.ص.ق.ع ثم نقول انتصرنا و ما
الأرض؟ ما قيمة الأرض؟ أتربة ووحول نقاتل أو لا نقاتل ؟
ليس مهماً سؤالك ما دامت الثورةُ العربيةُ محفوظةً في الأناشيد
و العيد و البنك و البرلمان
و تعرف أن الغزاة عِصِيٍّ بأيدي المماليك تكتب
ض. ظ . ق .ص . ع
تمزق غيماً و ترسله في اتجاه الرياح و ماذا؟ هنالك
غيم شديد الخصوبة. لا بد من تربة صالحه
و تمضي السفينة. تبقى غريباً. جراحك مطبعة للبلاغات
و التوصيات. و باسك تنتصر الأبجديةُ. باسمك
يجلس عيسى إلى مكتب ويوقع صفقة خمر و أقمشة
و يحيى العساكر باسمك. تُحفظ في خيمة
و تُعلَّب في خيمة. لا هوية إلاّ الخيام. إذا
احترقت.. ضاع منك الوطن
و باسمك تأتي و تذهب.باسمك حطّين تصبح مزرعةً
للحشيش، و ثوّارك السابقون سعاة بريدٍ. و باسمك
لا شيء. يأتي القضاة، يقولون للطين كن جبلاً
شامخاً فيكون. يقولون للترعة انتفخي أنهراً فتكون
و تكتب ض. ظ .ص .ع . ق
تُمزِّق غيما و ترسله في اتجاه الرياح، و ماذا ؟
هنالك غيم شديد الخصوبة. لا بدّ من تربة صالحه
أتذهب صيحاتنا عبثاً؟
و ليست خيامك ورد الرياح. و ليست مظلات شاطئ.
تَدجَّجْ بأعمدة الخيمة. احترقي يا هويَّتنا_ صاح لاجئ
و سرحان يشرب قهوته. للجليل مزايا كثيرة
و يحلم، يحلم، يحلم.. آه_ الجليل!
***
و من كفّ يوماً عن الاحتراق
أعارَ أصابعه للضماد
و صرَّح للصحفيِّ و للعدسات:
جريح أنا يا رفاق
و نال وساماً.. و عاد
و سرحانُ ،
ما قال جرحيَ قنديلُ زيتٍ و ما قال ..
صدريَ شبُّاك بيتٍ و ما قال..
جلديَ سجّادة للوطن
و ما قال شيئاً..
أتذهب صيحاتنا عبثاً ؟
كل يوم نموت ،و تحترق الخطوات و تولد عنقاء
ناقصة ثم نحيا لنُقتل ثانيةً
يا بلادي، نجيئك أسرى و قتلى.
و سرحان كان أسير الحروب، و كان أسير السلام
على حائط السَّبْي يقرأ أنباء ثورته خلف ساق مغنّيةٍ
و الحياةُ طبيعيَّة، و الخضار مهرَّبة من جباه العبيد
إلى الخطباء، و ما الفرق بين الحجارة و الشهداء؟
و سرحان كان طعام الحروب، و كان طعام السلام .
على حائط السَّبي تعرض جثَّته للمزاد. و في المهجر
العربي يقولون: ما الفرق بين الغزاة و بين الطغاة؟
و سرحان كان قتيل الحروب، و كان قتيل السلام.
على حائط السَّبي يصطدم العلم الوطني بأحذية الحرس
الملكي . وحربك حربان. حربك حربان
سرحان! لا شيء يبقى، و لا شيء يمضي. اغتربتَ ..
لجأتَ.. عرفت. و لست شريداً و لست شهيداً
خيامك طارت شراره.
و في الريح متَّسعٌ
هل قَتَلت؟
و يسكت سرحان يشرب قهوته و يضيع و يرسم
خارطة لا حدود لها و يقيس الحقول بأغلاله
-هل قتلت؟
و سرحان لا يتكلم .يرسم صورةَ قاتله من جديد،
يمزّقها، ثم يقتلها حين تأخذ شكلاً أخيراً..
_قتلت ؟
و يكتب سرحان شيئاً على كُمِّ معطفه، ثم تهرب
ذاكرة من ملفّ الجريمة.. تهرب.. تأخذ منقار
طائر
و تزرع قطرة دم بمرج بن عامر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...