«إن الإشفاق وسيلة إقناع بالعدم!»
فريدريش نيتشه ــ «نقيض المسيح»
حمل يد الشيخ المريض فانتقل إليه برد أطراف تزداد موتاً يوماً بعد آخر، تحاشى النظر إليه بعدما لمح دموعاً تنساب من طرفَي عينيه. شعرت يده فجأة بأن نبض العجوز يتضاعف، نظر إليه، اغتنم العجوز الفرصة، كتم الآلام الفظيعة وجاهد ليبوح له بما قد صار أمنيته الوحيدة:
ــ حبّاً بالله ورفقاً بي يا ولدي، أرجوك، أتوسل إليك... أنهِ عذاباتي، ضع حدّاً للجحيم الذي أعيشه!
أفلتَ يده من قبضة العجوز الواهنة، اتسعت حدقتاه واشتد نبضه هو الآن؛ في جسده، سرتْ قشعريرة أقامت كل شعرة فيه، شعر بقطرات عرق جارحة تعبر غابة الشعر الواقف. أما الرعب الذي تجلى في وجهه، فجعل حتى العجوز المتهالك يبتعد بنظراته المتوسلة الذليلة.
***
خرج في جولته الصباحية المعتادة متسلقاً الأَكَمَة التي يخترقها شجر الزيتون صعوداً ونزولاً، قرية «أكواروني» ترتدي أبهى حللها في الصباح حيث نسائم المتوسط الهابّة على صقلية. «نسيم له رائحة الناصرة القديمة»، دائماً ما كان يخطر هذا في باله عندما تمتزج في أنفه رائحة الملح والزيتون والأرض. عبثاً، كان يحاول الحفاظ على نظافة عباءته السوداء، فكانت تصطبغ دائماً بذلك اللون البنيّ، لون تربة صقلية الخصبة. إنه جينّارو، أو السان جينّارو كما يسميه الناس في القرية لأصوله النابوليتانية (*).
اشتد به ألم لحق بإصبعه الجريح، فنزل من الجهة الأخرى وعيناه تتفقدان تلك الحبوب الأرجوانية. حاول إقناع نفسه بأن إصبعه هو ما يؤلمه حقاً في هذا الصباح السحري، كي لا يتذكر والده المسكين. أشفق على الشيخ المريض الذي يقاسي منذ عام آلاماً رهيبة، وجزع عليه من التجديف الذي تفوّه به هذا الصباح. كيف تخيل العجوز أن ابنه الوحيد البارّ، الراهب الذي نذر نفسه للربّ، سيقدر على أن يزهق روحه؟!
بينما كان يتلو صلاة لأجله، سمع جلبة فاتّبع الصوت، ألفى مانفرديني الابن يفرغ السلال من عربة الحصان. كان الحصان هائجاً ويصيح متألماً. أصيبت ساقه بكسر فظيع جعل أسفل رجله يتدلى. هبّ جينارو نحوهما:
ــ لقد نزلت المنحدر بسرعة يا أبتِ... لست أدري كيف حصل كل هذا. قال مانفرديني الابن متداركاً.
أمسك جينّارو بلجام الحصان، وجعل يهدّئ من روعه. أمر مانفرديني بتحريره من العربة، جمع بعض العيدان اليابسة الصلبة ولفّها حول الساق الكسيرة بمزق عباءته السوداء:
ــ انزل إلى القرية، اجلب عربة وبعض الرجال كي ننقل الحيوان إلى الدير، فأجبّره على نحو لائق.
ما إن توارى الفتى في المنحدر، حتى أسرع جينارو مبتعداً عن الحصان. جَثَا على ركبتيه وقَاءَ ما بجوفه. لجينارو قلب مرهف لا يحتمل مشاهدة مناظر الكسور والجروح. التفت نحو الحصان الذي عاوده الألم، فحمل على نفسه ورجع يحتضنه، شعر بأنفاس الحصان اللاهثة وبقلبه النابض، ذكّرته آلام الحيوان بمصاب والده. أحكم عناق الحيوان، في حين فزّت دموع حارّة من عينيه الزرقاوين.
***
اعتقد أهل أكواروني بجينّارو وصلاحه، رأوا فيه قدّيساً مستعاداً من بطون الكتب المقدسة. أما قُدّاسه فذلك ما حرص جميعهم على حضوره؛ بل إن بعض سكان القرى المجاورة كانوا يتسللون إلى أكواروني كل أحد لحضور خطب أحد الحواريين المنسيين.
جلس في مكتبه بعد قُدّاس يوم أحد عادي، سمع طَرقاً على الباب، فأذِن بالدخول، لم يكن سوى صديقه القديم بيليغريني، عانقه عناقاً حاراً يليق بعدد السنين التي باعدت بينهما ثم دعاه للجلوس. عرف جينارو أن صديقه مبعوث من كنيسة باليرمو خصيصاً لمقابلته، وتسليمه نسخة من كتاب جديد بعثت به أسقفية روما طالبة الاطلاع على محتواه.
ــ ولكن لماذا أنا بالتحديد؟ سأل جينارو صديقه متسلّماً الكتاب.
ــ لأنه كُتِب بالألمانية. والجميع هنا وحتى في روما يدركون إتقانك الكبير لهذه اللغة، كما أن إسهاماتك في الفهرست (**) لا تخفى على أحد.
ــ لكنني أرى أن عنوانه بالإيطالية.
ــ صحيح، لكنني أجهل السبب، ربما لأنه يعيش في إيطاليا، في تورينو على ما أظن. قفل بيليغريني راجعاً إلى باليرمو بعدها بساعات. أما جينارو، فقد سهر الليل في مخدعه يقلّب الكتاب، لقد أنساه حتى صرخات والده المريض؛ قرأه مرات عديدة وكان كل مرة يقف عند نفس الجملة: «أتعلم أين تكمن أعظم مخاطرك؟ إنها في الشفقة»!
***
طوال حياته، تصرف جينّارو بحذر مع الكتب؛ كان يدرك، مثلنا تماماً، أن «في كثرة الحكمة كثرة الغمّ، وكل من ازداد منّا علماً، سيتضاعف ألمه» لا محالة. أفي هذا ما يجعل كثيراً من الناس يحجمون عن قراءة الكتب؟ ربما، مهما يكن من أمر، فإن جينّارو سجّل تلك العبارة في قصاصة ثم ثبتها على جداريّته.
في الصباح، عمد جينارو الى التخلص من الكتاب حرقاً، غير أن النار لم تأت على الحيرة التي أورثها له. في ظرف عصيب مثل هذا، لنقل ببساطة إن جينّارو لم يشأ أن يفسر حيرته أو يواجهها. أما كاتب النص، فقد فشل جينّارو أيضاً في إخفاء إعجابه به؛ بالرغم من أنه قرأ للكثير من الألمان ولغيرهم، إلا أن لغة هذا الكاتب أذهلته، هزته، لكن الأهم أنها طوّحت بشيء ما بداخله، بطمأنينة ظل مستكيناً إليها زمناً طويلاً؛ ذكّرته بلغة الحواريين «كيف يمكن لبشر زائل ومجدف أن يستلهم الحرف المقدس؟ لو قُدّر أن يكون هنالك إنجيل خامس، لكتبه شخص مثل هذا»! انتبه لفداحة الأفكار التي بدأت تختمر في رأسه، تأمل تلك القصاصة، تملّكته رهبة شديدة، فشرع يردد صلاته: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض...».
عرّج على والده بعدما خفّ صراخه فجأة، وجده مستلقياً على فراشه، هل هو ميت أخيراً؟ أم لعله نائم فقط؟ بالرغم من أنها ثوان قليلة، إلا أن جينّارو خبر فيها كل شعور متناقض يعرفه. كثيراً ما كان الابن البّار يدعو في صلاته أن يخلص الربّ الرحيم أباه ويقبض روحه. لكن العجوز كان يتنفس، تسلل جينّارو كي لا يوقظه خشية أن يعيد عليه تلك الأمنية المحرمة، التي هي للمفارقة أمنية جينّارو السريّة، غير أن الربّ الحكيم له، هذه المرة كذلك، مشيئة أخرى!
اتجه إلى مكتبه ليصوغ تقريره حول الكتاب. وجب وضعه في الفهرست إذاً. تناول فطوره الصباحي، صبّ من زيت الزيتون الذي يهديه له آل مانفرديني دوماً، «إنه زيتون لا سيشيليا الذي لا يُعلى عليه أبداً». شعر مجدداً بألم إصبعه المنتفخ وقد أفسد عليه طقوسه الصباحية، تأمله فهاله لونه المخيف، ورأى أن زيارة الطبيب أصبحت واجبة.
عند وصوله إلى عيادة الطبيب ماسيميليانو، وجد أمامه عدداً من سكان القرية، قاموا لتحيته علّهم ينالون شيئاً من بركته. رفض بادئ الأمر الدخول قبلهم، غير أنهم أصرّوا، دخل جينّارو، فقام الطبيب لتحيته ودعاه للجلوس.
أرجع الناس في القرية دماثة الطبيب ووداعته إلى أصله النبيل في روما. كان ماسيمليانو الشاب مجتهداً بارعاً في مهنته. كثيراً ما رأى جينارو فيه شيئاً من الشاب الذي كانه قبل أن يسلك سبيل الرهبنة؛ حركات يديه، طريقة كلامه، دفؤه؛ كل هذا دفع بسكان أكواروني هم أيضاً إلى عقد مقارنات بين الرجلين. في النهاية، استخلصوا أن البركة هي أكثر ما يجمعهما.
وضع ماسيمليانو غليونه جانباً بعدما أذهلته حالة الإصبع، تسللت ريبة إلى نفس جينّارو فتدارك الطبيب الموقف:
- لا تقلق يا أبتِ، سننظف الجرح ونضمده، على أن تعود لي غداً.
قام الطبيب بمحاولة علم مسبقاً أنها يائسة، أدرك أن الحل الوحيد هو بتر ذلك الإصبع، قبل أن تتدهور حالته فيضطروا إلى قطع اليد كلها. كان يعرف طباع جينّارو جيّداً، وعلم أن إقناعه ببتر إصبعه أمر قد يكون مستحيلاً.
في الصباح، عاد جينّارو باكراً ليتجنب إحراج الناس. دخل على الطبيب فعلم أنه يخفي شيئاً ما. حاول جينّارو التخفيف عنه وطلب منه بأن يصارحه:
ــ لا تشفق على الراهب الكهل يا بنيّ. قل ما عندك، فلقد خبرت في حياتي مشاقَّ كثيرة.
حدث ما توقعه الطبيب. كان الأمر صادماً جدّاً للقسّ جينّارو. راح الشاب يستعمل كل ما أوتي من حيل لإقناعه بضرورة بتر الإصبع، قبل أن يتفشى الأمر على طول الذراع وبعد ذلك في كل الجسد. نظر جينّارو إلى إصبعه، فلم يستطع تخيل الفكرة ولا تحملها:
ــ ولكننا لم نداوه إلا البارحة فقط.
ــ لقد ترددت في إخبارك أمس، لكن صدقني يا أبتِ، ليس هنالك من حلّ آخر.
ــ إنني أشفق على هذا الإصبع الذي طالما احتضن السبحة والصليب، هذا الإصبع لم يقم بمعصية البتة، أفيكون هذا جزائي له؟
ــ أتفهم شعورك يا أبتِ، إلا أننا في الطبّ لا نقيس الأمور بمثل هذه المشاعر. لو وُجدت لدينا أو لدى الأولين مثل هذه الشفقة، ما كنا لنصل إلى هذا التقدم الذي نحن عليه اليوم. لدينا قوانين نتبعها وهدفنا كان دائماً حماية الجسد السليم من كل ما يتهدد صحته، ولو كان عضواً منه، وهذه هي حالتك يا أبتِ.
لم يكن كلام الطبيب الشاب خافياً أو جديداً على جينّارو. لكنه اليوم يبدو، من فم شاب كانه جينارو في الماضي، أكثر حقيقة وقرباً. تذكّر تلك القصاصة المعلّقة في مكتبه، مرّ أمامه شريط استعاد فيه كل حياته التي صار ينظر إليها عبر تلك القصاصة. قام جينارو فجأة من مكانه، تناول الغليون الموضوع على المكتب، سحب أنفاساً عميقة، ثم مدّ يده على الطاولة وأشار على الطبيب الذهِل بأن يباشر عمله.
***
عاد إلى كنيسته مباشرة، فتح بابها وشاهد تلك التماثيل والصلبان، شعر بأنه يجوس بها لأول مرة؛ بإصبع مقطوعة، ويد أصبحت منقوصة وجسد شوّهه مشرط الحديد، بدا له كل شيء غريباً. الرسوم الجدارية، الحمام المعشش في الأرجاء، دموع الشمع المنسكبة في الزوايا، حتى وجه الربّ صارت له ملامح مُنكرة؛ ودّ أن يصرخ ولم يكن يدري لأي سبب بالضبط، هل جراء آلام إصبعه أم جراء ما بدأ يعتمل في صدره؟ أم من أجل والده الذي تنبع صرخاته الآن من أعماق ألم فظيع؟ لم يجد الإجابة هنا، فقرر الدخول إلى مكتبه ليتأمل تلك القصاصة ويبحث في حضرتها عما يطفئ الحرائق التي اشتعلت بداخله.
في مكتبه، وقف صديقه بيليغريني يتأمل تلك القصاصة حاملاً كتاباً في يده، فتح جينارو الباب بعنف، ذهل بيليغريني لمرأى صديقه القديم، حاول جينّارو إخفاء يده الجريحة واصطناع ملامح أخرى، في حين باشره صديقه:
ــ أرجو أن تعذرني على التطفل، فقد سمحت لنفسي بالدخول.
ــ لا عليك يا حاج (***)، أنت في كنيستك...
ــ لا شكّ أنك تتساءل ما الذي دفعني للعودة بهذه السرعة ها؟ لقد جئتك بخبر سيسرّ كل المؤمنين، لقد تم وضعه في الفهرست.
ــ من؟
ــ ذلك الكاتب الألماني الذي سلمتك نسخة من كتابه، وبيدي الآن نسخة أخرى لنفس الكاتب الكافر، تخيل أن عنوانه...
ــ أرجو أن تعفيني من هذا، لا أخفيك سراً إذا قلت إن ألمانيتي صارت ضعيفة. وما دام الأمر قد قُضِي، فلا داعي لقراءة مثل هذه الكتب.
ــ معك حق. على كل، لقد لَقِي الكاتب ما يستحقه، لقد جنّ وأصبح كالبهيمة.
ــ حقا؟ ولكن لماذا؟
ــ أتسأل حقاً؟ إنه مهرطق ملعون وهذا جزاؤهم من عند الربّ.
ــ قصدت ما الذي تسبّب في جنونه؟
ــ سمعت من أناس قدموا من الشمال، أنه قد جنّ عند قدمي حصان.
ــ حصان؟!
ــ لقد كان الحصان يتعرض للتعذيب من طرف مالكه، لم يستطع هذا الكافر تحمل الأمر، فسقط عند قدمي الحصان وكذلك سقط عقله الوثني.
قام فجأة جينّارو ومشى في حركة لاإرادية إلى حيث عُلّقت القصاصة، وجعل يتأمل فيها.
***
بعد أيام قليلة، توفي الشيخ المريض. في الصف الأول داخل كنيسة أكواروني، جلس جينّارو بعباءته السوداء مستمعاً لعِظة صديقه بيليغريني. قدم هذا الأخير من باليرمو نزولاً عند طلب من رفيقه. الكل في القرية، وحتى بيليغريني نفسه، استغربوا إحجام جينّارو عن إلقاء خطبة في جنازة والده. لم ينبس جينّارو ببنت شفة منذ أن مات والده، كما لم ير أحد دموعه. عكسنا نحن، جهِل الناس في أكواروني سبب حاله الغريبة هذه، وهمس بعضهم: أين هي دموع السان جينّارو المبارك على والده المسكين؟ جلس القسّ جينّارو بملامح باردة، قبالة التابوت المُشرع، حيث طبعت وجهَ العجوز المسجّى ابتسامة. ابتسامة فشل جينّارو في أن يخفيها عن أعين المعزّين.
السبت 24 كانون الأول 2016
محمد الصالح قارف
* كاتب جزائري
(*): نسبة إلى مدينة نابولي جنوب إيطاليا.
(**): Index وهي قائمة الكتب المحرّمة من قبل الكرسي الرسولي.
(***): معنى كلمة بيليجيرني بالإيطالية.
* السـان جـيـنّارو
فريدريش نيتشه ــ «نقيض المسيح»
حمل يد الشيخ المريض فانتقل إليه برد أطراف تزداد موتاً يوماً بعد آخر، تحاشى النظر إليه بعدما لمح دموعاً تنساب من طرفَي عينيه. شعرت يده فجأة بأن نبض العجوز يتضاعف، نظر إليه، اغتنم العجوز الفرصة، كتم الآلام الفظيعة وجاهد ليبوح له بما قد صار أمنيته الوحيدة:
ــ حبّاً بالله ورفقاً بي يا ولدي، أرجوك، أتوسل إليك... أنهِ عذاباتي، ضع حدّاً للجحيم الذي أعيشه!
أفلتَ يده من قبضة العجوز الواهنة، اتسعت حدقتاه واشتد نبضه هو الآن؛ في جسده، سرتْ قشعريرة أقامت كل شعرة فيه، شعر بقطرات عرق جارحة تعبر غابة الشعر الواقف. أما الرعب الذي تجلى في وجهه، فجعل حتى العجوز المتهالك يبتعد بنظراته المتوسلة الذليلة.
***
خرج في جولته الصباحية المعتادة متسلقاً الأَكَمَة التي يخترقها شجر الزيتون صعوداً ونزولاً، قرية «أكواروني» ترتدي أبهى حللها في الصباح حيث نسائم المتوسط الهابّة على صقلية. «نسيم له رائحة الناصرة القديمة»، دائماً ما كان يخطر هذا في باله عندما تمتزج في أنفه رائحة الملح والزيتون والأرض. عبثاً، كان يحاول الحفاظ على نظافة عباءته السوداء، فكانت تصطبغ دائماً بذلك اللون البنيّ، لون تربة صقلية الخصبة. إنه جينّارو، أو السان جينّارو كما يسميه الناس في القرية لأصوله النابوليتانية (*).
اشتد به ألم لحق بإصبعه الجريح، فنزل من الجهة الأخرى وعيناه تتفقدان تلك الحبوب الأرجوانية. حاول إقناع نفسه بأن إصبعه هو ما يؤلمه حقاً في هذا الصباح السحري، كي لا يتذكر والده المسكين. أشفق على الشيخ المريض الذي يقاسي منذ عام آلاماً رهيبة، وجزع عليه من التجديف الذي تفوّه به هذا الصباح. كيف تخيل العجوز أن ابنه الوحيد البارّ، الراهب الذي نذر نفسه للربّ، سيقدر على أن يزهق روحه؟!
بينما كان يتلو صلاة لأجله، سمع جلبة فاتّبع الصوت، ألفى مانفرديني الابن يفرغ السلال من عربة الحصان. كان الحصان هائجاً ويصيح متألماً. أصيبت ساقه بكسر فظيع جعل أسفل رجله يتدلى. هبّ جينارو نحوهما:
ــ لقد نزلت المنحدر بسرعة يا أبتِ... لست أدري كيف حصل كل هذا. قال مانفرديني الابن متداركاً.
أمسك جينّارو بلجام الحصان، وجعل يهدّئ من روعه. أمر مانفرديني بتحريره من العربة، جمع بعض العيدان اليابسة الصلبة ولفّها حول الساق الكسيرة بمزق عباءته السوداء:
ــ انزل إلى القرية، اجلب عربة وبعض الرجال كي ننقل الحيوان إلى الدير، فأجبّره على نحو لائق.
ما إن توارى الفتى في المنحدر، حتى أسرع جينارو مبتعداً عن الحصان. جَثَا على ركبتيه وقَاءَ ما بجوفه. لجينارو قلب مرهف لا يحتمل مشاهدة مناظر الكسور والجروح. التفت نحو الحصان الذي عاوده الألم، فحمل على نفسه ورجع يحتضنه، شعر بأنفاس الحصان اللاهثة وبقلبه النابض، ذكّرته آلام الحيوان بمصاب والده. أحكم عناق الحيوان، في حين فزّت دموع حارّة من عينيه الزرقاوين.
***
اعتقد أهل أكواروني بجينّارو وصلاحه، رأوا فيه قدّيساً مستعاداً من بطون الكتب المقدسة. أما قُدّاسه فذلك ما حرص جميعهم على حضوره؛ بل إن بعض سكان القرى المجاورة كانوا يتسللون إلى أكواروني كل أحد لحضور خطب أحد الحواريين المنسيين.
جلس في مكتبه بعد قُدّاس يوم أحد عادي، سمع طَرقاً على الباب، فأذِن بالدخول، لم يكن سوى صديقه القديم بيليغريني، عانقه عناقاً حاراً يليق بعدد السنين التي باعدت بينهما ثم دعاه للجلوس. عرف جينارو أن صديقه مبعوث من كنيسة باليرمو خصيصاً لمقابلته، وتسليمه نسخة من كتاب جديد بعثت به أسقفية روما طالبة الاطلاع على محتواه.
ــ ولكن لماذا أنا بالتحديد؟ سأل جينارو صديقه متسلّماً الكتاب.
ــ لأنه كُتِب بالألمانية. والجميع هنا وحتى في روما يدركون إتقانك الكبير لهذه اللغة، كما أن إسهاماتك في الفهرست (**) لا تخفى على أحد.
ــ لكنني أرى أن عنوانه بالإيطالية.
ــ صحيح، لكنني أجهل السبب، ربما لأنه يعيش في إيطاليا، في تورينو على ما أظن. قفل بيليغريني راجعاً إلى باليرمو بعدها بساعات. أما جينارو، فقد سهر الليل في مخدعه يقلّب الكتاب، لقد أنساه حتى صرخات والده المريض؛ قرأه مرات عديدة وكان كل مرة يقف عند نفس الجملة: «أتعلم أين تكمن أعظم مخاطرك؟ إنها في الشفقة»!
***
طوال حياته، تصرف جينّارو بحذر مع الكتب؛ كان يدرك، مثلنا تماماً، أن «في كثرة الحكمة كثرة الغمّ، وكل من ازداد منّا علماً، سيتضاعف ألمه» لا محالة. أفي هذا ما يجعل كثيراً من الناس يحجمون عن قراءة الكتب؟ ربما، مهما يكن من أمر، فإن جينّارو سجّل تلك العبارة في قصاصة ثم ثبتها على جداريّته.
في الصباح، عمد جينارو الى التخلص من الكتاب حرقاً، غير أن النار لم تأت على الحيرة التي أورثها له. في ظرف عصيب مثل هذا، لنقل ببساطة إن جينّارو لم يشأ أن يفسر حيرته أو يواجهها. أما كاتب النص، فقد فشل جينّارو أيضاً في إخفاء إعجابه به؛ بالرغم من أنه قرأ للكثير من الألمان ولغيرهم، إلا أن لغة هذا الكاتب أذهلته، هزته، لكن الأهم أنها طوّحت بشيء ما بداخله، بطمأنينة ظل مستكيناً إليها زمناً طويلاً؛ ذكّرته بلغة الحواريين «كيف يمكن لبشر زائل ومجدف أن يستلهم الحرف المقدس؟ لو قُدّر أن يكون هنالك إنجيل خامس، لكتبه شخص مثل هذا»! انتبه لفداحة الأفكار التي بدأت تختمر في رأسه، تأمل تلك القصاصة، تملّكته رهبة شديدة، فشرع يردد صلاته: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض...».
عرّج على والده بعدما خفّ صراخه فجأة، وجده مستلقياً على فراشه، هل هو ميت أخيراً؟ أم لعله نائم فقط؟ بالرغم من أنها ثوان قليلة، إلا أن جينّارو خبر فيها كل شعور متناقض يعرفه. كثيراً ما كان الابن البّار يدعو في صلاته أن يخلص الربّ الرحيم أباه ويقبض روحه. لكن العجوز كان يتنفس، تسلل جينّارو كي لا يوقظه خشية أن يعيد عليه تلك الأمنية المحرمة، التي هي للمفارقة أمنية جينّارو السريّة، غير أن الربّ الحكيم له، هذه المرة كذلك، مشيئة أخرى!
اتجه إلى مكتبه ليصوغ تقريره حول الكتاب. وجب وضعه في الفهرست إذاً. تناول فطوره الصباحي، صبّ من زيت الزيتون الذي يهديه له آل مانفرديني دوماً، «إنه زيتون لا سيشيليا الذي لا يُعلى عليه أبداً». شعر مجدداً بألم إصبعه المنتفخ وقد أفسد عليه طقوسه الصباحية، تأمله فهاله لونه المخيف، ورأى أن زيارة الطبيب أصبحت واجبة.
عند وصوله إلى عيادة الطبيب ماسيميليانو، وجد أمامه عدداً من سكان القرية، قاموا لتحيته علّهم ينالون شيئاً من بركته. رفض بادئ الأمر الدخول قبلهم، غير أنهم أصرّوا، دخل جينّارو، فقام الطبيب لتحيته ودعاه للجلوس.
أرجع الناس في القرية دماثة الطبيب ووداعته إلى أصله النبيل في روما. كان ماسيمليانو الشاب مجتهداً بارعاً في مهنته. كثيراً ما رأى جينارو فيه شيئاً من الشاب الذي كانه قبل أن يسلك سبيل الرهبنة؛ حركات يديه، طريقة كلامه، دفؤه؛ كل هذا دفع بسكان أكواروني هم أيضاً إلى عقد مقارنات بين الرجلين. في النهاية، استخلصوا أن البركة هي أكثر ما يجمعهما.
وضع ماسيمليانو غليونه جانباً بعدما أذهلته حالة الإصبع، تسللت ريبة إلى نفس جينّارو فتدارك الطبيب الموقف:
- لا تقلق يا أبتِ، سننظف الجرح ونضمده، على أن تعود لي غداً.
قام الطبيب بمحاولة علم مسبقاً أنها يائسة، أدرك أن الحل الوحيد هو بتر ذلك الإصبع، قبل أن تتدهور حالته فيضطروا إلى قطع اليد كلها. كان يعرف طباع جينّارو جيّداً، وعلم أن إقناعه ببتر إصبعه أمر قد يكون مستحيلاً.
في الصباح، عاد جينّارو باكراً ليتجنب إحراج الناس. دخل على الطبيب فعلم أنه يخفي شيئاً ما. حاول جينّارو التخفيف عنه وطلب منه بأن يصارحه:
ــ لا تشفق على الراهب الكهل يا بنيّ. قل ما عندك، فلقد خبرت في حياتي مشاقَّ كثيرة.
حدث ما توقعه الطبيب. كان الأمر صادماً جدّاً للقسّ جينّارو. راح الشاب يستعمل كل ما أوتي من حيل لإقناعه بضرورة بتر الإصبع، قبل أن يتفشى الأمر على طول الذراع وبعد ذلك في كل الجسد. نظر جينّارو إلى إصبعه، فلم يستطع تخيل الفكرة ولا تحملها:
ــ ولكننا لم نداوه إلا البارحة فقط.
ــ لقد ترددت في إخبارك أمس، لكن صدقني يا أبتِ، ليس هنالك من حلّ آخر.
ــ إنني أشفق على هذا الإصبع الذي طالما احتضن السبحة والصليب، هذا الإصبع لم يقم بمعصية البتة، أفيكون هذا جزائي له؟
ــ أتفهم شعورك يا أبتِ، إلا أننا في الطبّ لا نقيس الأمور بمثل هذه المشاعر. لو وُجدت لدينا أو لدى الأولين مثل هذه الشفقة، ما كنا لنصل إلى هذا التقدم الذي نحن عليه اليوم. لدينا قوانين نتبعها وهدفنا كان دائماً حماية الجسد السليم من كل ما يتهدد صحته، ولو كان عضواً منه، وهذه هي حالتك يا أبتِ.
لم يكن كلام الطبيب الشاب خافياً أو جديداً على جينّارو. لكنه اليوم يبدو، من فم شاب كانه جينارو في الماضي، أكثر حقيقة وقرباً. تذكّر تلك القصاصة المعلّقة في مكتبه، مرّ أمامه شريط استعاد فيه كل حياته التي صار ينظر إليها عبر تلك القصاصة. قام جينارو فجأة من مكانه، تناول الغليون الموضوع على المكتب، سحب أنفاساً عميقة، ثم مدّ يده على الطاولة وأشار على الطبيب الذهِل بأن يباشر عمله.
***
عاد إلى كنيسته مباشرة، فتح بابها وشاهد تلك التماثيل والصلبان، شعر بأنه يجوس بها لأول مرة؛ بإصبع مقطوعة، ويد أصبحت منقوصة وجسد شوّهه مشرط الحديد، بدا له كل شيء غريباً. الرسوم الجدارية، الحمام المعشش في الأرجاء، دموع الشمع المنسكبة في الزوايا، حتى وجه الربّ صارت له ملامح مُنكرة؛ ودّ أن يصرخ ولم يكن يدري لأي سبب بالضبط، هل جراء آلام إصبعه أم جراء ما بدأ يعتمل في صدره؟ أم من أجل والده الذي تنبع صرخاته الآن من أعماق ألم فظيع؟ لم يجد الإجابة هنا، فقرر الدخول إلى مكتبه ليتأمل تلك القصاصة ويبحث في حضرتها عما يطفئ الحرائق التي اشتعلت بداخله.
في مكتبه، وقف صديقه بيليغريني يتأمل تلك القصاصة حاملاً كتاباً في يده، فتح جينارو الباب بعنف، ذهل بيليغريني لمرأى صديقه القديم، حاول جينّارو إخفاء يده الجريحة واصطناع ملامح أخرى، في حين باشره صديقه:
ــ أرجو أن تعذرني على التطفل، فقد سمحت لنفسي بالدخول.
ــ لا عليك يا حاج (***)، أنت في كنيستك...
ــ لا شكّ أنك تتساءل ما الذي دفعني للعودة بهذه السرعة ها؟ لقد جئتك بخبر سيسرّ كل المؤمنين، لقد تم وضعه في الفهرست.
ــ من؟
ــ ذلك الكاتب الألماني الذي سلمتك نسخة من كتابه، وبيدي الآن نسخة أخرى لنفس الكاتب الكافر، تخيل أن عنوانه...
ــ أرجو أن تعفيني من هذا، لا أخفيك سراً إذا قلت إن ألمانيتي صارت ضعيفة. وما دام الأمر قد قُضِي، فلا داعي لقراءة مثل هذه الكتب.
ــ معك حق. على كل، لقد لَقِي الكاتب ما يستحقه، لقد جنّ وأصبح كالبهيمة.
ــ حقا؟ ولكن لماذا؟
ــ أتسأل حقاً؟ إنه مهرطق ملعون وهذا جزاؤهم من عند الربّ.
ــ قصدت ما الذي تسبّب في جنونه؟
ــ سمعت من أناس قدموا من الشمال، أنه قد جنّ عند قدمي حصان.
ــ حصان؟!
ــ لقد كان الحصان يتعرض للتعذيب من طرف مالكه، لم يستطع هذا الكافر تحمل الأمر، فسقط عند قدمي الحصان وكذلك سقط عقله الوثني.
قام فجأة جينّارو ومشى في حركة لاإرادية إلى حيث عُلّقت القصاصة، وجعل يتأمل فيها.
***
بعد أيام قليلة، توفي الشيخ المريض. في الصف الأول داخل كنيسة أكواروني، جلس جينّارو بعباءته السوداء مستمعاً لعِظة صديقه بيليغريني. قدم هذا الأخير من باليرمو نزولاً عند طلب من رفيقه. الكل في القرية، وحتى بيليغريني نفسه، استغربوا إحجام جينّارو عن إلقاء خطبة في جنازة والده. لم ينبس جينّارو ببنت شفة منذ أن مات والده، كما لم ير أحد دموعه. عكسنا نحن، جهِل الناس في أكواروني سبب حاله الغريبة هذه، وهمس بعضهم: أين هي دموع السان جينّارو المبارك على والده المسكين؟ جلس القسّ جينّارو بملامح باردة، قبالة التابوت المُشرع، حيث طبعت وجهَ العجوز المسجّى ابتسامة. ابتسامة فشل جينّارو في أن يخفيها عن أعين المعزّين.
السبت 24 كانون الأول 2016
محمد الصالح قارف
* كاتب جزائري
(*): نسبة إلى مدينة نابولي جنوب إيطاليا.
(**): Index وهي قائمة الكتب المحرّمة من قبل الكرسي الرسولي.
(***): معنى كلمة بيليجيرني بالإيطالية.
* السـان جـيـنّارو