جودت جالي - القبر الجماعي.. قصة قصيرة

قال (ثويني) لعمال المجارف الذين يعملون داخل القبر الواسع:

- لا تنزلوا بالحفر عميقا .. أوشكت على الظهور ولا نريد إلحاق الضرر بها.

كانت نبرة صوته تشي بما يعتمل في صدره من إنزعاج حتى أنه لم يطق أن يلفظ كلمة جثث. تلفت يمنة ويسرة يراقب العمال وهم يرفعون التراب بمجارفهم ويلقونه خارج الحفرة الطويلة في تلك الأرض السبخة مترامية الأطراف، بعيدا عن البساتين التي إعتلى شريطها قاتم الخضرة الأفق الشرقي. تأفف رغما عنه بصوت مسموع. لم يكن يحب أن يشترك في هذا العمل، وفي هذا المكان.. في هذه الحفرة بالذات. لكن دائرة الآثار التي يعمل فيها كلفته بالمهمة كما كلفته من قبل بمهام مماثلة في مناطق مختلفة من المحافظة...

(( إشارة الى توجيه السيد المحافظ نظرا للحاجة الماسة الى موظف له خبرة في أعمال التنقيب يرافق الخبير الأمريكي في الإشراف على انتشال جثامين الضحايا من قبور جماعية ...)) هكذا كان يقول الكتاب دائما. تضايق أول الأمر وإحتج عند المدير قائلا:

- هل سنتحول من التنقيب عن الآثار الى نبش القبور؟

أجابه المدير وهو منشغل بتدقيق أوراق أمامه والتوقيع عليها دون أن يكلف نفسه النظر اليه:

- لا عمل لدينا الآن في الآثار يا ثويني ثم أنه تنسيب مؤقت ليومين أو ثلاثة ليس المطلوب منك خلاله سوى الوقوف والتفرج تقريبا فلماذا أنت منزعج هكذا؟ هم يرون أن التنقيب عن الآثار لا يختلف عن عمل نبش القبور... روح يا أخي وفض القضية الله يخليك!

إعترته رعشة الخوف حين أراد أن يستقل سيارة الدائرة نحو مقر المحافظة. لم يكن يدري أي قبر سيحفر بالضبط ولكنه عرف أن المكان منطقة ريفية تذكره بما لا يحب أن يتذكر. للحظات بدا له أنه لن يستطيع حتى رفع رجله للصعود. تريث قليلا .... حدجه السائق بنظرة استعجال فلملم شتات إرادته بعناء وصعد...

لكنه في الطريق أخذ يتصور الأمر على نحو آخر. ساعده الهواء البارد، الذي إندفع نحوه من الفتحة الصغيرة التي تركها لدخول الهواء من النافذة، على أن يستعيد هدوءه. جفت حبات العرق التي تفصد بها جبينه، وخفت الحرقة في عينيه، وفيما كان صفّا المناظر اللذان تمر بينهما السيارة مسرعة يندفعان عكس شريط ذكرياته المنفلت، فكر في مسار آخر للمهمة... مساره هو. إن ما تصوره خاتمة غير محمودة، لا بل مدمرة، طعنة أخيرة غائرة تأتيه من سره ذي الحدود القاطعة المثلمة، ربما كانت، ربما، هي ضربة الحظ التي يئس منها حققتها عناية إلهية. سيكون هو المشرف، فليحاول إذن أن ينتفع بما ساقه القدر اليه. ربما وجد خلاصا، أو يقينا يعفيه من الوساوس لما تبقى من عمره. كل ما يتطلبه الأمر حسن تدبير في الفرصة السانحة.

سرعان ما يصبح واضحا أن العمل بالمجارف غير ممكن. ظهرت أجزاء من ثياب، وعظام هنا وهناك. نظر هو الى ناحية من الحفرة. لمح طرف ثوب بدا له نسائيا. كان الثوب الذي إرتدته من القطيفة.. وهذا قطيفة أيضا... أكيد. حال لونه الأزرق، والزهور الصفر الصغيرة التي كانت يوما تلتمع وسط الإزرراق الممتلئ بعنفوان جسدها أخذت من الإسوداد مسحة لها. لم تختف تماما، صارت نقاطا رمادية داكنة. كبح رغبته، وهو على بعد خطوتين، في أن يقترب أكثر من الخرقة التي مزقتها ضربة مجرفة لا مبالية فكشفت عن سنين ترابية باردة امتصت نعومتها، وأزاحت التراب المالح الذي أباد نسيجها ومنحها من ملحه قتامتها وضياع ألوانها. قاوم وسواسه لائذا بالخوف ممن حوله ولو الى حين، مستسلما لوهم سماه لحظتئذ تحفظا، أو بالأحرى حكمة، وكم من وهم تمثله تعقلا.

التفت الى الخلف ليتأكد أن الخبير ليس قريبا إذ قد يلومه على السماح بالحفر الى هذا العمق بالمجارف حتى ظهور البقايا، وهو لا يدري أن ثويني تعمد أن يترك العمال يبلغون هذا العمق بالمجارف اختصارا للوقت، واستعجالا للخاتمة التي كلما تأخرت وجدت الهواجس لها في نفسه مرتعا تستمد منه قوة وبقاء. قال للعمال:

- يكفي!

لفظها كأنه لم يكن يأمر العمال بل ينهر رعدة نشرت دوائرها في بركة عقله. خرج العمال وتوجهوا ليضعوا مجارفهم في مكان واحد قرب العدد الأخرى. خرج هو أيضا من الحفرة التي لم يتجاوز عمقها المتر، وإستدار فوق كوم التراب ليواجهها، ليلقي نظرة أوضح وأوثق على ما تضمه. كان بإمكانه أن يرى تحت طبقة التراب، الخفيفة في أماكن، ويعرف من أجزاء الثياب الظاهرة، أن المدفونين الى يسار ثوب القطيفة امرأتان أيضا إذ ظهر جزء من عباءة، وثوب آخر ونعال نسائيين، وعظام أقدام لايزال بعضها داخل النعل. لا تعود تلك العظام للابسة القطيفة التي اختفت معالمها السفلى من الوركين فما دون تحت التراب فيما أختفى الجزء العلوي من الصدر فما فوق تحت كثافة ترابية أخرى. بدا أن المدفونين الى يمينها هما رجل ببدلة عسكرية، ورجل من الريف كان عقاله عند موضع القدمين أظهرته فوق التراب ضربة مجرفة. كان يجب أن يكون مسعود الى جوارها بدلا من العسكري. هل لاتزال جثته مطمورة تحت الآخرين، تحتها أو تحت العسكري أو تحت المرأة الأخرى؟ احتمال بعيد... إذ لا بد أن يظهر منه شيء. أين ذهب يا ترى؟ تفحص البقايا المكشوفة على طول الحفرة. لا يوجد ما يبشره بيقين.

كان الخبير الأمريكي مقرفصا عند القبر الثاني البعيد الذي تم الكشف فيه عن الهياكل وغطيت بغطاء من المشمع على أن يقوم العمال بتغطيته بألواح من الخشب الى الغد لتسجيل البيانات والتصوير ثم ترفع الهياكل بعد وضعها في أكياس. قبران حتى الآن... ويقولون يوجد قبر ثالث. القبر الثاني يبعد حوالي ثلاثين مترا، وباتجاه مختلف. قدر الخبير أن القبرين لم يحفرا في اليوم نفسه. لكن ثويني متأكد من شيء مختلف، ولو كان الأمر بيده لما حفر القبر الثالث. كل ما يريده هو الآن عند قدميه. نظر في ساعته... كان العقرب يشير الى الرابعة. لازال الخبير مقرفصا فاتحا على ركبته مفكرة ذات غلاف جلدي يسجل فيها ملاحظاته. تمنى أن لا يأتي الخبير لمعاينة الحفرة. شاهده وهو على وضعه يرفع رأسه وينظر باتجاهه... ليس اليه بل الى ما ورائه، عرف أنه ينظر الى العسكريين الأمريكيين الذين نادوا عليه بكلمات لم يفهمها ثويني. نهض الخبير وتوجه نحوه فابتعد هو عن الحفرة لكي لا يكون وقوفهما عندها.

خاطبه الخبير وهو يتقدم نحوه:

- حسن.. مستر توينبي.

تصنع الابتسام. كم يكره هذا الإسم الذي أبدله هذا الأحيمر بإسمه على سبيل الملاطفة. نظر الخبير الى ساعته أيضا ثم الى مدرعات الهمر الواقفة عند النهر القديم المهجور والذي بدا جانبه كسدة توازي الأفق الغربي حيث الشارع العام. سادت حركة بين الجنود وأخذوا يصعدون الى عجلاتهم المصفحة. هل يهمون بالمغادرة؟ لكن الذي فهمه أنهم لابد أن يبقوا، ولو على وجبات، الى أن ينتهي العمل غدا وتستلم الموقع جهة عراقية. لا شك أن تغييرا قد طرأ على أوامرهم. قال له الخبير بلهجته الأمريكية التي يراها مبتورة الأصوات غائمة الكلمات عكس اللهجة البريطانية التي يرتاح لوضوحها ويفهمها أكثر:

- مستر توينبي... سأذهب الآن وأعود غدا. حاول في الوقت المتبقي تهيئة القبرين للتوثيق غدا.

سأله ثويني وهو موزع بين الارتياح لأنه سيتركه وحده حرا في التصرف وبين التخوف مما تخفيه المغادرة المفاجئة وراءها:

- والحراسة؟

أجابه بتلك النبرة الحيادية الباردة التي اعتادها منه:

- أذا لم يعودوا قد يبعثون حراسا مدنيين ليقضوا الليل هنا معك ومع عمالك الحكوميين.

ثم صمت هنيهة كأنه تذكر شيئا وأضاف:

- إعتن بالعمل.. الهياكل يجب أن تبقى كما هي و....

أكمل وهو يتوجه نحو الجنود:

- إطمئن مستر توينبي... إطمئن... كل شي تمام!

قال العبارة الأخيرة باللهجة العامية العراقية لافظا ميم تمام بفخامة.

هرست إطارات الهمرات التربة السبخة ، وهي تستدير نحو القنطرة. صعدت القنطرة الحديدية الواحدة بعد الأخرى نحو سماء غيومها قليلة ثابتة، ونزلت الى الجانب الآخر متخذة مسارا متعرجا نحو الشارع المعبد لا يرى منها سوى أبراجها المغطاة بالشباك. الآن يمكنه أن يفكر... دون ضغط... دون توتر. لابد أن يتم الآن ما ينوي عمله... حتما سيكون الغد يوم هرج ومرج... وسيأتي عدد من الأهالي ليروا إن كان بين الذين دفنوا هنا قريب لهم، وسيحاول فضوليون من هذه الأنحاء الإقتراب ليروا عيانا ما تناهى الى أسماعهم، من هذا المكان الشاسع البور ليلا، قبل خمسة عشر سنة، أصواتا بعيدة... إطلاق رصاص كثيف وهدير محركات ومصابيح سيارات قصية تثير قلقهم ومخاوفهم من مداهمة ليلية فيرهفون السمع متلملمين على أنفسهم، متوقعين أن تصيبهم تلك الأيام المدلهمة ببعض شرها، وقد لا يكون، على الأرجح، أهون الشرين.

كان العمال المؤقتون قد تفرقوا الى مجموعات من أثنين أو ثلاثة يتبادلون الحديث قرب العدة والصناديق الخشبية، وبعضهم يمزح ويتضاحك. زم شفتيه مستاءا. قال بصوت يسمعه الجميع:

- لا أظن أننا سنستطيع كشف الهياكل هنا في الوقت المناسب اليوم. إذهبوا وغطوا تلك الحفرة بالأخشاب ثم إنصرفوا ولا تنسوا أن تعودوا مبكرا.

التفت الى (حواس) الذي يعمل معه في الدائرة. رآه مكشرا وهو ينظر اليه نظرته التي طالما اعتبرها ماكرة، متزلفة، تخفي كل نوايا السوء التي يمكن أن تخطر على باله، ورأى شفتيه تكادان تفتران عن كلام ما. كان يتوقع منه كما يتوقع من المدير أي قول. خشي أن يقول هذا الحواس أيضا قولا سخيفا أو يسأله تملقا سؤالا سمجا من نوع ((بشرفي إستاد أنت تفتهم... كيف عرفت أننا على وشك الكشف عن الجثث فطلبت منا الحذر في الحفر؟)) وربما لن يكون سؤاله تملقا بل تلميحا خبيثا يخفي خلفه تهمة يوجهها اليه، أو شكّاً ... بماذا يشك يا ترى؟ هل يعرف شيئا؟ إن ثويني من جانبه لن يعجزه أن يجيب جوابا مقنعا. يمكنه أن يقول له أن التراب إذا كان تحته شيء مدفون كهذه البقايا بينها فراغات بحكم التآكل والتحلل فإن طبقة التراب تتحرك في مواضع عند الضغط عليها. لكنه لم يكن يرغب في تبادل الحديث معه، وأيا كان ما سيقوله، ولو كان مديحا حقا. بادره بحزم:

- إذهب مع جماعتنا في الخيمتين!

رمشت عينا حواس كأنه يهم برد ما لكنه لم يقل شيئا. استدار دون أن تفارقه تكشيرته إلا أن عينيه فقدتا لمعانهما فيما يشبه الخيبة أو الخجل. تابعه ثويني بنظره وكان يسري في نفسه قلق يتزايد كانبعاث مياه جوفية، أدرك في هذه اللحظة، وهو يمتلئ بالحفرة الفاغرة خلفه، أنه يخاف منه، ربما ستكون هزيمته أمامه فضيحة، غدا ... غدا عندما يتم توثيق كل شيء.. «فرصتي الآن ملك يميني لأحسم الأمر وأبقى في مأمن من الجميع، ومن هذا المنافق النمام، هذا الذي لم يكف عن إزعاجي طيلة السنوات الثلاث الماضية. يدور في كل مكان باثا أنواع الأقاويل عني. ماذا يريد مني؟ لماذا هذا الكره الشيطاني؟ قبل عشر سنين كتب عني تقريرا يقول فيه أني أسرق الآثار. هل إطاعة الأوامر سرقة؟ لم أستفد فلسا واحدا وكل ما فعلته أني قيمت القطع تخمينا وأخذوها...لكنه نال جزاءه. شهر في ضيافة لا رحمة فيها عند الأمن العامة وأدبوه تأديبا يستحقه. عادت ريمة في هذا العهد لعادتها القديمة، عاد الى إشاعاته وحيله.. فلان كان كذا.. وفلان عمل كذا.. ثم النغمة الجديدة.. لدي مفقودون...لدي شهداء... ولا أدري ما لديه بعد...)). بصق خلفه.....

في ليلة من الليالي البعيدة كان الغبار الذي يلف المدينة كلها يتغلغل الى الغرفة ويملأها لكنه نام نوما عميقا كعادته حين يكون محبطا أو غاضبا، إحباطا وغضبا لا يجد له حلا أو يجد منه متنفسا، فيلجأ الى النوم، رغم إحساسه بضيق التنفس، مختنقا بالغبار، نام نوما عميقا ولكنه ممرغ بالكوابيس... هو وفتاة لا يميز ملامح وجهها يقفان جنبا الى جنب، ضربه ضابط يشبهه بلكمة على صدرة فتراجع الى الوراء بحركة عرجاء كأنه مسعود. لم يكن يوجد غيرهم... وبدا في لحظة أخرى كأنه هو نفسه مرتد ثياب مسعود، فيما تقف الفتاة الى جواره وسط عاصفة الغبار دون أن يمسها شيء منه أو حتى يحرك الهواء شعرها الذي ينسدل الى خصرها أسود شديد السواد مانحا وجهها بياضا مضيئا تكدره نظرات خائفة توجهها اليه، نظرات خائفة عليه. مدت يديها، وضعت واحدة على صدره والأخرى على ظهره.

لكن في اللحظة ذاتها يحتل فراغ مكانها. يبقى وحده محاطا بلعلعة الرصاص... يفز مرعوبا.

أليس من المفروض أن يكون تفسير ذلك الحلم أن مسعود حي؟ لم يكن ذلك الكابوس هو الوحيد الذي أخذ يرى فيه من يكرهه يشبهه، يرتديه في كوابيسه. أصبح كلما اختلف مع شخص وتبادلا كلمات مكدرة، في العمل أو في الحي، خيل اليه أن ذلك الشخص يقلد تعبيرا فيه سخرية منه، حركة فمه، أو إيماءة يده، أو نبرة صوته، وربما أكدت المرآة ظنه، يقف أمامها طويلا مدققا في ملامح وجهه وحركاته.

وفي ليلة أخرى يرى نفسه جالسا في ظل جدار النحس، قرب بوابة معبد، على أساس قاعدة كان تمثال إله المكائد ينتصب عليها قبل أربعة آلاف سنة، أشعث الأفكار، متوثب الفرصة، يرميه بنظرة أبدية، قارعة، وحوله الكثير من الرقم الطينية، تطير الرقم وتنقذف لتسقط أوراقا رسمية في أعلاها شعارات ومختارات أقوال القائد، وعرائض التماسات لا قيمة لها، في الحفرة التي يداوم هو على أزالة التراب فيها جانبا بآلة كمشط ضخم خشبي تغور أسنانه في التراب كالمحراث فيبرز في الخطوط التي تحفرها لون أحمر، له مرأى اللباد، أحمر قان كلون (فرمان) طلاع الجد الثالث لأبيه، الفرمان الذي حدثته عنه جدته أم أبيه وقالت أنه كان عنوان المشيخة وفقد مع اختفاء طلاع. ينطمر لون الفرمان حالما تكشفه الأسنان. تمنعه الأوراق من العمل والرؤية، يغضب ويعتدل. يخرج للصلاة والدعاء. يدعو الله أن يوفقه الى استخراج الفرمان وامتلاك سلطته ومعناه.

كل هذا بسببها، قلقه، وكوابيسه، وهذه الحفرة، وحواس، ومسعود الذي لا هو ميت فينسى ولا هو حي فيتقى. كم مرة قال للمرأة العجوز:

- ابنتك وقحة.... وقحة منذ أن كانت طفلة.

تجيبه العجوز مولولة:

- أويلي... والله تعبت منها... تعبتني إبنة عمك...

واقتربت منه وهي تراقب باب الغرفة، ولكي لا يسمعها أحد قالت هامسة:

- تصور... صاحت بي اليوم.. وخرجت...

ثم أضافت بصوت متعثر:

- ... منذ الصباح... ولم تعد...

ضرب فخذه بيده وقال من بين أسنانه:

- طبعا ... طبعا راحت لصاحبها متعوس أبي المشاكل!

وضعت يدها على خدها فاغرة فمها:

- لا تفوت حظك وبختك... مسعود ابن خالتها...

- ليست المشكلة هنا... كلاهما الى جهنم وبئس المصير. لكن الدنيا مقلوبة.. الجيش والأمن في الشوارع يمسكون بكل مار.. إذا ألقوا القبض عليها مع صاحبها الهارب وجاءوا اليك ماذا ستقولين لهم؟

حشرجت المرأة:

- سودة بوجهي... صحيح والله!

أخذ يزيل التراب بيديه بسرعة العارف عما يبحث. ركز على النصف العلوي. لم يجد صعوبة كبيرة في إزالة التراب. تأمل الجمجمة وتخيل، رغما عنه، الوجه الذي كان، الرأس ثقبته رصاصتان، واحدة خلعت عظمة الصدغ والثانية دفعت عظم الجبهة الى الداخل، الشعر الطويل الذي تساقط الآن حول الجمجمة. كانت هنا عينان ملونتان كأمانيه ولكنهما جريئتان تشعان حيوية، وكانت توجد شفتان صبيانيتان صغيرتان وأسنان منتظمة بيضاء في فم لا يتوانى عن الجدال، ويفيض عند الانفراد في المطبخ بدندنة ريفية، خفيضة، منسجمة. هاتان اليدان اللتان تبعثرت سلاميات أصابعهما الآن كانتا يوما تتعهدان الشعر بالتمشيط، ترسلانه أو تضفرانه، وترشان الوجه بالعطر، وتمسحان على الرقبة والنحر، وتعدلان أمام المرآة فتحة الثوب التي تكاد تكشف أعلى النهدين اللذين أحتل مكانهما في الثوب الآن تقعر الموت...

- أي ثوب ﺇرتدت؟

- ثوبها القطيفة الأزرق...

ثم كأنها تفضي بسر لا يتجاوز فمها:

-... وهويتها.

فتمتم:

- هويتها؟ هه... إذن فستتوجه معه الى حدود السعودية. إن فكرة الهوية لا يمكن أن تخطر إلا على بال مسعود... فهي معه بالتأكيد! إتفقا وتواعدا!

رأى قرب عظام اليد اليمنى شيئا صغيرا تذكره كانت تضعه دائما في الإصبع الوسطى. أحس بالملمس المعدني، خاتم جعله الصدأ خشنا وإمحت معالم فصه الذي نُقش عليه إسمها هي. وضعه في جيب سترته. لم يبق لديه كثير وقت. خشي أن يطلع أحد، خصوصا حواس، على ما يفعله. رفع نفسه قليلا وتلفت. لا أحد خارج الخيمتين والعمال لايزالون يغطون القبر الثاني بالخشب منشغلين عنه بما في أيديهم. تحسس الثوب المتهرئ عند فتحة في الجانب فانضغطت تحت أصابعه قطعة منه بشيء ناعم سميك. مد إصبعين بحذر وأخرج الهوية من الفتحة دون أن يتمزق القماش، ثم رفعه قليلا ليرى إن كانت الهوية قد تركت في الداخل على القماش أثرا واضحا حيث استقرت سنوات طويلة. كان يوجد أثر ولكنه لن يكون ملحوظا إلا بالنظر المتمعن. تنفس الصعداء ونهض لينضو التراب عن ثيابه.

في اليوم الثاني لاقتحام الجيش المدينةَ كان ثويني والمجموعة التي معه، عائدين من واجب دورية للجيش الشعبي في الريف المجاور، وكان هو يسير متبرما، منعزلا قليلا عن جماعته، ويحاول جاهدا أن لا يرفع صوته محتجا فقد سجلوا إسمه في القاطع قبل إندلاع الحرب بأيام برغم كل محاولاته التملص، وبرغم تحججه بأنه غير حزبي وأنه خدم في العام الماضي في قاطع الجيش الشعبي.

رآها من بعيد بين المعتقلين يحيط بهم العسكر في ساحة مدرسة ريفية تحت الإنشاء. تعرف عليها من بعيد، رغم التراب الأحمر الذي حملته الريح من الصحراء غرب المدينة فملأ الجو، ورأى مسعود أيضا، ولكنه لم يكن واقفا الى جانبها، بل بدا وكأنه لا علاقة له بها. كان العسكر في حركة دائبة حولهم يصيحون في وجوههم ويعنفونهم، فيما بعض الضباط يسألهم أسئلة لا يسمعها لبعد المسافة. الرجل الذي يرتدي ملابس مدنية والذي قدم من بغداد على رأس لجنة تحقيق ورآه قرب الشعبة بالأمس يمسك بيده سجلا ويراقب دون أن يتدخل. أخذوا يفتشون الرجال ويأخذون ما في جيوبهم ولكنهم لم يفتشوا النساء. رأى رجلا يرتدي بدلة انضباط عسكري يفتش جيوب مسعود ويبدو أنه لم يجد شيئا فلكمه على وجهه. لم يرغب ثويني وأي من جماعته في الاقتراب لكي لا يتورط فيما يجري أو يكلف بواجب آخر. عرفوا أنفسهم لرجال الحراسات المنتشرين حول البناية ومروا مسرعين، ويبدو أيضا أن أيا منهم، باستثناء ثويني، لم يتعرف على أحد من المعتقلين وقد أراحه هذا بعض الشيء.

وصل بحلول الليل الى البيت. لم يقل شيئا للعجوز التي إكتفت، وهي تروح وتجيء في البيت، بمراقبته دون أن تجرؤ على سؤاله عن الأخبار. انصرفت الى غرفتها حين رأته يخرج من الدولاب قنينة الخمر. أفرغ في جوفه ما كان قد بقي فيها منذ يومين بجرعات سريعة لكي يعجل في أثره. ارتمى على وجهه منتظرا سريان الخدر في جسمه. مد يده الى المذياع الذي كان على الأرض قرب السرير. سمع الأزيز الذي يصدره المذياع عندما تكون بطارياته ضعيفة. خفض الصوت لكي يختفي الأزيز وأخذ يدير القرص بيد مرتعشة وهو مغمض العينين باحثا عن إذاعة تبث ترتيلا للقرآن. التقط سمعه المشوش الترتيل الناعم لعبد الباسط. مسته سحابة ارتياح لسماعه هذا الصوت. منذ أيام شبابه الأول كان يفضل الاستماع لصوتين... أم كلثوم وعبد الباسط ولا يهمه الى أيهما أستمع وهو يحتسي الخمرة. هو الآن بحاجة الى أن يغفو وهو يستمع الى عبد الباسط بالذات، وهو ينحدر في ترنحات خياله المتعب مع تزايد تأثير الخمرة، ينداح في مخاوفه التي شجعها خدر إرادته، في صور متمايلة، مختلطة... قوائم أسماء المعتقلين... غدا أو بعد غد... إسمها وإسم مسعود على رأس القائمة... تعال يا ثويني أنظر...إسم من هذا؟ وهذا؟ أنت في موقف حرج... خذوه!

- لن يدهشني يا ثويني إذا إعترفت لي أو أسر الي غيرك بأنك تخصصت في الآثار لكي تبحث عن فرمان وعظام جدك. لماذا لا تستطيع العيش ببساطة... دون أن تتعالى بمجد وهمي؟ مجد تتوهم فيه أنك الأفضل؟

نظر ثويني الى مسعود، الى عينيه اللتين تلتمعان بسخرية كلماته وجدّهما معا، الى العينين اللتين لم يستطع يوما أن يرى فيهما لونا محددا، هذه حقيقة كحقيقة أنه لم يستطع يوما أن يفهمه، كحقيقة عجزه فيما بعد عن إدراك السبب الجوهري لإنسياق مسعود مع أناس كان يراهم ثويني فوضويين خرافيين يائسين لم يفلحوا سوى في تعطيل الحياة أياما معدودات ونشر البيارغ والشعارات الدينية في كل مكان. تعذر عليه أن يجد مبررا يقبله عقله لإنقلاب مسعود، هذا الحسي الشغوف بالحياة، تعذر عليه أن يتصور لمسعود موقفين متناقضين يفصل بينهما ليل... ليلة واحدة كانا في أمسها جالسين وبينهما منضدة تزهو بقنينة ويسكي حولها مستلزمات التنصل من العناء، حولها ما يساعدهما على أن يخطوا باتجاه بعضهما بعضا، خطوتين أو ثلاث كما يتوصل الندماء بالخمرة الى مكان محايد، الى أن يصلا نقطة تبادل التواطؤ، أن يكونا غيرهما في التسامح لسويعات، يتناقشان، يتضاحكان، في الحديقة الصغيرة كقفص شجري محاط بنبات متسلق في دار ثويني جمعة الذي يرى أنه شيء جميل أن يحب المرء الحياة على أن لا تشوبها السياسة المريبة التي لا يمكن الدفاع عن صاحبها. كان أعرف بمسعود من أن يشك في انتمائه الى حزب ولكن مسعودا كانت ميزته التي كأنها خلقت معه هي لفت الأنظار اليه، يشع معاكسة خفية، معاكسة مسالمة، ومع ذلك فهي مزعجة منفرة. يخشى ثويني ما قد تجره عليه علاقته بمسعود من متاعب. يستمع الى سؤال مسعود بعينين نصف مغمضتين إستخفافا:

- هل تعرف رولان بارت؟

- ومن هو رولان بارط هذا؟

عندما يصل ثويني مع مسعود الى درجة يعجز فيها عن محاورته أو يسأم منها فإنه يلجأ الى استنساخ سخرية مسعود، سخرية لا تجاري الأصل ولكنها تناكده...

- أنت لك معرفة بالتنقيب ... شيء لطيف أن تعرف البنيوية.

- البنيوية؟! قرأت عناوين فيها مثل هذه الكلمة في جريدة الجمهورية... أجل...

- رولان بارت منقب.. ولكنه منقب في اللغة.. في النص. أظن أنه كان يشعر باللذة نفسها التي يشعر بها الآثاري وهو يتصور بنية الأثر و...

- وما شأننا نحن الآن، في أيام القصف الغبراء والليالي الدامسة هذه، بما ستقصه علي بربك؟

يضع مسعود الكأس التي كانت بيده على المنضدة. يرتج الإصفرار في الكأس ثم يستقر. يعتدل مسعود في جلسته ناظرا اليه نظرة من يفكر مليا برد مختصر مفحم، في آخر الجلسة، كما في كل الجلسات المتباعدة التي تجمعهما في مناسبة ما، في صدفة ما. جمعهما هذه المرة الظلام الذي خيم على البلد بأجمعه منذ شهر فالتقيا فيه دون موعد أو قصد. كان مسعود مارا، وكان ثويني قد حصل على قنينة الخمر هذه وعدّ مرور مسعود بالبيت قدر الكأس التي تجمع حولها أصنافا من الناس لا يمكن اجتماعهم إلا لها وحولها، لا بل إن اختلافهم في الرأي أو المزاج هو ميزتها، اختلاف يؤدي غالبا، حين تدب الخمر وتسري في مكامن التضارب والأهواء والأسرار، الى الخلاف. لقد قدر ثويني، بعد كل شيء، أنه في تلك الأيام المقلقة التي كأن الدنيا فيها بين إصبعين من أصابع الله لا يدري الى أين سيقذفها بالناس، ليس من شخص أنسب من مسعود للمجالسة، وللجدال، فهو نقيضه المقرب، وذريعته للخلاف الذي لا يستطيع، مهما كان حذرا كعادته، أن يخوضه في مكان آخر، إنه يمنحه الفرصة لأن يكون، ولو من حين الى حين متباعدين، مخالفا ومجادلا... دون عواقب وخيمة.

إنتظر رد مسعود... ركز على فم مسعود الذي أخذ يفرك براحة يده فخذ ساقه المصابة في الحرب العراقية الايرانية، وإرتفع نظره ببطء، كأنه شارد الذهن، وثبت على وجه ثويني، تقلص عصب فكيه قليلا ثم ساد الإرتخاء الممتزج بالإنتشاء على قسمات الوجه الأسمر الهزيل... الوسيم وسامة سمراء طفولية.

- أنت محق... هذا ليس وقت النظريات الأدبية والجماليات لكني كنت أريد أن أقول لك أن بارت قال مرة أن الفاشية ليست في منع الكلام بل في الإجبار عليه...

- يعني؟

- لقد حاولت جهدك خلال جلستنا هذه أن تقنعني بأن التململ الذي يحرك الناس الآن انحراف...

- انحراف وألف انحراف! كفانا ما رأينا ورأى آباؤنا قبلنا من المآسي والكوارث!

- لقد أُجبر الناس طويلا على الكلام الذي لا يريدون قوله وعلى فعل ما لا يريدون فعله. لم يمنحوا يوما راحة السكوت، إرادة الصمت الذي يعني....

- هجم بيتك... والله كلام قوي!

- كل ما يريده الناس هو أن يرتاحوا من الكلام المفروض، وإن لم يحظوا بسكوتهم سيصرخون!

- ها قد أفسدت علي استراحتي من الواجب هذه الليلة... الذنب ذنبي... أنا أعرفك زين!

-.... ويعني أنك أجبرتني على هذا الكلام... لم تترك لي خيارا!

ما الذي يعرفه إبن السمّاك هذا؟ يتحدث أحاديث كبارا لا يعرف مدى خطورتها. كم مرة يجب أن يجد له عذرا ويخلصه من الإعتقال بحجة أنه شبه مجنون باللغو دون نية سوء؟.... كم مرة يقول لهم حين يطلبون منه معلومات بأن مسعود مجرد شاب يحب أن يردد ما يقرأه لأن رنة الكلمات الضخمة تحلو له. هذا الشاب ضال عن التعقل والإتزان اللذين يقودان الى ما ينفع، أو على الأقل، الى ما يشفع. لطالما رأى ثويني أنه من طبيعة الأشياء أن لا يحسن مسعود السلوك في هذه الحياة بما أسماها حكمة، يرى نفسه من طبقة ومسعود من طبقة أخرى ومن الطبيعي أن يختلفا في الفهم فهو سليل الشيخ طلاع الذي أنعم عليه السلطان العثماني بالفرمان الأحمر، بزة الشيوخ المرسمين من قبل السلطان العثماني نفسه. لقد وصفت له جدته من جهة أبيه هذا الفرمان... سترة بردنين واسعين، حمراء اللون قانيته، مذهبة الحواف. لكن القدر شاء أن لاتصل هذه المشيخة الى ثويني، شاء أن يهون المقام فيكون قريبه وجليسه سليل السماكة. اختفى جده اختفاء عجيبا. حدثته جدته قالت أن الجد خرج ومعه ثلة من العشيرة الى الصيد في البادية حيث كانت تكثر الغزلان آنذاك فلما جن الليل في الطريق نزلوا. نام طلاع نوما عميقا من التعب فتحين أصحابه الفرصة ليغدروا به وأخذوا فرسه وسلاحه وطعامه، وربما الفرمان أيضا، وتركوه نائما. قد يكون افترسته الذئاب أو استيقظ مع شروق الشمس فلم يجد أحدا، ولأنه مترف لم يألف السير على قدميه في الصحراء تحت لهيب الشمس سقط من شدة العطش في النهاية ميتا. هذا كل ما يعرفه عن جده الأكبر.. حكاية مات شهودها وإمحى اثرها. صحيح أنه تمنى أن يعثر على أثر لهذا الجد، وفي بعض أحلامه، أن يعثر على فرمان طفولته السحري أيضا ((لكن هذا ليس هو السبب الذي جعلني أختار أن أعمل في الآثار بل هي الصدفة، أو القدر، وما يقوله إبن السماك إنما هو نكتة يرددها على مسمعي كلما تحركت فيه غيرة لا تنفك تنام وتصحو... حين تنام تهمد كحقد متعب، وحين تصحو تتظاهر بأنها الذكاء اللماح، وما هي إلا فصاحة التزويق في الألفاظ))، يخيل الى ثويني أحيانا أن عرقا ما يُنطق مسعود بهذا الكلام، عرق يصله من طرف بأولئك الذين غدروا بجده، عرق يحمله على التشفي فيعقد الضياع القديم بألم جديد.

يثور بوجه مسعود قائلا:

- لا تظن أنهم تركوك طليقا الى الآن غفلة أو تسامحا. كل ما في الأمر أنهم يركزون مراقبتهم الآن على المتدينين. لا يعبأون بمن ليس لديه ميول دينية ويشرب الخمر. يثير شكوكهم أصحاب اللحى والذين يكثرون التردد على الجوامع والحسينيات...

ينهض مسعود وهو يبتسم ابتسامة من توقع أن يسمع هذا الكلام ويؤسفه أن يسمعه..

كأنه من شروط الإنسجام، من قوانين الكون، أن يعودا أدراجهما المسافة كلها، كل الى مكانه، من حيث جاء كل منهما نحو الآخر. لكن ابتسامة مسعود كانت تبدي تصميما ما، تصميم على أن يلغي المسافة هذه المرة، مرة واحدة والى الأبد، لن توجد مسافة أصلا بعد الليلة، كما أدرك ثويني في صباح اليوم التالي عندما شاهده يحمل السلاح مع آخرين متوجها بمشيته العرجاء عرجا خفيفا نحو مقر الفرقة الحزبية أما هو فقد جلس في بيته مكتفيا بما يتناهى اليه من أخبار الشارع.

يعرف أنها حملته مسؤولية اندفاع مسعود الختامي هذا، ولم تغفر له. ظلت الإدانة ماثلة في عينيها كلما نظرت اليه. لم تقل شيئا، اكتفت بصمت قاطع يخاله ذا هدير سحيق. أصبحت تقضي أغلب أوقاتها نائمة أو منطرحة في الفراش. المرات القليلة التي رآها فيها تتحدث كانت تتحدث مع العجوز، والدتهما، بصوت هامس فإذا دفعه الضجر من الإنعزال عن العالم الخارجي والتخوف مما قد تحمله اليه الأحداث الى أن يقف أو يجلس قربهما لعلهما تشركانه في حديثهما صمتت وظلت تنظر الى يديها وتقلبهما متشاغلة عنه فيقوم غاضبا. لكنها عندما وبخها، بعد أسبوعين، على الابتعاد عنه وتجنب محادثته انفجرت في وجهه بكلام أجفله:

- ألم تسأل نفسك لماذا لم يطرق بابك المعارضون الذين سقطت المدينة بأيديهم؟ إنه هو... هو الذي يمنعهم من أن يؤذوك فأنت عندهم والبعثي سواء....

لم يتركها تكمل بل صفعها. ترنحت قليلا وتراجعت ثم استدارت لتدخل الغرفة وتغلق الباب. ظل هو يهدر في مواجهة الباب المغلق:

- لكن بغداد لم تسقط.... لم يبق إلا القليل وعن قريب يدخل الجيش المدينة ويبدأ الحساب...

ما الذي عنته بقولها الأخرق هذا؟ هل أرادت أن تقنعه بأن مسعود شهم وفعل ما يليق بكل شهم يقتدر ويعفو؟ الصحيح الذي لم تجرؤ على الإفصاح عنه هو أنه لولاها هي لما فعل ما إدعت أنه شهامة، إن كان حقا ما تقول فقد حماه مسعود إكراما لها.. لكي لا يصيب ثويني مكروه فتحزن.. هه.. مسعود يتفضل عليه بإنقاذ حياته!. هذه فضيلة حقا ولكن لماذا تأتيه من حيث تؤلمه؟ هو أيضا خسر الكثير ليجنبه الأذى، وهم في الحزب ليسوا من الغباء بحيث لا يثبتوا هذه النقطة ضده. إذا كان هو على مسايرته لهم ولم يصبح مديرا رغم السنوات التي قضاها في الخدمة وتطويره لعمل الآثار فكيف كانت ستكون الحال لو عاند ورفض مثلا أن يقبل التطوع في الجيش الشعبي. لولا شؤم هذه القرابة التي جرت صداقة وخيمة ربما كان سيكون الآن مديرا بدلا من ذلك المدير الجديد الغبي ذي الشاربين الشائكين الكثين والعينين المطيورتين الذي لا يفهم شيئا ذا قيمة في الإدارة أو الآثار.

كانت الريح الباردة لليوم الثالث تحمل ترابا أحمر يضرب الوجوه كالإبر ويدخل تحت الملابس. طلبوه عصر ذلك اليوم فذهب على مضض بملابسه المدنية لافا رأسه بيشماغ لا يظهر منه سوى عينيه. كان أيضا غير واثق من استقرار الوضع نهائيا ولذلك كان يحاول قدر إمكانه التكتم وإتخاذ الحيطة في تحركاته أمام الجيران وقد ساعده الجو المغبر وخلو الشوارع من المارة على أن يخرج آنذاك دون أن يلحظه أحد. في كرفانات أقيمت خارج المدينة إرتدى ملابس خاكية وإستلم سلاحا بدلا من السلاح الذي سلمه لهم وظن أنه لن يمسكه بيده بعد. ساوره القلق من هذه المهمة المفاجئة ومكانها. أخذوه ومجموعة معه بعد الغروب في شاحنة مغطاة بغطاء مشمع. بعد مسير نصف ساعة أنزلوهم حيث يقف الآن. كانت الحفرة قد تم حفرها وأوقفت الحفارة بحيث تسلط أضواء مصابيحها على صف النساء والرجال الذين أوقفوا معصوبي الأعين وموثقي الأيدي الى الخلف. فكر (( ما الذي يريدونه منا؟ ألا يكفيهم هذا العدد من العسكر؟)). دهش حين طلبوا من مجموعة المسلحين الذين جاء معهم أن يشكلوا صفا ويستعدوا لأطلاق النار على الصف الذي يتأرجح من عصف الريح على حافة الحفرة كأنه معلق بحبال الى عارضة غير مرئية. عندما أتخذ مكانه رآها أمامه. كان شعرها يتطاير في ضوء مصابيح الحفارة اللامع المختلط بغبار الصحراء المتموج، ورأى مسعود الى جوارها يرتدي بنطالا أسود وسترة بنية. تساءل في نفسه، وهو يرى أن كل شيء جائز، هل تعمدوا في الحزب أن يستدعوه لهذا الواجب ليختبروه أو يجعلوه بالأحرى يشارك في الإعدام؟ هل يعرفون؟

كانت واقفة كما هي دائما، ليست بينه وبين مسعود، ولكن وسط المسافة التي تفصلهما، الى جانب حيث مسافتها هي، حيث الإشعاع والعطر.

أتت بطعام لهما، إنحنت لتضعه على المنضدة. كان مسعود مطرقا، وكان ثويني ينظر اليه مترصدا ((يتصنع عدم الأهتمام، يتظاهر بأن علاقته بها هي وهم من أوهامي، لكني أعرف أنه ممتلئ الآن بعطرها الذي تعطرت به عند مجيئه...)). تضع الطعام بينهما. لم يمد أي منهما يده اليه. كان كل منهما قد إرتكن الى جانبه منها، الى ما يمتلكه، أو يخيل اليه أنه يمتلكه منها. هذا يعني لثويني تعليق أبدي للوجود في إبنة عم، يعني ستبقى بالنسبة اليه صورة جانبية يحول مسعود بينها وبين أن تكون جسما حيا، بينها وبين التحرك والانفصال عن مسعود وأن تكتمل سلطته عليها. أخذ يفضل أن يصفها بالميتة منذئذ وما دامت كذلك فرصاصة في جسد ميت لا تضرها ولا تحمل اليه مزيدا من الضرر.

أريج مداف برقرقات الرغبة، مختلط بارتعاشة شرايين التوق، رائحةٌ زكيةٌ ونورٌ يعرف أنهما أسرا عواطف مسعود. لكن الحقيقة الأهم عندئذ، وفيما بعد، والآن، هي هذا الغبار، هذا الضجيج، أضواء الحفارة هذه، وقعقعات البنادق، والصياح. فكر أن يجد حلا لورطة الوقوع بين عطر أمس مسعود ورصاص اليوم. الرصاص أم العطر؟ الرصاص للعطر؟ يطلق الرصاص كي يخلص العطر من حيرته وقلقه من باقي الطريق، وباقي الأحلام، وباقي الألم، ويتحلل هو بدوره من خوفه من كل هذا، ويبرئ عذابه، وينهي الرواية. لن تتعذب...ستموت قبل وصول الصوت، وسيحيا هو بعد الصوت بضمير مرتاح، يدفن العطر والأفكار ومعها الخوف، الخوف الذي يعبر من مسعود نحوه، خطر معطر تتسلق أغصانه جدران الرغبة غير عابئ بما يجره الالتصاق والارتقاء العنيدان عليه من منغصات، لا بل ما يجرانه عليه من هلاك. إن للخلاص سبلا ومقادير، مسعود يقف الآن معها في مواجهة قدرهما وليس بوسع ثويني عمل شيء بعد الآن سوى أن يجعل النهاية أقصر وأقل عذابا لهما. كان سيفضل أن لا يراها ومسعود في هذا المكان، وأن يكون هو في الأمان، أن يفعل مسعود معها ما يشاء.. يتزوجها أو يأخذها هكذا حتى، لولا أن وجود مسعود في حياته أشبه بورم سرطاني يأكلها، مهما تناساه فإن نموه يذكره به، في عاطفته، في عقله، ينمو وينمو ويصغر ثويني بنموه حتى يتلاشى ويختفي.

سدد فوهة البندقية لا على التعيين ومع سماعه أمر الإطلاق أحس بخدر مؤلم في السبابة التي تستقر على الزناد. أطلق الرصاص ولكنه لا يدري في أي إتجاه أطلق، كان يركز بصره عليها وشاهد كيف انتفض رأسها الى الخلف وإنتثر شعرها. ارتفعت مع الصدمة قليلا ثم توارت خلف كومة التراب. لم ينتبه في تلك اللحظة أنه لم يعد يشاهد مسعود. دوى طنين في أذنه. لم يتوقف عن الرمي باتجاه الفراغ حتى سكت رشاشه وبقي هكذا في وضع التسديد متجمدا الى أن سحبته يد من كتفه بعنف ولطمته كلمات ساخرة :

- إرجع ... خلص... أثول! الى أين كنت ترمي؟

هل يكون مسعود قد أصيب أصابة خفيفة وزحف من الحفرة قبل أن يهال على الجثث التراب؟ لا يدري.... ربما لن يعلم أبدا، وربما سيجده يوما أمامه في شارع من شوارع المدينة أو يشاهده في التلفزيون يدلي بشهادته.

دخل في اليوم التالي غرفة الذاتية متأخرا، عند منتصف النهار بعد أن جمع ما تبقى من شجاعته وسلم بأنه في كل الأحوال لن يهرب. الى أين يذهب؟ فليحاول أن يعرف شيئا على الأقل. ابتلع ثويني ريقه عندما رفع مسؤول الذاتية رأسه لينظر اليه وهو يدخل متوقعا أن يحدجه بنظرة استياء أو احتقار لكنه ابتسم ابتسامة شاحبة في وجهه وقال:

- تأخرت يا ثويني... لقد كانت ليلة غبراء ليلاء قضيتها هنا.

تشجع لأن يسأل الرجل الذي أشار اليه بالجلوس ودفع نحوه كوب الشاي بصمت يدعوه لمشاركته في شربه.

- هل تبين شيء عن المخربين الذين جمعوهم بالأمس في مدرسة القرية الشرقية؟

هز الرجل رأسه بالإيجاب وهو يغالب السعال ثم أجاب بعد أن شهق الهواء:

- أخذتهم لجنة من بغداد... كلهم ليسوا من هنا جمعوهم من أماكن متفرقة.

هل لثويني أن يطمئن من الآن فصاعدا الى أنها ومسعود أحسنا التصرف ولم يعطيا أسميهما الصحيحين أو يسلما ما يثبت شخصيتيهما؟ الباقي أمره هين، سيدعي، إذا سأل أحد عنها أنها ذهبت لتعيش مع أقربائهم في البصرة أو في الناصرية، أما مسعود فهو مشكلة أهله فليتدبروا أمرهم، ولكن.... هل الاطمئنان بسيط هكذا؟ نظر بطرف عينه الى مسؤول الذاتية الذي كان ينفض عن حضنه فتات الكعكة التي أكلها. لماذا يخيل اليه أن الرجل يتغافل أو يتجنب النظر اليه منذ سأله؟ هل سيظل ثويني يتخيل أن معلومة ما بخصوص كل ما جرى يتعمدون إخفاءها عنه؟

كانت الصفيحة التي ثقبها العمال من جوانبها وملأوها بكسر الخشب لايزال جوفها يضطرم بالنيران التي أشعلوها على سبيل التلهي قبل انصرافهم. لم يكن الجو شديد البرد وإن بدأ يميل الى ما في السماء من غروب متلفع بأبعاد شتاء متهاون. مع ذلك ارتعش ثويني وهو يقترب من إيحاء البرد في حرارة نار التبست ألسنتها بألوان قوس قزح. يمكنه الآن أن يخير نفسه ويختار، وهو واقف على سبخة صلبة، على بعد أمتار، عن يمينه، حيث الحفرة المفتوحة كفم لم يتسن الوقت له أن يكمل جملته، أراد أن يقول شيئا ولم يمهله الرصاص فظل فاغرا، وهو مغطى بالتراب، وهو مكشوف نحو السماء، فم من رميم لم يكف يوما عن ترديد رميمه، في الليالي الطويلة المتعاقبة، مقمرة أو غير مقمرة، مطيرة أو صافية، عن ترديد حكايات دفنت. ها هو ينكشف، يكمل جملته.

يتقدم ثويني نحو الصفيحة، في جيبه خاتم رخيص، غالي الصدأ، وفي جيبه الآخر هوية أحوال مدنية تثبت الفقدان أكثر مما تثبت الوجود، أو التعريف، لماذا لا يلقي الهوية في النسيان، في التجاهل، حيث يمكن دائما تدبر وسيلة للسلوى، حيث التذكر يتواطؤ مع التناسي ويجالسه دون آلام أو خصام، يلقيها في نار تحسم التردد، تنفي الخور والعزيمة معا الى فراغ الإلغاء. يمكنه بعدها أن يعيش سعيدا ويبارك نسيانه. يتبادل هو والأيام القادمة تصافيا ولو متأخرا. لكنه واجب، مفروض كالخلاف الذي حال بينه وبين نفسه سنوات. سيقنع بالتناسي الملزم لو أتيح له، لو عرفه بهوية جديدة تلغي ما فات.. سيقنع حتى بالتهوين أذا ما عز غيره. سيرى النار المحصورة في مربع متقلب الأضواء تلتهم الصورة وهي تضن بجمالها على الزمن، على هذا اليوم البعيد عن صاحبتها وعن مماتها خلف رطوبة مالحة ماحية لملامح ابتسمت يوما لألوان الصورة، يشاهد الاسم (سليمة) وهو يتلوى مودعا دنيا التذكر، متنازلا عن حقه لعنف اللهيب الذي يشعل النسيان سرا وعنوة، حيث تنزل قطعة تسود وتصغر شيئا فشيئا الى أرمدة في قعر صفيحة مثقبة، تكون رمادا بين الرماد، فراغا رماديا منسيا في ماضي النار، أو في نار الحاضر التي تستعيد الماضي وتمحوه لأجل راحة ثويني، تمحو ألما ماثلا لا هو ماض في الحقيقة ولا هو حاضر ولا يعرف ما هو. تساءل بماذا يواجه غدا (حوّاسه)؟ هذا الذي قربه منه هو شبه بغيض بماضيه، منكد، متآمر. لماذا لا يحتفظ ثويني بما في يده ليدحض الضغينة المتربصة بأيام يريدها "سليمة"، ممهدة الراحة، يريدها وجاهة تلفت الأنظار. مد يده حيث تستقر هوية كان قد استخرجها من قبل لسليمة بنفسه وكبسها عندما كانت لاتزال في السادسة عشرة. فرحت بصورتها الملونة الجديدة وبنسخ الصورة الأخرى التي احتفظت بواحدة منها في ألبومها الصغير ووزعتها على صديقاتها و... أعطت مسعود واحدة دون شك. تحسس الهوية بين أطراف أنامله وراحة يده وبين النعومة الموغلة في الصمت، وفي الصلابة المائلة الى التكسر، المتيبسة ملوحةً. تحركت ذرات تراب متبلورة تحت أطراف أنامله، وطقطقت مكتومة. غدا سيعيد كتابة التأريخ. لكن تأريخه يمكن أن يمحو كل تأريخ إلا تأريخ مسعود مادامت جثته لا توجد بين الجثث، غيابها حضور مسعود الذي لا يمكن أن يكون لتأريخه شبيه أو بديل. يمكن أن يرتب ثويني أيامه غير أن ظهور مسعود قد يطيح بها ويعيد التعاسة الى الضوء، سينبش مسعود جثة ماضي ثويني. لكن هذا مرهون بالاحتمالات فليقنع ثويني بما في يده... هوية متيبسة وخاتم صدئ، مفتاحان لتأريخ جديد. إذا كان حواس لا ينفك يتباكى على مفقودين ولا يشبع من استدرار التعويضات والإعانات ولا يكتفي من تسجيل الأسماء في سجلات الضحايا واستصدار الهويات التي يملأ بها محفظته ويقبض بها رواتب الإعانة مستصحبا كل مرة امرأة مختلفة الى المجالس البلدية والمنظمات فإنه، ثويني، سيكون له غدا شهيد حقيقي، موجود، ليس سرابا، ليس تفصيلا في قصة حزينة للاستعطاف، سيفخر غدا، وبدموع حارة، أمام الأمريكي الأحيمر الأنيمش، أمام حواس، سيسلب هو هذه المرة من حواس ملامحه الى الأبد ويتركه ممتقعا خاليا من الامتياز. سيكون إبن عم الشهيدة...

ولكن ألن يكون هذا تذكيرا دائما له بما جرى؟ فماذا يفيده أن تسجل سليمة شهيدة ويظل هو في عذابات التذكر، يبقى لديه دائما ما يذكّره. من الأفضل له أن يختار النسيان، فيرفعون غدا عظاما لا تمت له بصلة ولا تعود لأحد.

مد ثويني يديه فوق النار ملقيا فيها الهوية والخاتم . نظر الى ما وراء سدة النهر، لاحت له العتمة القادمة من بعيد، على الأرض، شيئا فشيئا، أبراج الهمرات وهي تتعرج خلف النهر عائدة نحوه جالبة معها شاحنة فيها حراس. لاحظ فوق الهمرات البهاء اللازوردي الذي تخلفه شمس غاربة، انتبه الى أنه، منذ سنين، لم يشعر بجمال السماء، لم ينظر اليها نظرة تكفي لأن تبعث النشوة في نفسه والرضا منذ زمن بعيد.

2007
من مجموعة (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) 2018

تعليقات

الاستاذ جودت
انت قاص محترف.. وهذه الرواية القصيرة تجاوزت حد الاعجاز حتى لتتقلص أمام سطورها أقاصيص كونديرا وتشيخوف...
القص المدهش.. اللغة المحترفة.. الحبكة.. التفكيك السيكولوجي ... حرب الحب الباردة... التاريخ والحاضر .. ولحظة تكشف جثة ابنة العم .. ووصف وجهها قبل الموت.. تدور القصة لتكشف لنا أن البطل هو من اطلق النار عليها... ليس لقتلها ولكن لقتل أمل مهزوم في معركة خسرها القلب مسبقا.. مسعود الصديق العدو ... الذي ظل وسما للهزيمة يرفض الموت حتى لا يقضي على الذاكرة المسمومة.
قصة رائعة من كاتب عملاق...
امتعتني جدا وسهرت حتى الآن في اجتراع جملها واستعاراتها بشراهة الجوعى لابداع مضى وقت طويل لم تنصب له مائدة حقيقية كما حدث اليوم.
تحياتي
 
ممتن لك استاذ أمل وتفرحني جدا هذه القراءة المخلصة والمعمقة، سنتواصل إن شاء الله. لدي الآن قصة أكتبها، من أجواء الماضي الذي سردت جانبا منه في القبر الجماعي، يمكن تصنيفها بالطويلة وربما تتحول الى رواية.. لا ادري. سيسعدني أن أجد الوقت الكافي بعدها للإطلاع على كتاباتك وتأملها مليا. تحياتي
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...