محمد زفزاف - جيمس جويس

يفتح زجاجة النبيذ الأحمر. يتذكر قولة جيمس جويس" النبيذ الأبيض يحرك الأرجل أما الأحمر فيحرك الرؤوس".
كان يعبه باستمرار مع نينو فرانك و مع صام بكيت و مع جيلي و مع الآخرين . و لكنه مع ذلك استطاع أن يكتب كتابين لا غير . الباقي زيادات. قال جويس:
ـ لم أكتب إلا كتابا واحدا. و لم أكتب إلا عن شخص واحد: ليبولد بلوم، أما أنت فماذا كتبت؟...
يصب من زجاجة النبيذ الأحمر، يدلق الكأس الأولى في جوفه. يتأمل السؤال و يديره في رأسه مرات متعددة، يلوك السؤال في فمه. يختلط مع مرارة الخمر و التبغ مجتمعين. يبتلعه، ثم يقيئه مرة أخرى ليعيد الهذيان و المضغ.
" و ماذا فعلت؟..آه..ماذا فعلت؟".. يتوجه لجويس:
ـ الكتابة عن شخص واحد. هذا شيء صعب. فليكن بلوم أو فليكن قدور. شيء بشع أن يقضي الإنسان على القيام بشيء آخر غيره.
و قال ابنه جيورجيو:
ـ من الأفضل ألا يكتب الإنسان شيئا، و أن تكون مهمته هي مضايقة شخص مثل جويس.
هل صحيح أن النبيذ الأحمر يحرك الرؤوس؟... يعب الكأس الثانية و يدخن، يهز رأسه و ينظر من وراء زجاج النافذة إلى العمارة ذات الطلاء الأحمر التي تحجب عنه السماء. الساعة السادسة مساء من يوم صيفي. أشعة الشمس تنعكس على العمارة . إنه لا يعرف ما الذي كان يفعله جويس في مثل هذا الوقت، و صامويل بيكيت؟..لا شك أنه كان نائما في الفندق أو ممددا على الفراش في المستشفى، عندما غرز فيه أحد المشردين سكينه. و ربما كان صام بيكيت ينتظر زيارة جويس في مثل تلك الساعة . على كل حال، فكل شيء محتمل، و في أية ساعة من الأربع و العشرين ساعة . و قال جيورجيو:
ـ إن الإنسان لا يمكنه أن يملك الوقت، فالوقت ينفلت من بين أصابعنا كالماء. استمع إليه بإمعان. فكر أن جيورجيو يخرف. الوقت يمكن أن يُمْتَلَكَ. لأن الوقت في ترييستا ليس هو الوقت في دبلن أو زوريخ أو الدار البيضاء.
و قال لجيورجيو:
ـ إن أباك امتلك وقتا معينا في دبلن.
قال جويس:
ـ و لقد ظللت أمتلكه في ناس دبلن، ضيعته مرارا لكني استعدته على مراحل. ليس هناك أي احتمال آخر. كل شيء يمكن أن يحصل. و أنت ماذا فعلت بوقتك؟...
كان السؤال محرجا بالنسبة إليه . و رغم ذلك، فقد تصور أن له علاقة بالسؤال الذي وجهه إليه جويس في السابق. أخذ يهذي مرة أخرى:
" ماذا كتبت؟ و ماذا فعلت بوقتي؟".
ردد السؤالين معا مرات متعددة. لم يكن رأسه يتحرك، و لكن عينيه ظلتا مركزتين على الطلاء الأحمر أمامه. جال بنظراته في الغرفة و هو متكئ بظهره على وسادة محشوة بالحلفاء. آلمته الوسادة قليلا فغير وضع جلسته و قال لجويس:
ـ ماذا فعلت بوقتي؟..لا أدري. كل ما أعرف أنني أتحدث إليك ألان. و أستطيع أن أقول لك إني أنظر من نافذة غرفة ما، و أرى أشعة الشمس تنعكس على طلاء عمارة حمراء. و أن الهدوء سائد في هذه اللحظة. و أن كل شيء مخالف تماما لأوقاتك. و قال جيورجيو:
ـ و هو يشرب النبيذ الأحمر الآن.
أكد نينو فرانك:
ـ هذا ما لم تكن تحبه يا جويس.
رد جويس:
ـ صحيح، لكن كل شيء يمكن أن يلائم أي شيء في وقت ما و في مكان ما . النبيذ مُر لكنه يعطي إمكانية إعادة النظر في كل شيء. فكر في آخر العمالقة مالكوم لوري، و تخيله و هو يحترق فوق فوهة بركانه. كانت روايته رائعة في الوقت الذي كانت فيه حياته قاسية. فكر أيضا في صديقته و تمنى لو يتزوجها ، ليست له أي فكرة عن الزواج، لأنه دائما يتخوف، فهو لم يعرف هذه التجربة بعد. لا يدري كيف كان الزواج في ذلك الوقت . هل كانت المرأة حقا بركانا مثل بركان مالكوم لوري. يجلس الإنسان على فوهته و يظل طول حياته يستلذ بتفسخ جلده؟..خطر له أن يسأل جويس:
ـ كيف كانت نورا جويس؟..هل كانت بركانا أم كانت رمادا؟...
تجرع جويس كأسا من النبيذ الأبيض، تلمظ بشفتيه. مسحهما بظهر كفه اليمنى، و سوى نظارتيه الدائريتين. استرخى قليلا ثم أجاب:
ـ كانت رمادا أبديا. و لذلك لم تتح لنا إمكانية الاستمرار. اسأل إيطالوسفيفو، آه ! إني أعرف ما يمكن أن يفكر به، لكني مع ذلك أحيلك عليه.
(لا يمكن أن أحال على كل التاريخ. فالتاريخ يتناقض. و كل التجارب تختلف، إن ف. ليست هس نورا جويس، و ليست هي الجارة التي تسكن على بعد أمتار مني كما أنها ليست من أولئك اللواتي يفعلن شيئا ما الآن في العمارة المقابلة ذات الطلاء الأحمر).
الصمت سائد في الغرفة التي يجلس فيها وحده. تحامل على نفسه و جر قدميه إلى التواليت. و هناك وضع رأسه تحت صنبور الماء. لا يدري بأي وازع فعل ذلك، هل كل تصرف إنساني هو في الأصل لا إرادي؟..أقنع نفسه بأنه يفعل ذلك بإرادته الحرة الصادقة. و قال لنفسه بأنه إذا لم يفعل ذلك فإنه سينتهي حتما إلى الجنون. لابد و أن يحمل مثل أفكار الآخرين و أن يتصرف مثلهم حتى و لو كان وحده.
إذا كان جيمس جويس نعجة عجوزا ذبحت يوم 13 يناير 1941، فهو ما يزال خروفا، و لا يدري متى سيساق الخروف إلى المجزرة. و لكنه يعرف ذلك المثل الرائع الذي يردده الناس من حوله. يوم عيد الأضحى ، لا يمكننا أن نتكهن بأسبقية الذبح. هل يكون ذلك للشاة الصغيرة أم للشاة الكبير ة . ذلك شيء خارج عن إرادة النعاج طبعا. و هو يجفف شعر رأسه بالفوطة، سمع جيمس يقول:
ـ كان عليك أن تأخذ دوشا باردا. إن ذلك يعطيك إمكانية أكثر على إعادة توازنك العقلي.
لا تتصور أنني فاقد لتوازني. كم يخطئ الناس عندما يعتقدون أنهم أكثر توازنا من ألاخرين. لقد كان يونغ غبيا عندما ألح مرارا على أن يجري عليك فحصا طبيا.
ـ لم تكن فكرته. و لكنها كانت فكرة تلك التي اعتقدت أنها بثروتها تستطيع أن تلهو بالإنسان مثلما تلهو بكلابها و قططها.
ـ أعرف ذلك يا جويس. إن المرأة تستطيع أن ترتكب أية حماقة ممكنة في هذا العالم . أية حماقة يمكن يمكن للرجل فقط أن يتصورها.
كان شبح جويس يتجول بين الأشجار في شارع خال من الناس معتمدا على عكازته، و في كل مرة يسوي قبعته فوق رأسه، لأن الريح تكاد تطيح بها، و حوله أوراق خريفية تتساقط. لقد كانت غالبا أوراق شجر الساج، تتكوم الأوراق تحت قدميه فيدوسها لتحدث خشخشة رتيبة و خافتة. يمضي جويس إلى نهاية الشارع في اتزان و وقار، يتوقف قليلا، و يتأمل شيئا ما أمامه. بعد ذلك يقرر أن يرجع إلى المكان الذي انطلق منه . يهتز جسده ببطء، و يقبل الآن كما لو كان يقوم بجولة صبيحة ذات يوم أحد. تختفي الأشجار و تختفي الأوراق و الشارع..
يقول جويس:
ـ كان ذلك شيئا رائعا. عن اللحظة التي يخلو فيها الإنسان بنفسه هي لحظة الألوهية.
رد على جويس و هو يحتسي جرعة من النبيذ الأحمر:
ـ عندنا شاعر عربي، يا جويس، اسمه أبو العلاء المعري يقول: توحد فإن الله ربك واحد.
ـ إن ذلك لا يفاجئني.
كل الأفكار قيلت ، غير أن تجربة الأفراد وحدها هي التي تختلف.
ـ أعرف ذلك يا جويس.
ـ إني أعرف أنك تعرف، لكن ما يهم هو فتح آفاق للنفس البشرية حتى تجد راحتها و الأمر لا يتعلق أبدا بالكتابة وحدها.
ـ لا أدري مدى فتحك لتلك الآفاق يا جويس.
ـ ذلك سر احتفظ به لنفسه. المهم هو المحاولة.
أرخى نصف جسمه الضعيف على الأريكة ، و مدد ساقيه النحيلتين إلى الأمام. كان كاس النبيذ الأبيض في يده المعروقة مملوءا حتى النصف. رفعه في وجه الآخر الذي أخذ رأسه يدور. و قال جويس:
ـ في صحة تلك الآفاق التي سوف تُفتح.
عب الآخر كأس النبيذ الأحمر دفعة واحدة، ثم أفرغ الأخرى و الأخرى.
و لم يعد رأسه يدور و لكنه ثقل و تدلى فوق الموكيت، كان شيء كالقيء يحيط به. تأمل جويس ذلك المشهد، لم يعتب عليه . لكنه رفع الرأس و أبعده عن تلك القذارة. اعتمد على عكازته. ثم وقف بهدوء و اتزان و اختفى نهائيا من ذلك الشارع الذي كان يحب المشي فيه دائما....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية: غجر في الغابة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...