لو ما لقتنيش علي »ريش».. تلقاني ع »النيل».
هكذا كان يضرب أحد أخوالي مواعيد مقابلته لأصحابه كلما خرج من القرية قاصدا مدينة أسيوط لحضور جلسة أو قضاء مصلحة أو زيارة بيت من بيوت الدعارة في »الوسعة». وقتها لم أكن قد رأيت أسيوط بعد. وعندما عدت إلي مدينة أسيوط بعد رحلة طلب العلم في القاهرة في نهاية الستينيات من القرن العشرين، لم أفكر في لقاء خالي لا علي »ريش» ولا علي »النيل»، بعد أن تبين لي أن كليهما مقهي من المقاهي المشهورة في أسيوط.
فأنا لم أكن في يوم من الأيام من هواة الجلوس علي المقاهي. كما أني لم يكن لي من الأصدقاء من أنتظرهم علي المقاهي. وكانت المقاهي في القاهرة تكلف الجالس عليها مالا أنا أحوج إليه. فقد كنت أفضل أن أشتري بثمن المشروب كتابا يسد نهمي للقراءة يوما أو بعض يوم حين كان الكتاب أرخص من كوب الشاي.
وحين استوطنت حي الحمراء بمدينة أسيوط، لم أفكر في اتخاذ مقهي من المقاهي للجلوس عليه ككل الشباب، فليس لدي من الوقت ما أنفقه علي المقهي، فكل ما أهتم به موجود في مبني جميل بوسط المدينة هو »قصر ثقافة أسيوط». هناك كنت ألتقي أصدقائي من الممثلين والشعراء وبعض الرواد من عشاق المسرح والموسيقي والسينما والفنون الأخري. كنا نتجمع في باحة قصر الثقافة تلك الحديقة الصغيرة، نتداول في جلستنا تلك القضايا التي يهتم بها المثقفون الفكرية والفنية بل والسياسية أيضا.
وكانت القضايا السياسية هي ما يزعج »مديرالثقافة» خاصة وأن منا من يختلف مع النظام في توجهاته، فمنا الشيوعي والناصري والإخواني والليبرالي.. بل إن أحد الضباط المثقفين الذي كان صديقا لنا تولي إدارة مباحث أمن الدولة في محافظة هامة من محافظات الصعيد. وحين توجس مدير الثقافة خيفة من عواقب ذلك التجمع الذي يسهر لمنتصف الليل، أمر عامل القصر أن يغلق المخزن علي المقاعد حتي لا نجلس، ويدعي أن المفتاح مع مدير القصر. ومما أحنق الرجل أننا لم نلتفت إلي ما دبره بل جلسنا علي السلالم الخارجية وتابعنا مناقشاتنا التي تتولد من خلالها أفكار العروض المسرحية وملامح القصائد وأنوية الروايات.
استمر مقهانا المختار قصر الثقافة حتي وقعت واقعة »عفريت العلبة». وعفريت العلبة كان عنوان المقال الذي كتبته لمجلة »اللقاء» التي كنت من مؤسسيها ورئيس تحريرها، وكنا ننشر فيها بعض ما نكتب من قصائد وقصص وغير ذلك. أغضب المقال مدير قصر الثقافة وقرر مصادرة العدد، واستدعاني وأغلظ لي القول باعتباره صاحب المكان ومالك المجلة و»الحجاج بن يوسف الثقافي» كما أطلق عليه أحد ظرفاء رواد القصر. ولم أتحمل أن يغلظ لي القول فرددت له الكيل بنفس المكيال، فما كان منه إلا تقدم شكوي ضدي لقسم أول أسيوط، وخاطب كل المواقع الثقافية داخل أسيوط، بل وخارجها بحظر التعامل معي كشاعر وككاتب مسرحي.
لم يرق هذا السلوك من جانب مدير الثقافة لأصحابي من الشعراء والكتاب من أعضاء نادي الأدب فقرروا تضامنا معي أن يمتنعوا عن عقد جلسات نادي الأدب، تضامن البعض مع المدير طبعا، وتضامن معنا الشاعر والصحفي الكبير محسن الخياط رحمه الله، والروائي والصحفي الكبير محمد جبريل متعه الله بالعافية وشنا حملة قوية جعلت مباحث أمن الدولة تستدعيني لأول مرة ونصحت بالتهدئة. وكان من الضروري أن نبحث عن مكان بديل نعقد فيه جلسات يوم السبت لأعضاء نادي الأدب.
اقترح بعض الأصدقاء »قهوة النيل» ورحبنا جميعا بالمقر البديل. ولمن لا يعرف أسيوط ، تتركز مقاهيها منذ نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر في منطقتين : ميدان المحطة.. حول محطة السكة الحديد، ومنطقة الوسعة وعزبة الطرح حيث دور البغاء التي رخص بها حتي خمسينات القرن العشرين. ومنها المقهي التي انتظر عليها »متولي» أخته شفيقة ليقتلها وينتظر عليها قدوم الشرطة للقبض عليه.
ومن أشهر مقاهي المحطة »قهوة النيل» التي أنشأها »الخواجة باولو» في نهاية القرن التاسع عشر والتي شهدت تجمعات ثوار 1919 قبل خروج المظاهرات. وما تزال قائمة حتي اليوم بنفس شكلها. وإن كانت أنشطتها تغيرت بتغير أحوال البلاد. فقد أغلقت كل البارات ومحلات بيع الخمور في أسيوط بظهور الجماعات الإسلامية العنيفة في نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين. وكانت وقت افتتاحها تشتمل علي قسم علوي يقدم بعض المشروبات وبعض الأطعمة الشعبية، أما القسم الداخلي والذي تنزل إليه يدرجات ثلاث فهو »بار» يقدم الخمور ليلا ونهارا، وما تزال بعض مراياه حتي الآن علي الحوائط، وقد رأيت علي تلك المرايا بعض الإعلانات عن المشروبات التي كانت تقدم.
لأسبوعين أو ثلاثة نعمنا بجلساتنا الثقافية، حتي تسرب خبر إجتماعنا إلي »الحجاج بن يوسف الثقافي» فأبلغ مباحث أمن الدولة عن اجتماعات مشبوهة تعقد في »بار النيل».. تتبني الأفكار الهدامة التي تستهدف النظام...إلخ. بعدها رأينا تلك الوجوه المترصدة من مرشدي مباحث أمن الدولة تتصيد كلماتنا. وقبل أن يتطور الأمر إلي ما لا يحمد عقباه نجح الفنان التشكيلي سعد زغلول والفنان الصحفي »هبة عناية» في تقريب الهوة بيننا وبين مدير الثقافة.. فتم التصالح وعدنا إلي اجتماعنا مرة أخري إلي قصر ثقافة أسيوط.. ولم أعد إلي »قهوة النيل» إلا حين نريد أن نقدم الشيشة إلي بعض ضيوفنا الأدباء القاهريين.
هكذا كان يضرب أحد أخوالي مواعيد مقابلته لأصحابه كلما خرج من القرية قاصدا مدينة أسيوط لحضور جلسة أو قضاء مصلحة أو زيارة بيت من بيوت الدعارة في »الوسعة». وقتها لم أكن قد رأيت أسيوط بعد. وعندما عدت إلي مدينة أسيوط بعد رحلة طلب العلم في القاهرة في نهاية الستينيات من القرن العشرين، لم أفكر في لقاء خالي لا علي »ريش» ولا علي »النيل»، بعد أن تبين لي أن كليهما مقهي من المقاهي المشهورة في أسيوط.
فأنا لم أكن في يوم من الأيام من هواة الجلوس علي المقاهي. كما أني لم يكن لي من الأصدقاء من أنتظرهم علي المقاهي. وكانت المقاهي في القاهرة تكلف الجالس عليها مالا أنا أحوج إليه. فقد كنت أفضل أن أشتري بثمن المشروب كتابا يسد نهمي للقراءة يوما أو بعض يوم حين كان الكتاب أرخص من كوب الشاي.
وحين استوطنت حي الحمراء بمدينة أسيوط، لم أفكر في اتخاذ مقهي من المقاهي للجلوس عليه ككل الشباب، فليس لدي من الوقت ما أنفقه علي المقهي، فكل ما أهتم به موجود في مبني جميل بوسط المدينة هو »قصر ثقافة أسيوط». هناك كنت ألتقي أصدقائي من الممثلين والشعراء وبعض الرواد من عشاق المسرح والموسيقي والسينما والفنون الأخري. كنا نتجمع في باحة قصر الثقافة تلك الحديقة الصغيرة، نتداول في جلستنا تلك القضايا التي يهتم بها المثقفون الفكرية والفنية بل والسياسية أيضا.
وكانت القضايا السياسية هي ما يزعج »مديرالثقافة» خاصة وأن منا من يختلف مع النظام في توجهاته، فمنا الشيوعي والناصري والإخواني والليبرالي.. بل إن أحد الضباط المثقفين الذي كان صديقا لنا تولي إدارة مباحث أمن الدولة في محافظة هامة من محافظات الصعيد. وحين توجس مدير الثقافة خيفة من عواقب ذلك التجمع الذي يسهر لمنتصف الليل، أمر عامل القصر أن يغلق المخزن علي المقاعد حتي لا نجلس، ويدعي أن المفتاح مع مدير القصر. ومما أحنق الرجل أننا لم نلتفت إلي ما دبره بل جلسنا علي السلالم الخارجية وتابعنا مناقشاتنا التي تتولد من خلالها أفكار العروض المسرحية وملامح القصائد وأنوية الروايات.
استمر مقهانا المختار قصر الثقافة حتي وقعت واقعة »عفريت العلبة». وعفريت العلبة كان عنوان المقال الذي كتبته لمجلة »اللقاء» التي كنت من مؤسسيها ورئيس تحريرها، وكنا ننشر فيها بعض ما نكتب من قصائد وقصص وغير ذلك. أغضب المقال مدير قصر الثقافة وقرر مصادرة العدد، واستدعاني وأغلظ لي القول باعتباره صاحب المكان ومالك المجلة و»الحجاج بن يوسف الثقافي» كما أطلق عليه أحد ظرفاء رواد القصر. ولم أتحمل أن يغلظ لي القول فرددت له الكيل بنفس المكيال، فما كان منه إلا تقدم شكوي ضدي لقسم أول أسيوط، وخاطب كل المواقع الثقافية داخل أسيوط، بل وخارجها بحظر التعامل معي كشاعر وككاتب مسرحي.
لم يرق هذا السلوك من جانب مدير الثقافة لأصحابي من الشعراء والكتاب من أعضاء نادي الأدب فقرروا تضامنا معي أن يمتنعوا عن عقد جلسات نادي الأدب، تضامن البعض مع المدير طبعا، وتضامن معنا الشاعر والصحفي الكبير محسن الخياط رحمه الله، والروائي والصحفي الكبير محمد جبريل متعه الله بالعافية وشنا حملة قوية جعلت مباحث أمن الدولة تستدعيني لأول مرة ونصحت بالتهدئة. وكان من الضروري أن نبحث عن مكان بديل نعقد فيه جلسات يوم السبت لأعضاء نادي الأدب.
اقترح بعض الأصدقاء »قهوة النيل» ورحبنا جميعا بالمقر البديل. ولمن لا يعرف أسيوط ، تتركز مقاهيها منذ نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر في منطقتين : ميدان المحطة.. حول محطة السكة الحديد، ومنطقة الوسعة وعزبة الطرح حيث دور البغاء التي رخص بها حتي خمسينات القرن العشرين. ومنها المقهي التي انتظر عليها »متولي» أخته شفيقة ليقتلها وينتظر عليها قدوم الشرطة للقبض عليه.
ومن أشهر مقاهي المحطة »قهوة النيل» التي أنشأها »الخواجة باولو» في نهاية القرن التاسع عشر والتي شهدت تجمعات ثوار 1919 قبل خروج المظاهرات. وما تزال قائمة حتي اليوم بنفس شكلها. وإن كانت أنشطتها تغيرت بتغير أحوال البلاد. فقد أغلقت كل البارات ومحلات بيع الخمور في أسيوط بظهور الجماعات الإسلامية العنيفة في نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين. وكانت وقت افتتاحها تشتمل علي قسم علوي يقدم بعض المشروبات وبعض الأطعمة الشعبية، أما القسم الداخلي والذي تنزل إليه يدرجات ثلاث فهو »بار» يقدم الخمور ليلا ونهارا، وما تزال بعض مراياه حتي الآن علي الحوائط، وقد رأيت علي تلك المرايا بعض الإعلانات عن المشروبات التي كانت تقدم.
لأسبوعين أو ثلاثة نعمنا بجلساتنا الثقافية، حتي تسرب خبر إجتماعنا إلي »الحجاج بن يوسف الثقافي» فأبلغ مباحث أمن الدولة عن اجتماعات مشبوهة تعقد في »بار النيل».. تتبني الأفكار الهدامة التي تستهدف النظام...إلخ. بعدها رأينا تلك الوجوه المترصدة من مرشدي مباحث أمن الدولة تتصيد كلماتنا. وقبل أن يتطور الأمر إلي ما لا يحمد عقباه نجح الفنان التشكيلي سعد زغلول والفنان الصحفي »هبة عناية» في تقريب الهوة بيننا وبين مدير الثقافة.. فتم التصالح وعدنا إلي اجتماعنا مرة أخري إلي قصر ثقافة أسيوط.. ولم أعد إلي »قهوة النيل» إلا حين نريد أن نقدم الشيشة إلي بعض ضيوفنا الأدباء القاهريين.