سيارات تلتهم الشارع بسرعة فائقة، باعة متجولون اكتفوا من المزايدة برفع أصواتهم، أناس يسرعون الخطى للالتحاق بمنازلهم، و آخرون يمشون الهوينى في اتجاه المسجد مسلحين بقارورات ماء، شباب يقفون بناصية الشارع وأعينهم على مصباح المئذنة للبدء في شرب سيجارة أو ما شابهها، وصاحب المقهى يصفف كراسي الواجهة و يرش الرصيف، في انتظار قدوم أول الزبائن. كان ذاك حال الشارع حين ألقيت عليه نظرة، بينما أنا أحضر الفطور الذي لم يتبق على موعده إلا دقائق معدودات.
أما صغيري فقد لبس عباءته، وضع طربوشه الأحمر، وانتعل بلغته الصفراء، ثم جلس إلى المائدة ما إن بدأت بتهيئتها. أصر على الجلوس مكان أبيه مزهوا بنفسه، ما دام أنه على وشك إنهاء أول أيام صيامه. فما إن يقترب منه أحدنا، حتى يفتح له فمه و يخرج له لسانه ليرينا مدى بياضه.
حظه العاثر جعله يخوض أولى تجاربه مع الشهر الفضيل في يوم حار و نحن في عز فصل الربيع. حاولت جاهدة طوال اليوم أن أجعله يفطر، إلا أنه ظل مصمما على قراره. لقد أمضى اليوم بأكمله بين اليوتوب و البلاي ستايشن و السبايس تون، وها هو الآن في هيئة ناسك متعبد ينتظر رفع آذان المغرب .
تتزايد لهفته مع كل طبق أضعه على المائدة. فتارة يعد حبات التمر التي وضعتها أمامه، و تارة أخرى يتحسس زجاجة العصير ليتأكد من برودتها. ثم يرفع عينيه إلى الساعة المعلقة قبالته، و يسألني للمرة الألف عن موعد الآذان. آه.. عيل صبر المسكين.
خفت عليه و جلست بجانبه أحدثه عن ذكرى أول يوم صُمتُه حين كنت بمثل سنه. ما حكيته له جعله يطلق العنان للسانه ليخبرني عن مضمون درس الصيام الذي تلقاه بالمدرسة، و الثناء الذي سيتحصل عليه من المعلمة.
أسرَّ لي، و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة، بنيته الاستهزاء من صديقه، الذي ما زال يخيط أنصاف الأيام ببعضها البعض، و يُوهم نفسه بالصيام. ثم عرَّج عن السؤال عن علامات بلوغه سن الصيام. متى؟ و كيف؟ و لماذا؟..
حاصرني بأسئلة بريئة لم أعرف لها أجوبة محددة و شافية. في الحقيقة كنت أعرف الأجوبة، لكن تعسَّر عليَّ التعبير عنها بما يتناسب مع سنه. فصرت أنتقي كلماتي، و ألوكها جيدا، قبل أن أتفوه بها.وصل بي الإحراج لدرجة مناجاة ربي في سري، كي يجعل لي مخرجا من المأزق الذي وُضعت فيه.
و بينما أنا مستغرقة بالحديث مع صغيري، رأيت الطفلة التي كنتُها قبل سنوات، تجلس بجانبي إلى المائدة، وتتطلع إليَّ في صمت. ها هي ذي تتجلى أمامي بشعرها الأسود الحريري و عينيها السوداوتين. تشبهني هذه الصغيرة كثيرا بل بالأحرى أنا التي أشبهها، فهي الأصل و ما أنا إلا امتداد لها.
ها نحن نلتقي بعد ثلاثين سنة ونيف، لتتعانق نظراتنا، نظرة حزن وأخرى كلها تساؤل. حاولَت الابتسام لي لكن بسمتها كانت منطفئة، فتسابقت الكلمات من فمي لأعرف سبب كدرها.
- ما بك يا صغيرتي؟
- أنا حزينة..
- لا يجدر بك ذلك، فهذا أول أيام صيامك..
- لكنني لم أصُم..
- كيف؟
- نسيت و ارتشفت شربة ماء..
- لا عليك، مقبول صيامك بإذن الله.
ابتسمتُ لها لعلني أمتص غضبَها، لكن هيهات.. هيهات.. غضبها من نفسها كان أكبر من وقع كلماتي عليها.
أتذكر يومها أن أمي حاولت جاهدة أن تقنعني بأن الدين دين يسر، وأن الله سيغفر لي خطأي، مادمت لم أفعل ذلك عن قصد. لكنني ظللت على رأيي، و لم تستطع قط إقناعي بوجهة نظرها لأنني وحدي من كانت تعرف بحقيقة صيامي. من أدراها أنني لم أفعل ذلك عن غير قصد؟ هل خطر ببالها أنني لم أستطع الصيام يومها، و شربت الماء في غفلة من الجميع ثم أتقنت بعدها أداء دور الطفلة الصائمة.
لم تكن أمي تعلم بأمر التحدي الذي رفعته بوجه قريناتي، اللواتي بدأن صيام الشهر بأكمله منذ سنتين مضت، على عكسي أنا. إذ كنت أشكل الاستثناء بينهن، و وددت يومها أن أثبت لهن أنني جديرة بولوج عالم النساء مثلهن.
كنَّ يتحين الفرصة للتباهي أمامي بفورة شبابهن، بينما أنا مازلت تلك الطفلة التي عهدتُني منذ أن وعيت على نفسي. لم يتغير أي شيء بجسدي. لا شعر زائد، و لا انتفاخ، و لا منحنيات بعودي، و لا حتى حب الشباب...
كنت أتساءل باستمرار لمَ لمْ تعط الانطلاقة بعد لمسلسل الانتحار الدوري لما يختزنه رحمي؟ لمَ لمْ أنعم بطعم الألم أول كل شهر لحد الآن؟ ترى لمَ تأخر الموعد؟ ألا استحق أن أصير امرأة مكتملة الأنوثة مثلهن؟
حرب ضروس بين بنات أفكاري، تمخضت عنها أسئلة عديدة لطالما تقاذفتني وقتها. حاولت أمي لمرات عديدة،الإجابة عنها بطريقتها البسيطة، و هي التي لم تلج قط لا مدرسة، و لا جامعة، و لم تسمع حتى بجلسات الكوتشينغ.
تقاذفتني بعدها السنين و تُهت بدروب الحياة. ركبت قطار العمر الذي مر بمحطات التفوق كما الانكسار. ترعرعتُ و كبرتُ ،لأصبح أماً لطفل بعد أن كنت طفلة أمي. وجدتُني ألعب الدور نفسه مع ابني. ها أنا ذا اقرأ عليه زبور أمي من وعظ و نصح و توجيه، دون أن أجعله يتراجع عن قرار صيامه المفترض.
رُفع الآذان أخيرا، فتوارت الطفلة عن ناظري، و عدت لأهتم بأمر ابني الذي هلل فرحا ببلوغه خط الوصول، و انقض يلتهم كل ما طالته يده الصغيرة. ابتلت العروق و ذهب الظمأ و الله أعلم إن كان سيثبت أجر صغيري أم لا؟ خفت أن يكون قد نسي أو تناسى و ارتشف شربة ماء..
آمال الحرفي
بني ملال 20 ماي 2019
أما صغيري فقد لبس عباءته، وضع طربوشه الأحمر، وانتعل بلغته الصفراء، ثم جلس إلى المائدة ما إن بدأت بتهيئتها. أصر على الجلوس مكان أبيه مزهوا بنفسه، ما دام أنه على وشك إنهاء أول أيام صيامه. فما إن يقترب منه أحدنا، حتى يفتح له فمه و يخرج له لسانه ليرينا مدى بياضه.
حظه العاثر جعله يخوض أولى تجاربه مع الشهر الفضيل في يوم حار و نحن في عز فصل الربيع. حاولت جاهدة طوال اليوم أن أجعله يفطر، إلا أنه ظل مصمما على قراره. لقد أمضى اليوم بأكمله بين اليوتوب و البلاي ستايشن و السبايس تون، وها هو الآن في هيئة ناسك متعبد ينتظر رفع آذان المغرب .
تتزايد لهفته مع كل طبق أضعه على المائدة. فتارة يعد حبات التمر التي وضعتها أمامه، و تارة أخرى يتحسس زجاجة العصير ليتأكد من برودتها. ثم يرفع عينيه إلى الساعة المعلقة قبالته، و يسألني للمرة الألف عن موعد الآذان. آه.. عيل صبر المسكين.
خفت عليه و جلست بجانبه أحدثه عن ذكرى أول يوم صُمتُه حين كنت بمثل سنه. ما حكيته له جعله يطلق العنان للسانه ليخبرني عن مضمون درس الصيام الذي تلقاه بالمدرسة، و الثناء الذي سيتحصل عليه من المعلمة.
أسرَّ لي، و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة، بنيته الاستهزاء من صديقه، الذي ما زال يخيط أنصاف الأيام ببعضها البعض، و يُوهم نفسه بالصيام. ثم عرَّج عن السؤال عن علامات بلوغه سن الصيام. متى؟ و كيف؟ و لماذا؟..
حاصرني بأسئلة بريئة لم أعرف لها أجوبة محددة و شافية. في الحقيقة كنت أعرف الأجوبة، لكن تعسَّر عليَّ التعبير عنها بما يتناسب مع سنه. فصرت أنتقي كلماتي، و ألوكها جيدا، قبل أن أتفوه بها.وصل بي الإحراج لدرجة مناجاة ربي في سري، كي يجعل لي مخرجا من المأزق الذي وُضعت فيه.
و بينما أنا مستغرقة بالحديث مع صغيري، رأيت الطفلة التي كنتُها قبل سنوات، تجلس بجانبي إلى المائدة، وتتطلع إليَّ في صمت. ها هي ذي تتجلى أمامي بشعرها الأسود الحريري و عينيها السوداوتين. تشبهني هذه الصغيرة كثيرا بل بالأحرى أنا التي أشبهها، فهي الأصل و ما أنا إلا امتداد لها.
ها نحن نلتقي بعد ثلاثين سنة ونيف، لتتعانق نظراتنا، نظرة حزن وأخرى كلها تساؤل. حاولَت الابتسام لي لكن بسمتها كانت منطفئة، فتسابقت الكلمات من فمي لأعرف سبب كدرها.
- ما بك يا صغيرتي؟
- أنا حزينة..
- لا يجدر بك ذلك، فهذا أول أيام صيامك..
- لكنني لم أصُم..
- كيف؟
- نسيت و ارتشفت شربة ماء..
- لا عليك، مقبول صيامك بإذن الله.
ابتسمتُ لها لعلني أمتص غضبَها، لكن هيهات.. هيهات.. غضبها من نفسها كان أكبر من وقع كلماتي عليها.
أتذكر يومها أن أمي حاولت جاهدة أن تقنعني بأن الدين دين يسر، وأن الله سيغفر لي خطأي، مادمت لم أفعل ذلك عن قصد. لكنني ظللت على رأيي، و لم تستطع قط إقناعي بوجهة نظرها لأنني وحدي من كانت تعرف بحقيقة صيامي. من أدراها أنني لم أفعل ذلك عن غير قصد؟ هل خطر ببالها أنني لم أستطع الصيام يومها، و شربت الماء في غفلة من الجميع ثم أتقنت بعدها أداء دور الطفلة الصائمة.
لم تكن أمي تعلم بأمر التحدي الذي رفعته بوجه قريناتي، اللواتي بدأن صيام الشهر بأكمله منذ سنتين مضت، على عكسي أنا. إذ كنت أشكل الاستثناء بينهن، و وددت يومها أن أثبت لهن أنني جديرة بولوج عالم النساء مثلهن.
كنَّ يتحين الفرصة للتباهي أمامي بفورة شبابهن، بينما أنا مازلت تلك الطفلة التي عهدتُني منذ أن وعيت على نفسي. لم يتغير أي شيء بجسدي. لا شعر زائد، و لا انتفاخ، و لا منحنيات بعودي، و لا حتى حب الشباب...
كنت أتساءل باستمرار لمَ لمْ تعط الانطلاقة بعد لمسلسل الانتحار الدوري لما يختزنه رحمي؟ لمَ لمْ أنعم بطعم الألم أول كل شهر لحد الآن؟ ترى لمَ تأخر الموعد؟ ألا استحق أن أصير امرأة مكتملة الأنوثة مثلهن؟
حرب ضروس بين بنات أفكاري، تمخضت عنها أسئلة عديدة لطالما تقاذفتني وقتها. حاولت أمي لمرات عديدة،الإجابة عنها بطريقتها البسيطة، و هي التي لم تلج قط لا مدرسة، و لا جامعة، و لم تسمع حتى بجلسات الكوتشينغ.
تقاذفتني بعدها السنين و تُهت بدروب الحياة. ركبت قطار العمر الذي مر بمحطات التفوق كما الانكسار. ترعرعتُ و كبرتُ ،لأصبح أماً لطفل بعد أن كنت طفلة أمي. وجدتُني ألعب الدور نفسه مع ابني. ها أنا ذا اقرأ عليه زبور أمي من وعظ و نصح و توجيه، دون أن أجعله يتراجع عن قرار صيامه المفترض.
رُفع الآذان أخيرا، فتوارت الطفلة عن ناظري، و عدت لأهتم بأمر ابني الذي هلل فرحا ببلوغه خط الوصول، و انقض يلتهم كل ما طالته يده الصغيرة. ابتلت العروق و ذهب الظمأ و الله أعلم إن كان سيثبت أجر صغيري أم لا؟ خفت أن يكون قد نسي أو تناسى و ارتشف شربة ماء..
آمال الحرفي
بني ملال 20 ماي 2019