أول ليلة باردة في خريف عام من أعوام الألفية الثالثة.. اليوم السبت.. شعوري نحوه محايد فأنا من الجيل الذي أمضى نصف عمره يعتبره كباقي الأيام ومؤخرا أصبح رفيقا للجمعة في أجازته.. فاجأني أحد أصدقائي صباح اليوم أنه قد حصل على أجازة مفاجئة من عمله الذي تسلمه منذ فترة قصيرة وأبلغني أنه يريد أن نخرج سويًا وكلفني بمهمة الاتصال بباقي الأصدقاء حتى نجتمع كما كنا في الماضي أو أقل الماضي القريب، فنحن صحبة تناغمت أوتارها منذ سنوات وضربت صداقتنا بجذورها في الأرض فصرنا على اختلافاتنا الثقافية والنفسية كيانا واحدًا وقد ألفنا ذلك وعددناه من مميزات صداقتنا.
فور أن انتهيت من مكالمة صديقي شرعت في الاتصال ببقية أصدقائنا، لم أحبط بردود البعض لأني كنت أعرف مشاغلهم سلفا، لكني آثرت الاتصال به عله يستطيع أن ينهي أشغاله باكرًا ويأتي إلينا يؤنسنا ونأنس به، لكن في النهاية أبلغني اثنين من الأصدقاء أنهم سيحضرون، فصارت صحبة الليل رباعية وتهيأت بشئ من الملل والرتابة للخروج في تمام الثامنة.
ارتديت تي ـ شيرت صيفي، وحين خرجت من بيتنا المحاصر بغزو عمراني يحده من جميع الجوانب زراعات استقبلتني نسمات شتوية باردة ودغدغت ذراعاي العاريتين، فابتسمت ابتسامة كهل يتذكر كم مرت عليه فصول الشتاء وكم أحب وفقد ووصل بإحساسه إلى ذروته، فاستنشقت هواء أكتوبر البارد حتى ملأت رئتاي به ودفنت يداي في جيوبي وصرت أدندن أغنية محمد منير (أيديا في جيوبي وقلبي طِرِب) في نشوة … سِرت في طريقي المعتاد مستعينًا على الملل ببعض الأغاني واتجهت نحو الشارع المكتظ وعلى جانبيه محلات الملابس والموبايلات والعمارات الفاخرة والبشر، كل نحو مقصده.. أتابع الوجوه في صمت كعادتي والبشر كحالهم الرجال على وجومهم والنساء على تعجلهن والسواد الأعظم منهم قد تشكل على وجهه مزيج معد بدقة من إجهاد ويأس وإحباط وسعى لا تستطيع أن تخمن عمرهم، فالكل في الهم سواء.
تابعت السير قليلا حتى تعلق نظري فجأة عن يساري بفتاتين تسيران جنبًا إلى جنب عكس اتجاهي، تلك الحركة أنا أعرفها وتلك الملابس أيضًا، أنا أعرفها عدت إلى الخلف بخطوات سريعة دون أن اعتدل حتى صرت كاشفا لوجهيهما وصدق توقعي كانتا هما.. لا أؤمن بالصدف كصدف ولكني أؤمن تمام الإيمان أنها ما هى إلا وسائل لتوضيح صورة أو استجلاء حقيقة، لم أنشغل طويلا بالانبهار بالصدفة التي جمعتني بالفتاة التي أحببتها ولم أصارحها، وقد افترقت عنها قسرًا بعد أن أتممنا دراستنا منذ أربعة أشهر، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أدور حتى أصبحت في نفس اتجاههما، وقد اتسعت حدقتاى ثم سرت بمحاذاتهما قليلا حتى دخلتا محل أحذية في شارع جانبي.
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أقف بجوار المحل في مواجهة زجاج محل مجاور، وكأن خيط حركتي بيدها، حين توقَفَت توقفْت أنا أيضًا، بدأت في سؤال نفسي عما أفعله هنا وما أصبو إليه من وراء هذا الانجذاب العجيب، وهل وراء ذلك سوى عذابًا معتادًا سيسري في روحي المنهكة فيزيدها إنهاكا ويجعلها خائرة القوى، حين تتلقفها أي ريح ستصرعها فورًا، ما الذي جنيته من وراء ذلك كله غير إحساس زائف خالط قلبي وصار له كالوسواس الذي لا يبارح مكانه إلا بانتصار مبين، فوجدت ضعفي الذي كان ضئيلا في الأزمنة الغابرة، ولكني غذيته بتخاذلي وسلبيتي فأصبح وحشًا كاسرًا وقد كان في زمن ليس بالبعيد يتحالف مع شيطاني فيصيغا الحلم تلو الحلم حتى أستسيغه ويتمكن مني ويتحكم في مساري، لكن الآن ها هو ينبري مدافعًا عما سماه نبل أحاسيسي وسمو مشاعري وأن تلك الصدفة ما هي إشارة لوجود جسر نحو شئ بالتأكيد يفوق أجمل أحلامك وأن انتظارك لا يكلفك شيئا.
وها أنت قد مليت عينيك من رؤياها وأشبعت قلبك المشتاق والملتاع وصارت هي أدنى مما كانت طوال أربعة شهور، مضت فما العيب أن تنتظر وتنتظر حتى تخرج وما يدريك أليس الله بقادر أن يدني لك من الآمال مطامعك فتجد القلب الجلمود قد تفجرت منه عيون الماء التي ترويك وتدعم قلبك وتسند روحك، رفعت نظري فوجدت صورتي وقد تراءت لي على الزجاج بالحجم الكامل.. وها أنا أشاهدني حيث الوجه المستدير الشاحِب الذي يعلوه شعر طويل تتنافر خصلاته كل في اتجاه وتتصل به لحية متوسطة الطول تركت أثرها على جوانبه، وكأن أحدهم عبث فيه بقلم من الفحم، وفي أعلى هذا الوجه عينين تستعينا على قِصر بصره بنظارة تنظر في حيرة واستغراب واغتراب وسذاجة وحزن قد صار حليتهما، وما هى إلا بضع دقائق حتى خرجت وحدها تستطلع الفاترينة والتقت عينانا ووجدتها كما تركتها بذات النظرات المحايدة التي لا تعطيك جوابا شافيًا. لحقت بها صديقتها وأخذت تشاهد المعروضات، ثم تركا المحل وعبرا الشارع.
تغير وقتها بداخلي شئ ولكن ضعفي الكاسر نحّاه جانِبًا وقادني دون وعى وراءها عابرًا الشارع، وبسبب توازي طريقينا لم أفكر في العودة من حيث أتيت والاكتفاء بذلك، بل كان ما ينبئني أن هذه المرة ستكون مختلفة وحاسمة.. بعد دقيقة من المشي وراءهما استدارت نحوي صديقتها كأنها تستوضح ما إذا كنت مازلت في الأنحاء أم رحلت ووجدتني أنظر لها مباشرة.
لم أحاول المواربة أو إخفاء الأمر أكثر من ذلك فما نالني بسبب محاولات المداراة والفتور من ألم يفوق كثيرًا ما قد ينتابني من إحراج بسبب تلك النظرة وما أن رأتني وتيقنت من وجودي حتى أشارتا لأقرب تاكسي وصعدا فيه سريعًا وانطلقتا بعيدًا.
هنا أدركت معنى الرحيل، لا أن يرحل أحد ما من أمامك فيختفي، بل أن يرحل أحدهم من داخلك ويبتعد.. شخص ما حواه قلبك دهرًا وهو ليس لك ولا ينتمي لعالمك.. فهمت كيف يمكن للغياب الذي ظننته يشيِّد جسورًا تصل بينكما قد شيد جدارا فولاذيا قد تراها وقد تراك لكن كل منكما لن ينفذ لداخل الأخر.. راقبت التاكسي وهو يبتعد رويدًا رويدًا إلى أن غاب عن ناظري ولم أحاول اللحاق به أو تتبعه، إنما انشغلت بقراءة رقمه 4716 هذا الرقم الذي قد أعتبره باسوورد خلاصي الذي ظللت أبحث عنه طويلا دون جدوى.
القصص التي شيدت صروحها من الخيال تهوي بفعل تلك التفاصيل الصغيرة.. كانت محاولاتي قد نفذت وفي هذه المرة كنت أبحث عن قطعة البازل الأخيرة التي تحتل مكانا بارزًا في الصورة، فإما كانت تتبوأ موقعها وإما تكون غير ملائمة، فلابد ساعتها من هدم الصورة ووضع جميع القطع في مكانها والاحتفاظ بها في موقع بعيد وسط الأغراض البالية وقد كان.
هزمت ضعفي وطهرت روحي وانتصرت لا أنكر أني قد نزفت كثيرًا وتآكلت ولكني منتصر لا يهم ما أصابني ما يهمني هو نتيجة تلك المعركة، وأستطيع أن أقول بملء فمي أني أخيرًا وجدت طريقي.. أكملت طريقي نحو أصدقائي الذين وصلت إليهم متأخرًا بنحو النصف ساعة، وغاب الوقت وسط أحاديثنا التي كانت تروح وتجئ بين ماضي لا يذكر إلا بابتسامات عريضة ومستقبل لا يذكر إلا بترقب دقيق وكعادتنا ننسى أنفسنا وسط الضحكات والتنكيت على كل شئ حتى نلهث من فرط الضحكات.
انفض مجلسنا في حوالي منتصف الليل وقمت بعد أن تبادلنا السلامات والوعد باللقاء والوعيد لمن يغيب وسرت كما جئت وحيدًا وأخذت أفكر فيما حدث لي منذ بضع ساعات وتحللي وتحرري من العبء الذي انقض ظهري طوال ثلاث سنوات.
كانت الرياح في مواجهتي وقد ازداد البرد شراسة حين أتتني مع نسمات البارد ذكريات ثلاث سنوات مضت بصورة متتابعة وسريعة، فهنا أراها لأول مرة وهنا أتابعها بعيني وهنا أتبعها وهنا أنتظر خروجها من مكان عملها وهنا أراها وحيدة فتحفزني شجاعتي وأكون قاب قوسين أو أدنى من فتح قلبي على مصراعيه، لكني دائمًا ما أتراجع قبل الخطوة الأخيرة ومرت الذكريات متتابعة ومصحوبة بموسيقى هادئة ترددت في قلبي حتى وصلت إلى ما حدث اليوم.
لم أعلم ما الذي فاجأني فلم يبدر من الفتاة أي شئ سوى ما اعتبرته أنا التفاتا لي وتمحيصًا في بعينها أم تراني كنت متوهمًا وألتمس في ذلك سبيلا في دنيا العشق والعشاق، إلا أن ما حدث اليوم كان كفيلا بردي ردًا حسنا إلى قواعدي، لكني كنت مخبولا تمامًا.. تذكرت منذ 4 شهور حين رأيتها للمرة الأخيرة ورحلت كما كانت تفعل، كان قلبي يحدثني أن تلك لن تكون المرة الأخيرة التي نلتقي فيها وكثيرًا ما كان هذا الأمل يضئ أيامي الأولى المباشرة للفراق، وقد كان قابلتها ولكم ساءني ردة فعلها فصحيح أنا لم أكن أتوقع أن تهرع فور أن تراني لتلقي بنفسها بين ذراعاي وتبدأ في البكاء والحديث بصوت متهدج عن كم أسودت الحياة أثناء غيابي ولكن أيضًا لم أكن أتوقع ذاك الفتور المستفز.. أيا كان فوجب على أن اشكرها لأنها ألهمتني وأرشدتني إلى خاتمة لتلك القصة المبسترة.
أكملت سيري وخطر في بالي شئ آخر، ماذا عن الأيام التي قضيتها في حبها وبماذا أصنفها الآن، هل أعدها بقايا مراهقة متأخرة كان لابد أن تحدث ليس لها محلا من الإعراب في دفتر ذكرياتي أم أعتبرها جرحًا وألمًا سيظل يعتصرني لمدة ليست بالقصيرة ولا أغفر لها ما حدث.. الحقيقة أني احترت قليلا فلو اخترت الأول فذلك يعني اعترافي بقصوري وغبائي اللامتناهي وعدم قدرتي على كبح جماحي وعدم التمييز بين غسق المراهقة وفجر الرجولة..
وإذا اخترت الثانية فأنا أضخم الأمر وأتصرف بصبيانية وكأني طفل سلبت لعبته الأثيرة، كلا لا هذا ولا ذاك، بل هو حل وسطي سيقر عيني ويهدئ سريرتي هى ليست مراهقة طائشة ولا جرحًا غائرًا، بل تجربة أضاءت كثيرًا من البقع المظلمة في شخصيتي وغنمت منها أكثر مما غرمت فالعبرة في التجارب التي نعيشها ليست ما وصلنا له في النهاية، ولكن مقدار ما شعرنا به أثناء سعينا وكيفيته وكينونته، فأنا أقول وبكل أريحية أني في الثلاث سنوات الماضية عشت ما لم أعشه من قبل واستطعت أن أبحر داخل عِباب نفسي دون وجل أو خوف من مجهول والحياة ماضية، بيد أن ذلك لا ينكر أن السعي لسنوات وراء سراب شئ مخيب للآمال ومحبط للغاية ولكن تلك طبائع الحياة وتلك المقامرة المعتادة ترمي كل ما تملك على الطاولة لتدور الدائرة، فإما تصيب وتسعد أو تخيب فتعود مفلسًا خائبًا، وضعت يدي قدر وسعي في جيوبي وسرت أدندن:
«في ماضي منِيح بس مضى.. صفّى بالرِيح بِالفضا.. وبيضل تِذكار عن مشهد صار.. في خِبزْ في مِلح في رِضى.. ويوميِي ليل وبعده نهار.. عمري قِدامي عم ينقضى»
المنوفية
فور أن انتهيت من مكالمة صديقي شرعت في الاتصال ببقية أصدقائنا، لم أحبط بردود البعض لأني كنت أعرف مشاغلهم سلفا، لكني آثرت الاتصال به عله يستطيع أن ينهي أشغاله باكرًا ويأتي إلينا يؤنسنا ونأنس به، لكن في النهاية أبلغني اثنين من الأصدقاء أنهم سيحضرون، فصارت صحبة الليل رباعية وتهيأت بشئ من الملل والرتابة للخروج في تمام الثامنة.
ارتديت تي ـ شيرت صيفي، وحين خرجت من بيتنا المحاصر بغزو عمراني يحده من جميع الجوانب زراعات استقبلتني نسمات شتوية باردة ودغدغت ذراعاي العاريتين، فابتسمت ابتسامة كهل يتذكر كم مرت عليه فصول الشتاء وكم أحب وفقد ووصل بإحساسه إلى ذروته، فاستنشقت هواء أكتوبر البارد حتى ملأت رئتاي به ودفنت يداي في جيوبي وصرت أدندن أغنية محمد منير (أيديا في جيوبي وقلبي طِرِب) في نشوة … سِرت في طريقي المعتاد مستعينًا على الملل ببعض الأغاني واتجهت نحو الشارع المكتظ وعلى جانبيه محلات الملابس والموبايلات والعمارات الفاخرة والبشر، كل نحو مقصده.. أتابع الوجوه في صمت كعادتي والبشر كحالهم الرجال على وجومهم والنساء على تعجلهن والسواد الأعظم منهم قد تشكل على وجهه مزيج معد بدقة من إجهاد ويأس وإحباط وسعى لا تستطيع أن تخمن عمرهم، فالكل في الهم سواء.
تابعت السير قليلا حتى تعلق نظري فجأة عن يساري بفتاتين تسيران جنبًا إلى جنب عكس اتجاهي، تلك الحركة أنا أعرفها وتلك الملابس أيضًا، أنا أعرفها عدت إلى الخلف بخطوات سريعة دون أن اعتدل حتى صرت كاشفا لوجهيهما وصدق توقعي كانتا هما.. لا أؤمن بالصدف كصدف ولكني أؤمن تمام الإيمان أنها ما هى إلا وسائل لتوضيح صورة أو استجلاء حقيقة، لم أنشغل طويلا بالانبهار بالصدفة التي جمعتني بالفتاة التي أحببتها ولم أصارحها، وقد افترقت عنها قسرًا بعد أن أتممنا دراستنا منذ أربعة أشهر، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أدور حتى أصبحت في نفس اتجاههما، وقد اتسعت حدقتاى ثم سرت بمحاذاتهما قليلا حتى دخلتا محل أحذية في شارع جانبي.
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أقف بجوار المحل في مواجهة زجاج محل مجاور، وكأن خيط حركتي بيدها، حين توقَفَت توقفْت أنا أيضًا، بدأت في سؤال نفسي عما أفعله هنا وما أصبو إليه من وراء هذا الانجذاب العجيب، وهل وراء ذلك سوى عذابًا معتادًا سيسري في روحي المنهكة فيزيدها إنهاكا ويجعلها خائرة القوى، حين تتلقفها أي ريح ستصرعها فورًا، ما الذي جنيته من وراء ذلك كله غير إحساس زائف خالط قلبي وصار له كالوسواس الذي لا يبارح مكانه إلا بانتصار مبين، فوجدت ضعفي الذي كان ضئيلا في الأزمنة الغابرة، ولكني غذيته بتخاذلي وسلبيتي فأصبح وحشًا كاسرًا وقد كان في زمن ليس بالبعيد يتحالف مع شيطاني فيصيغا الحلم تلو الحلم حتى أستسيغه ويتمكن مني ويتحكم في مساري، لكن الآن ها هو ينبري مدافعًا عما سماه نبل أحاسيسي وسمو مشاعري وأن تلك الصدفة ما هي إشارة لوجود جسر نحو شئ بالتأكيد يفوق أجمل أحلامك وأن انتظارك لا يكلفك شيئا.
وها أنت قد مليت عينيك من رؤياها وأشبعت قلبك المشتاق والملتاع وصارت هي أدنى مما كانت طوال أربعة شهور، مضت فما العيب أن تنتظر وتنتظر حتى تخرج وما يدريك أليس الله بقادر أن يدني لك من الآمال مطامعك فتجد القلب الجلمود قد تفجرت منه عيون الماء التي ترويك وتدعم قلبك وتسند روحك، رفعت نظري فوجدت صورتي وقد تراءت لي على الزجاج بالحجم الكامل.. وها أنا أشاهدني حيث الوجه المستدير الشاحِب الذي يعلوه شعر طويل تتنافر خصلاته كل في اتجاه وتتصل به لحية متوسطة الطول تركت أثرها على جوانبه، وكأن أحدهم عبث فيه بقلم من الفحم، وفي أعلى هذا الوجه عينين تستعينا على قِصر بصره بنظارة تنظر في حيرة واستغراب واغتراب وسذاجة وحزن قد صار حليتهما، وما هى إلا بضع دقائق حتى خرجت وحدها تستطلع الفاترينة والتقت عينانا ووجدتها كما تركتها بذات النظرات المحايدة التي لا تعطيك جوابا شافيًا. لحقت بها صديقتها وأخذت تشاهد المعروضات، ثم تركا المحل وعبرا الشارع.
تغير وقتها بداخلي شئ ولكن ضعفي الكاسر نحّاه جانِبًا وقادني دون وعى وراءها عابرًا الشارع، وبسبب توازي طريقينا لم أفكر في العودة من حيث أتيت والاكتفاء بذلك، بل كان ما ينبئني أن هذه المرة ستكون مختلفة وحاسمة.. بعد دقيقة من المشي وراءهما استدارت نحوي صديقتها كأنها تستوضح ما إذا كنت مازلت في الأنحاء أم رحلت ووجدتني أنظر لها مباشرة.
لم أحاول المواربة أو إخفاء الأمر أكثر من ذلك فما نالني بسبب محاولات المداراة والفتور من ألم يفوق كثيرًا ما قد ينتابني من إحراج بسبب تلك النظرة وما أن رأتني وتيقنت من وجودي حتى أشارتا لأقرب تاكسي وصعدا فيه سريعًا وانطلقتا بعيدًا.
هنا أدركت معنى الرحيل، لا أن يرحل أحد ما من أمامك فيختفي، بل أن يرحل أحدهم من داخلك ويبتعد.. شخص ما حواه قلبك دهرًا وهو ليس لك ولا ينتمي لعالمك.. فهمت كيف يمكن للغياب الذي ظننته يشيِّد جسورًا تصل بينكما قد شيد جدارا فولاذيا قد تراها وقد تراك لكن كل منكما لن ينفذ لداخل الأخر.. راقبت التاكسي وهو يبتعد رويدًا رويدًا إلى أن غاب عن ناظري ولم أحاول اللحاق به أو تتبعه، إنما انشغلت بقراءة رقمه 4716 هذا الرقم الذي قد أعتبره باسوورد خلاصي الذي ظللت أبحث عنه طويلا دون جدوى.
القصص التي شيدت صروحها من الخيال تهوي بفعل تلك التفاصيل الصغيرة.. كانت محاولاتي قد نفذت وفي هذه المرة كنت أبحث عن قطعة البازل الأخيرة التي تحتل مكانا بارزًا في الصورة، فإما كانت تتبوأ موقعها وإما تكون غير ملائمة، فلابد ساعتها من هدم الصورة ووضع جميع القطع في مكانها والاحتفاظ بها في موقع بعيد وسط الأغراض البالية وقد كان.
هزمت ضعفي وطهرت روحي وانتصرت لا أنكر أني قد نزفت كثيرًا وتآكلت ولكني منتصر لا يهم ما أصابني ما يهمني هو نتيجة تلك المعركة، وأستطيع أن أقول بملء فمي أني أخيرًا وجدت طريقي.. أكملت طريقي نحو أصدقائي الذين وصلت إليهم متأخرًا بنحو النصف ساعة، وغاب الوقت وسط أحاديثنا التي كانت تروح وتجئ بين ماضي لا يذكر إلا بابتسامات عريضة ومستقبل لا يذكر إلا بترقب دقيق وكعادتنا ننسى أنفسنا وسط الضحكات والتنكيت على كل شئ حتى نلهث من فرط الضحكات.
انفض مجلسنا في حوالي منتصف الليل وقمت بعد أن تبادلنا السلامات والوعد باللقاء والوعيد لمن يغيب وسرت كما جئت وحيدًا وأخذت أفكر فيما حدث لي منذ بضع ساعات وتحللي وتحرري من العبء الذي انقض ظهري طوال ثلاث سنوات.
كانت الرياح في مواجهتي وقد ازداد البرد شراسة حين أتتني مع نسمات البارد ذكريات ثلاث سنوات مضت بصورة متتابعة وسريعة، فهنا أراها لأول مرة وهنا أتابعها بعيني وهنا أتبعها وهنا أنتظر خروجها من مكان عملها وهنا أراها وحيدة فتحفزني شجاعتي وأكون قاب قوسين أو أدنى من فتح قلبي على مصراعيه، لكني دائمًا ما أتراجع قبل الخطوة الأخيرة ومرت الذكريات متتابعة ومصحوبة بموسيقى هادئة ترددت في قلبي حتى وصلت إلى ما حدث اليوم.
لم أعلم ما الذي فاجأني فلم يبدر من الفتاة أي شئ سوى ما اعتبرته أنا التفاتا لي وتمحيصًا في بعينها أم تراني كنت متوهمًا وألتمس في ذلك سبيلا في دنيا العشق والعشاق، إلا أن ما حدث اليوم كان كفيلا بردي ردًا حسنا إلى قواعدي، لكني كنت مخبولا تمامًا.. تذكرت منذ 4 شهور حين رأيتها للمرة الأخيرة ورحلت كما كانت تفعل، كان قلبي يحدثني أن تلك لن تكون المرة الأخيرة التي نلتقي فيها وكثيرًا ما كان هذا الأمل يضئ أيامي الأولى المباشرة للفراق، وقد كان قابلتها ولكم ساءني ردة فعلها فصحيح أنا لم أكن أتوقع أن تهرع فور أن تراني لتلقي بنفسها بين ذراعاي وتبدأ في البكاء والحديث بصوت متهدج عن كم أسودت الحياة أثناء غيابي ولكن أيضًا لم أكن أتوقع ذاك الفتور المستفز.. أيا كان فوجب على أن اشكرها لأنها ألهمتني وأرشدتني إلى خاتمة لتلك القصة المبسترة.
أكملت سيري وخطر في بالي شئ آخر، ماذا عن الأيام التي قضيتها في حبها وبماذا أصنفها الآن، هل أعدها بقايا مراهقة متأخرة كان لابد أن تحدث ليس لها محلا من الإعراب في دفتر ذكرياتي أم أعتبرها جرحًا وألمًا سيظل يعتصرني لمدة ليست بالقصيرة ولا أغفر لها ما حدث.. الحقيقة أني احترت قليلا فلو اخترت الأول فذلك يعني اعترافي بقصوري وغبائي اللامتناهي وعدم قدرتي على كبح جماحي وعدم التمييز بين غسق المراهقة وفجر الرجولة..
وإذا اخترت الثانية فأنا أضخم الأمر وأتصرف بصبيانية وكأني طفل سلبت لعبته الأثيرة، كلا لا هذا ولا ذاك، بل هو حل وسطي سيقر عيني ويهدئ سريرتي هى ليست مراهقة طائشة ولا جرحًا غائرًا، بل تجربة أضاءت كثيرًا من البقع المظلمة في شخصيتي وغنمت منها أكثر مما غرمت فالعبرة في التجارب التي نعيشها ليست ما وصلنا له في النهاية، ولكن مقدار ما شعرنا به أثناء سعينا وكيفيته وكينونته، فأنا أقول وبكل أريحية أني في الثلاث سنوات الماضية عشت ما لم أعشه من قبل واستطعت أن أبحر داخل عِباب نفسي دون وجل أو خوف من مجهول والحياة ماضية، بيد أن ذلك لا ينكر أن السعي لسنوات وراء سراب شئ مخيب للآمال ومحبط للغاية ولكن تلك طبائع الحياة وتلك المقامرة المعتادة ترمي كل ما تملك على الطاولة لتدور الدائرة، فإما تصيب وتسعد أو تخيب فتعود مفلسًا خائبًا، وضعت يدي قدر وسعي في جيوبي وسرت أدندن:
«في ماضي منِيح بس مضى.. صفّى بالرِيح بِالفضا.. وبيضل تِذكار عن مشهد صار.. في خِبزْ في مِلح في رِضى.. ويوميِي ليل وبعده نهار.. عمري قِدامي عم ينقضى»
المنوفية