ثقافة شعبية أحمد سراج - فاتنات السيرة الهلالية: غزال البر والشريفة وثلث الشورى..

أهل يمكن أن نقرأ السيرة الهلالية دون وجود المرأة؟ هل يمكن قراءة ديوان المواليد دون دور خضرة الشريفة؟ هل يمكن قراءة الريادة دون دور عزيزة والجازية؟ هل يمكن قراءة التغريبة دون دور الجازية وسعدى؟ هل يمكن قراءة ديوان الأيتام دون دور الجازية؟ كيف يمكن تقويم مواقف نساء السيرة على اختلافهن واختلافها؟ الأبعد كيف كان موقف نساء السيرة من أقدارهن؟
الشريفة حاملة الوعد وحافظته
صوت سماوي يأمر الكليم الذي انحنى ظهره أن يذهب إلى الحجاز ويتزوج من عذراء شريفة؛ فهي التي ستنجب له الولد الذي سيقيم ظهره وسيعلي ذكره وسيحمي عقبه، هكذا تبدأ رواية جابر أبي حسين التي جمعها الأبنودي.
سمع ندا من قبل الله ... ياخي كل منا وسعيده
يا رزق اصغى على الله ... تزوج فى مكه السعيده
أمرك لربى المتعال ... فى جبال امشى وشريفه
إن كان مرادك تخلف عيال ... تزوج بعذرا شريفه
على بركة الطير ألقت كل امرأة أمنيتها؛ فاختارت زوج السلطان سرحان يكون ابنها مثل هذا الطائر الأبيض الأنيق، واختارت زوجة غانم الزغبي طيرا مشاكسا، فيما اختارت خضرة الشريفة هذا الطائر القائد الأسود الذي يقود الطيور ويحمي الطائر الأنيق.
اتعدله الاسمر لما دار ... زاد البلا والمراضى
وضرب الاحمر بمنقار... الاحمر وقع عالاراضى

طلت عليه الشريفه وقالت له... صلاة النبى يا قرة عيونى
انشرح فؤادها زغرتتله... وقالت يا صبايا جمله اسمعونى

ياسلام ياسمر ياللى الرب حلاك ... فى جسم البلا كل مونى
بالله لو اسمر قوى برضه اتمناك... حتى ان لامونى يلومونى

تصطدم السيرة حين جعلت بطلها أسود اللون بالعصبية العربية التي ترى في السواد دنية، تحرك زند ما يظن أنه رماد فإذا بنا أمام انفجار مروع؟ كيف
تحقق لرزق الهلالي الذي تخطى الستين في رواية والخامسة والستين في ثانية – قبل زواجه من الخضرة - حلمه بألا يخلفه فارس من عقبه؟ لكن حفلة الميلاد التي يرى فيها السادة المواليد الجدد، تطلق طلقات "القاضي فايد" و "غانم الزغبي" "عسقل الهلالي" التي تجعل وجه رزق مسودا من الغيظ كظيم.. ثمة عبارة مفادها أن هذا الولد من عبد ليس من رزق.. يعضدها اختلاف بشرة الوليد (سلامة) عن بشرة أبيه وأمه.
جايبه الولد عبد على طول ... ياسلام خربوا القبايل
يا صاحب النظر بص وطل ... لا لون خضره ولا ولد نايل
غانم قاله متلومش على ... ما قعدتها من غير عيال طالت
الشاهد ربنا الواحد الحى ... اظنها خضره مالت
كذا يجد رزق نفسه مسلوب الحلم مطعون الشرف؛ ولا يجد بدا أن يلقي في وجه الشريفة بشكوكه، ويطردها شر طردة برضيعها.
أبكي على الفرقة وعلى حيف ما جرى ... دمعي سرى بلّ الأراضي طيفان
كنا برفعه قد خفضنا زماننا ... صبحنا أذلة والعزيز اتهان
لم تفكر الشريفة في الاستعطاف أو اللجوء للملك سرحان بل لاذت بحلم ما.. وخرجت، فقط فكرت في نصيب ابنها من ميراث أبيه فإذا بالخضر يحضره لها، فتسير به حتى تستقر في تدبير حاذق كأنه مصادفة لتجد "فاضل الزحلاني" الذي يربي اينها ويساهم في المساعدة في تكوينه تكوين الفارس العالم القادر.
تقودنا الأحداث إلى الصدام بين الأب رزق، وبين الابن أبي زيد، ولولا تدخل الأم لفتك الابن بأبيه، ولولا نداء الأخت شيحة على أخيها حين ألقى أبوه الرمح على غرة من الظهر لقتل أبوزيد.
ما إن يجتمع الجمع حتى يقدم رزق الأعذار ويطلب أن يعود ابنه معه، لكن الشريفة تشترط أن يفرش الطريق بالحرير.. وهنا تظهر الجازية.
الجازية صوت الواجب الحكيم
الحيرة تملأ ديوان الهلايل؛ فهم يريدون عودة بطلهم الحامي، ولا يستطيعون أن يفرشوا الأرض بالحرير، وفجأة تنطق ابنة السلطان سرحان بالحل: "لنفرش مترا من الحرير تحت أقدام الجمل الذي يحمل هودج الشريفة" وهنا يفطن السلطان إلى هذا الذكاء المبهر، وتبدأ رحلة الجازية في ملحمتها الخاصة التي تشير ذات يوم بأن يرود أبوزيد الطريق إلى تونس الخضراء، ويأتي باخبارها، وتقنع الخفاجي بان ينزل للميدان دون اعتبار لحلم قتله، وتقص ضفائر النساء مرسلة إياها إلى دياب ليأتي فيقتل الزناتي، وهي قائدة المقاومة ضد دياب الذي استأثر بالحكم وقتل السلطان حسن وأبا زيد. وتُقتَل الجازية حين تواجه دياب بن غانم بضربة سيفه بعد أن تهزم عددًا من فرسانه (ص 384 تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة وما خرى لهم من الحوادث الحروب المخيفة) فيما تقول رواية ثانية بأن الأيتام استطاعوا بمشورة الجازية وباتحادهم مع أهل الزناتي أن يأسروا دياب، وحين دخلت عليه لتقتله وجدته مقتولاً.
الجازية ثلث الشورى في قومها منذ صغرها.. صوت العقل الذي يعلو على صوت العاطفة في نموذج فريد لا تعثر له على مثيل في ملاحم المعمورة من جلجامش إلى الإلياذة والأوديسة.. امرأة جميلة تطأ قلبها وترفض الفارسين؛ دياب بن غانم لأنه بلا عهد، وأبو زيد لأنها لا تريد لأحد أن يعلو على أخيها السلطان، لذلك ألقت في وجه أبي زيد بقفازها: "من كتر هوانهم دنوا عبيدهم" لتذكره بما كان من طعن في شرف أمه.
ولا يمكن لقارئ السيرة أو لسامعها من أن ينكر أن هناك هوى في نفس الجازية، وأنها امرأة جميلة صبوح تعشق وذات قلب تعشق لكنها تمسك بزمام أمرها، فلا حبيب سيمنعها من رفعة أخيها، ولا زوج سيمنعها من نصرة قومها ولا ابن، ولهذا تركت زوجها الذي كان لا يطيق فراقها لتنضم برأيها إلى جيش الهلالية المتجه نحو الخضراء.

عزيزة غزال البر في الوادي
في الجانب الآخر تتحرك عزيزة بنت الوهيدي في قصر أبيها وسجنه، محاولة الفكاك من أبيها المريض بحبها حد أن وصل به الأمر أنه طمع في الزواج منها، رافضًا الخطاب وعلى رأسهم العلام الذي (كسر ظهر سبعين فارسًا دورانا حول قصرها لتطل فقط عليه) وفي وحدتها المحاطة بالعسكر والشيوخ، تحكي لها مي التي تركت بلاد نجد عن الهلالية وأيامهم وكيفية معيشتهم، وعن شمة وعقدها وحفيدها الأجمل يونس.
آه يا ستي لو شفتيه ... وشفتي طولو مع معانيه
تفوتي قصرك باللي فيه ... واسمك الغالي تنسيه
هل نسجت عزيزة دون أن تدري قصة حبة في مخيلتها بينها وبين فتى في بلاد الحرية.. بلاد الصحراء الممتدة والضحكات حد القمر؟ وفجأة هبط يونس ويحي ومرعي مع خالهم أبوزيد ليتقصوا أحوال تونس قبل أن يهاجمها الهلالية، ولأن الطريق طويل فقد نفد الزاد، وليس مع يونس سوى عقد شمة؛ لذلك هبط ليبيعه وفي السوق قابل دلالاً ذهب العقد أولا إلى من تستطيع دفع ثمنه.. ومن غيرها؟ عزيزة الفاتنة.. التي لم تحتج لقول مي لتعرف أن هذا العقد عقد شمة، ولترى معشوقها؛ يونس.
هكذا إذن كان العقد إشارة وبشارة بانها ستلقى الفتى، وهكذا سيكون العقد طرف الخيط الذي سيأتي به؛ لذلك أمرت الدلال أن يخرج ويعود بصاحبه.
يا دلال صاحب العقد روح هاته
يا بخت من حدى بوصلك يا يونس في السنة مرة
يسود شعره وتحلى عيشته المرة
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الشجر برا
نزلت تهز اليلك وتقولوه كنت فين سلامات
ومن ابتلا بك يا يونس طق وانسلى مات
خدته على الصدر جوا القصر ورحاته.
لتبدأ قصة الحب المعروفة التي أفادت منها السيرة في إنقاذ أبي زيد وأبناء أخته من حبل المشنقة؛ فحين جُرح مرعي بسيوف عبيد الزناتي قام أبوزيد بالفتك بهم، وهنا قبض عليه الزناتي وقرر قتله، لولا ذهاب عزيزة إلى العلام وطلبها منه أن ينقذهم.. وهو ما فعله العلام الذي كانت لديه أسباب أخرى.

تأمل الأثر الغائر المخفي
كيف يمكن النظر إلى إعلاء المرأة الهلالية قيمة الواجب على العاطفة، في مقابل تقديم العاطفة في تونس الخضراء؟ هذا اتهام وجه سابقًا وسار على دربه كثيرون.. لكن
لنختبر الأمر بنظرة مغايرة؟ هل تخلو السيرة من إشارة إلى غيرة الجازية من نظيراتها؟ هل تخلو السيرة من مشورة صائبة لسعدى على أبيها في قتل أعدائه والتخفيف عليه؟ ألم تتبن السيرة أصلا فكرة أن الهلالية مرغوبون من تونس، أن الصحراء منتظرة من الأرض الزراعية.. فتجد سعدى عاشقة لمرعي وعزيزة ليونس والعلام للجازية.. وكأن هذه الأرض ملت سكانها واشتاقت إلى رجال آخرين..؟
إن اختلاف دور نساء الهلالية عن دور نساء تونس يعود في جزء منه إلى طبيعة المكان وظرفه، فمن لامرأة شريفة تزوجت رجلا جاوز الستين عن حب غامر بخيانة هذا الحب والتخلي عن مهمتها التي اختارتها؟ وما الفرق – لو دققنا – بين موقف الشريفة التي غادرت أهلها وبين موقف عزيزة التي دافعت عن يونس حتى أبعدت حبل المشنقة عن رأسه؟ ثم ألم تترك الجازية زوجها وهذا منافٍ للطبيعة العربية وللشريعة؟ ثم كيف يمكن النظر إلى دخول الجازية في اليهودية وزواجها من ملكهم - خدعة - وقتله؟
الحق أن نساء السيرة الهلالية امتلكن القدرة على الاختيار مثلهن مثل الرجال، لكن عز على النقاد والباحثين أن تتمتعن بهذا فطعن سعدى في شرفها واعتبرن أن إذلالها على يد دياب انتصار للطبيعة الذكورية، وعقابًا على خيانتها! إذن كيف يمكن تفسير قتل السلطان حسن وأبي زيد على يد دياب؟ ومن زاوية أقرب لماذا ننظر إلى رفض الجازية لدياب وهو واحد من عشرات على أنه موقف مشرف.. فيما نتجاهل رفض سعدى وعزيزة للشخص نفسه وهو الملك؟
ما أرى أن السيرة أنصفت المرأة بإعطائها حرية الاختيار – فيما سقط رجال الهلالية جميعا في قيد القدر مثلهم مثل أبطال الملاحم والسير الآخرين فقدرٌ يحرك ويهيمن - والسعي للوفاء باستحقاقات هذا الاختيار، وتلك الحرية؛ فخاضت الشريفة الأهوال في سبيل حبها الذي عادت إليه فيما بقي رزق أسير قدر عجزه عن الإنجاب وعجزه عن حماية ابنه والاعتراف به ومن ثم فالمفاضلة العادلة تقضي بأن الشريفة لها القدح المعلى، وأن الجازية حملت عبء الشورى وسند الحكم، مهيمنة بذلك على رأي الرجال الذي توزع بين سلطان وقاض وفرسان، وأن عزيزة أحبت يونس وحمته ولم تخنه ولم تخن بلدها، وأن سعدى وازنت بين حبها لأبيها - بل قدمته – وحبها لمرعي.. بكلمة: ليت نساء الحقيقة يكن كنساء السيرة.



*..* أدب المصريين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...