رسائل الأدباء رسالة من الدكتور محسن عبد الخالق إلى فاروق شوشة

الشاعر‏,‏ الكاتب الكبير فاروق شوشة‏:‏

أقرأ سكنات وخلجات كل ما تكتب‏,‏ قراءة ناقدة ومستكشفة‏,‏ فيها وعي ومجاهدة ومكابدة‏,‏ فأنت الكاتب الذي آنس لصحبته‏,‏ وأحاول أن أفك شفرة الصمت الساجي بين حروف كلماته‏.‏
ياسيدي أنا أقرأ كأني أكتب تماما‏,‏ لذلك أحسن بيدك‏,‏ تعزف إلي جوار يدي‏.‏

لماذا أكتب لك هذه الرسالة ؟

الأمر الأول ما ألمسه من حرص شديد علي ألا يميل في يدك الميزان‏,‏ فتهتز الثقة في حرمة النقد‏,‏ وعدالة موازين التقدير‏.‏
وأما الأمر الثاني فأنك تكتب النثر بروح الشعر فتبدو الكلمات كأنها موسيقي سائلة علي ورق‏!‏

ثم يأتي الأمر الثالث الذي يتعلق بضمير القارئ الذي يري أن من حق كاتبه أن يلمح في عينه مشاعر التقدير‏,‏ فالقارئ هو الذي يضخ في قلب كاتبه مادة الحياة‏,‏ ويملأ قلمه بمداد البقاء‏,‏ وبدون هذا القارئ تتحول كلمات الكاتب إلي مجرد جثث محنطة‏,‏ متراصة بجوار بعضها البعض‏,‏ وقد فقدت الحياة‏.‏
أكتب هذا ياسيدي‏,‏ وفي وجداني رجع صدي من شدوك في الأيام الخوالي‏,‏ حين كنت أضبط أنفاسي وأنا طالب ـ مازلت ـ علي عقارب البرنامج العام‏,‏ الحادية عشرة إلا بضع دقائق‏,‏ لأصغي لصوتك‏,‏ وصمتك‏,‏ فيما يشبه التدين‏,‏ إنها أغلي ساعات الغرام الفكري‏.‏

قرأت بالتقدير كتاباتك عن صلاح جاهين‏,‏ وقرأت بتقدير مماثل ما كتبت عن وهج القنديل عند يحيي حقي‏,‏ الذي أضاء به مناطق شديدة الغور في أدب شاعر عبقري شاءت الأقدار أن يصدم في مشروعه‏,‏ ووجدانه‏,‏ ليسقط علي خط التماس الفاصل بين العبقرية والجنون‏!‏ مضرجا بألوان الطيف‏,‏ لقد استطاع صلاح جاهين أن يحقق أشهر زيجة فنية علي الورق‏,‏ حين عقد قرانا فنيا بين الريشة والقلم‏!‏
بعنوان يوم من أيام كمبردج بأهرام ‏2001/4/22‏ سلطت أضواء كاشفة علي شاعرية الدكتور محمود الربيعي التي طمستها سنوات العمل الاكاديمي الطويلة‏,‏ وهو رجل يستحق منك هذا الجهد‏,‏ بينما كان نصيب لويس عوض منها شعاعا خابيا خافتا من الضوء‏,‏ لايتفق ومكانة رجل استطاع أن يبسط نفوذه النقدي علي الساحة الأدبية زمنا‏,‏ وشارك بجهد‏,‏ مع هذه السبيكة المفكرة من النقاد في إعادة ترسيم الحدود النقدية‏,‏ وتحديد الفواصل الفنية علي خارطة الأدب العربي في الزمن الجميل الجليل‏.‏

واسمح لي أستاذنا الجليل بان أسجل هنا أن مناطق الاختلاف مع الدكتور لويس عوض أكبر كثيرا من مناطق الاتفاق معه‏,‏ فقد كان له جنوحه‏,‏ وجموحه الذي لم يخل في بعض الاحيان من شطط‏,‏ حين كان يحلق فوق مناطق اليقين ليشكك‏,‏ بحيثيات غير موثقة في قضايا تمس معتقد الأمة وتاريخها وهويتها‏.‏
موقفه من القومية العربية‏,‏ الشعر العمودي‏,‏ حين دعا في مقدمة ديوانه الشعري بلوتولاند وقصائد أخري من شعر الخاصة إلي تحطيم عمود الشعر‏,‏ لقد مات الشعر العربي بموت شوقي‏1932,‏ والغريب أن الرجل ظل مستمسكا بدعواه حتي أنفاسه الأخيرة علي الرغم من أنها دعوي لاتنهض علي أساس واقعي موضوعي‏,‏ وإنما اتسمت بانشائيتها ونبرتها الحماسية‏.‏

لكن ذلك لم ينل من الرجل كقيمة أدبية‏,‏ حاول ان يرفع النقاب ـ دوما ـ عن وجه الحقيقة‏,‏ بقدر ماأتيح له من ضوء‏.‏
أشرت في المقال إلي أن الأكثر طرافة وغرابة أن لويس عوض في كتاباته النقدية عن عدد من الشعراء علي صفحات الأهرام لم يلتفت مرة واحدة إلي الكتابة عن أكبر شاعر بالعامية في زمانه وهو العبقري صلاح جاهين الذي كان يجاور لويس عوض بالأهرام‏,‏ وكان هذا الموقف من لويس عوض ـ الذي تحمس للعامية كل هذا الحماس في شبابه ـ غيز مفهوم أو مبرر بالنسبة لصلاح جاهين الذي كان يري ـ وهو علي حق ـ أنه أجدر بالاهتمام النقدي والتفات لويس عوض إلي ابداعه من عشرات شملهم لويس عوض بحدبه ورعايته‏,‏ وهم لايقاربونه ابداعا أو مكانة‏,‏ ولم يخفف من حزن صلاح جاهين وعجبه إلا اهتمام أديبنا الكبير يحيي حقي بالكتابة عن رباعياته‏,‏ كتابة مفعمة بنفاذ الرؤية وتقدير وهج العبقرية في ابداع صلاح جاين‏,‏ الغريب أن هذا الموقف ـ الذي وقفه لويس عوض من صلاح جاهين لدرجة أنه لم يكتب عنه إلا بعد رحيله ـ يقفه كثير من النقاد من شعر العامية وكبار شعرائها المبدعين‏.‏

وأعتقد أن لويس عوض برر عدم الكتابة في حياة صلاح جاهين في كتابه دراسات أدبية بقوله‏:‏ حين صدر ديوان صلاح جاهين عن القمر والطين ثم ديوانه الرباعيات في الستينيات كنت أنا شخصيا موضع هجوم ضار من عديد من النقاد الرجعيين بسبب دعوتي القديمة في ديواني بلوتولاند‏1938‏ إلي تجاور أدب العامية مع أدب الفصحي‏,‏ وكنت أحب يومئذ أن أعبر عن اعجابي كتابة بشعر صلاح جاهين بتحليل شعره علي صفحات الأهرام‏,‏ ولكني خشيت أن أجني عليه باقحامه في مشاكلي الشخصية‏,‏ فتجنبت الاشارة إليه فيما كنت أكتب من نقد الشعر ص‏162.‏

الاستاذ الكبير فاروق شوشة‏..‏
لم أعرف ناقدين أنصفا الانجاز الادبي لصلاح جاهين أكثر من يحيي حقي ولويس عوض أما يحيي حقي فقد غمرته بضوء ساطع ليظل لويس عوض بعيدا ينتظر في منطقة الخسوف النقدي مقالا ينقله إلي دائرة الضوء‏.‏
برغم الزوايا الحادة التي كان يطل منها لويس عوض بآراء مثيرة للجدل‏,‏ فإنه يظل إحدي الاشجار الباسقة‏,‏ السامقة في روضة النقد‏,‏ حيث تتكاثر فيها الآن وتتشابه الحشائش الضارة‏.‏

كان يحيي حقي يغمس قلمه في مداد من الحنان‏,‏ ليكشف النقاب عن جوهر موهبة جديدة‏.‏
بينما كانت كلمات لويس عوض لها ملمس الشوك في أثناء جراحاته الأدبية علي الورق‏,‏ ليعلن عن ميلاد موهبة جديدة تحاول أن تنقر قشرة الوعي مطالبة بحقها في الميلاد‏,‏ نقد يحيي حقي فيه قسوة الأب‏.‏

بينما نقد لويس عوض فيه قسوة المعلم
وحاجتنا ماسة لكلتا القسوتين دمت‏,‏ ودام قلمك‏.‏

دكتور محس عبدالخالق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...