علي محمد الشبيبي - غرام*

جاء في أساطير الأولين أن الملك النبي سليمان، حين غضب على الهدهد سجنه مع البوم. وهذا ما حدث لي تماماً!

في ليلة من ليالي كانون الثاني، أشتد البرد، واختفت حتى القطط. كنت في غرفة الموقف رقم (2)، وقد وقف الشرطي الحارس بعيداً عن الباب، ليحتمي من زمهرير البرد. أما أنا فقد لجأت إلى زاوية الغرفة ألتحف ببطانيتين، وأجلس على ثالثة، مسنداً ظهري إلى مخدة بيني وبين الجدار البارد جداً.

كانت الساعة الثانية عشرة وأنا أعالج نفسي علّ عينيّ تنعمان بغفوة، وعبثاً حاولت. فقد مرت الأحداث أمام عيني كشريط سينمائي. وغبت عما حولي ولم أفكر بشيء من ذلك. ولم أعر انتباه لشيء حتى صفير العسعس الذي يطلقه بين آونة وأخرى، لاهياً أو متقصداً لأمر.

وعلى حين غفلة سمعت ضوضاء وصياحاً، وشرطة يدفعون ثلة من الناس عن باب المركز. وساقوا أربعة نفر أمامهم إلى حيث مفوض ومعاون الخفر، لإجراء التحقيق.

ماذا يعود عليّ في هذا الوقت من الليل؟ لابد أن يكون هؤلاء من أرباب المباذل؟ وسوف لن يحشروهم معي في هذه الغرفة. فقد أصبح الخوف من عدوى الأفكار أهم من الخوف من الأمراض والأوبئة؟ وها هي السجون تضم بين جدرانها من أحرار الفكر أضعاف ما تضمه من القتلة واللصوص وسائر المجرمين.

وهذه الغرفة لي منذ خمسة أيام. وما مرت عشرون دقيقة حتى أقبل الشرطي المسؤول، وزج بثلاثة منهم معي. كان أحدهم أفندياً أشيب الرأس، نحيف الجسم، طويل القامة، مستطيل الفكين، صغير العينين براقهما، دقيق الأنف، ملابسه تدل أنه من ذوي اليسر. وحالما دفع إلى الزنزانة، تهالك إلى أحد جدرانها، فاقد الوعي، إلا عينيه اللتين كانتا ترسلان بريقاً كعيني لص! وتأوه آهةً عالية، ثم أغفى إغفاءة من عاود إلى نوم عميق...

وشابان، كان أحدهما رشيق القوام، أنيق الهندام، ذا شعر فاحم، وقمصلة على أحدث طراز، جميل الطلعة. كان رغم شدة السكر، رابط الجأش، ولم تبرح عيناه باب الزنزانة... وكان الثاني، شاباً خشناً أسمر أرقش الوجه، ذا بزة تنم على أنه من صغار الموظفين، ومن الأسر الصغيرة.

سعل الأفندي الأشيب، والتفت نحوي، يتكلف اللهجة الفصحى بلسان أثقله السكر:

- حسناً أيها الموقوف، إنك تتمتع بثلاث بطانيات. واحدة كفاية! لا بأس ناولني واحدة ألتحف بها، ليت الست دخلت معنا، هه، هه! إنها جميلة أليس كذلك؟ ومن أجلها احتجزت معك هنا! من تكون؟

يبدو أنك لست من اللصوص، ولست من القتلة! هِمْ! لابد ان تكون مديناً أو متهماً سياسياً. على الأكثر كما أقول. فهذه الكتب بين يديك تنبي بصحة ما أقول. خير لك أن تحرقها أيها السيد! إنها في هذا الزمان لا تجلب غير البلاء. وبرغم ما يقال، إنها تثقف العقل، وتصقل الذهن، أرى أنها على العكس، كثير المطالعة لا يفهم من الحياة شيئاً!. ولا يستفيد أيضاً. فأنت كما يبدو مبتلي بالمواقف والسجون والإفلاس! .... تمام؟! أما أنا فدائماً في مباهج الحياة ولذاتها، أتبع الجمال أينما يكون، والمال بخدمتي، وبه أحظى بكل حسناء، مثل –توتو- ولفظ أسمها كمن يضغط بأسنانه.

وأستمر: ولا تستغرب إن كنا نحن الثلاثة، مغرمين بهذه الست. فالعسل يجذب إليه الذباب.

- أخرس، عجوز، مستهتر!

صاح به الفتى الجميل. وضحك الشاب الآخر. وزوى بين عينيه، وقال:

- شيب وعيب! أحنه شباب ما علينه لوم، أنت ليشْ؟ والمصيبة أنك متزوج! والمن تركت السيدة؟! هاه هه، هه.

وأستوى الأشيب جالساً، وعيناه تلمعان.

- أنا عجوز مستهتر أيها الشابان، حسناً، وأنتما؟ تقيان؟ كلا، عالمان؟ سياسيان؟ طبعاً من المستهترين أيضاً. هه، هه. إنما المستهترون إخوة. لا فرق بين شابّهم وأشيبهم، ثريهم وفقريهم، وأبيضهم وأسودهم. أليس كذلك يا حضرة الـ...؟ لا أعرف ما يكون أسمك؟ تكلم. ألا يرق لك أن تتحدث معنا؟ أما أنا فأسمي -حامد- موظف في دائرة الزراعة، وإليك هذا الفتى الجميل –راشد- وظيفته.... لا أدري... يكفيه جماله.

ثار الشاب الجميل، ورماه ببصقة! قابلها الأشيب بضحكة ولا مبالاة؟! وأستمر وهو يشر إلى الشاب الثاني:

- هذا المنحوس –مشكور- أما هيَ –توت معان- أنا حبيبها الأول. عفواً، هي محبوبتي. وهذا الجميل، محبوبها! وقد يصدق علينا قول الشاعر

جُننا بليلى وهي جُنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

ان ما حدث الليلة لها أمر مزعج. طبعاً لا تعرف ما حدث. ولا يهمك بقدر ما يهمنا نحن الثلاثة. هذا، وأشار إلى الفتى الأسمر الأرقش، جاء الليلة إلى «الماخور» قبلي، وقبل الفتى الجميل. وقبل أن يمارس ما توجه لأجله، جئت أنا. كانت العادة تترك كل شيء من أجلي، ألأني أنا جميل؟ كلا طبعاً. كنت أيام الشباب جميلاً. وكانت الحسان يتعشقنني، لجمالي ومالي، أما الآن فللمال وحده... لا تضجر، إن السكر سبب لي صداعاً، وثقلاً بعيني ولساني... إسمع تمام الحديث... ومن باب المجاملة أغضيت عنه وعنها. ولكن مفاجأة ثانية حدثت فقد دخل الفتى الجميل.

وأمال ذقنه، هازئاً، جانب الفتى الجميل. وأستمر الأشيب يتحدث: - وما أن رأته حتى غمرها فرح وابتهاج. وأقبلت عليه بكل جوارحها، عانقته وقبلته. والتفّتْ –كطفل أستقبل أباه- عليه بيديها وساقيها. أما أنا وهذا المسكين، هه، هه، ها. أنا لزمت الصمت... ولكن هذا كان قد خلع ملابسه، مستعداً للمصارعة. عفواً، للعناق والتلاق. أجل، رجع يفتش عن ملابسه، فوجد أن نقوده قد سرقت. فأخذ يصيح!

من قال، ان لديه نقود كثيرة!؟ أنا لا أعتقد إنها تزيد على نصف دينار؟! والخلاصة أن الشاب المحترم ثار على –القوّادة- مطالباً بما سُرق منه، أو تدخل توتو معه؟! وامتنعت توتو، وتحولت إلى لبوة ضارية، وحملت عموداً، وصالت وجالت؟.... تأمل المنظر!

وراح يضحك، وهو متمدد، ثم تابع حديثه: - مسكين، هذا الفتى، كاد ينقسم شطرين بين القوادة وبين توتو؟! وقد تهدل شعر رأسه على وجهه. كان مخموراً لحد الإعياء. وتقدمت أنا لأحول بينهما. وما كدت أدنو منهما، حتى أنقض عليّ هذا الوحش الأرقش، فدفعني وسقطت متهالكاً. اي. لكني نهضت بسرعة، واشتبكت معه بصراع عنيف! وانجلت المعركة بتدخل الشرطة، هكذا جلبونا إلى هنا! طبعاً الآن عرفت كل شيء؟ إذن هات بطانية!

ومد يده لينتزع البطانية، فجلجل صوت شرطي وهو يدخل الزنزانة المقابلة، وبلهجة الفرح: - تعالي يا توتو

- هاي وين؟ صاح الأشيب

أجاب الشرطي: - هاه! هاي وين! المعاون يا أفندي طلع، والمفوض يريد يسوي وياها تحقيق؟! وبعدين آنه... هم ...؟!

وعاد الثلاثة يتراشقون بالشتائم، وانطرح الأشيب فجأة، وأتكأ على ساعده. وراح يغني على طريقة المقام العراقي:

نظري إلى وجه الحبيب نعيم

وفراق من أهوى عليّ عظيم

وسمع صوت من الشارع، والباب يدق بعنف. ودخلت أم كاظم وصوتها يدوي: - أريد أشوف المعاون، شنو الداعي لهذا؟ أحنه كل يوم بهل العزه؟!

تساءلت في سري، رباه، هذه المرأة المتاجرة بالأعراض، تجد لطفاً واحتراماً من لدن هؤلاء القائمين بحراسة الدولة وشؤونها. ولكن ممن؟ من المستعمر؟ المستعمر يصرف أمور، ويدير سياسة البلاد وهو مختبئ وراء الخونة من أبناء البلاد، على النهج الذي يجعل مصالحه مضمونة، فيطارد وكلاءه المخلصين من أبناء الوطن. يزجهم في السجون، والمعتقلات البعيدة في قلب الصحراء، أو يحكم عليهم بالموت.

وقطع عليّ هذا التفكير صوت شرطي قميء، مشوه الوجه. أمسكَ باب الزنزانة الحديدي بكلتا يديه، وهو يتكلف البشاشة، وضحك ضحكة شوهاء كوجهه، وراح يلاطف الموقوفين الثلاثة: - على أي حال، أنتو تطلعون، ما تبقون للصبح، أم كاظم تعرف تتفاهم، وانتو تعرفون؟! احنه هم إلنه نصيب؟!

ثم حول وجهه ناحيتي، بلهجة مستهتر أبله: - وأنت يا الملفلف، يا المهتلف؟ هذي نومتك، بس دير بالك، لا تدَّحَكْ بالجماعة! ذوله شلون ما يصيرون أشرف منك!؟

- أنت حضرتك شنو ها اللغوة منك، أصيح للمفوض؟

قال هذا بلهجة غضب الفتى الأرقش. وضحك الشرطي، وتراجع، قائلاً: - تمام، تمام. يجوز كهربك بكلمة، بكلمتين مسمومة!

وبدا وجه المفوض مبتسماً: - ها سيد حامد، ترَ هذا العمل، وهاي الحال ما تناسب وظيفتك ولا سنك. صحيح هي الوظيفة وراتبهه ما تهمك! ما دام آمنت نفسك من المستقبل! اكسبت، وادخرت، عوافي! خلينه أحنه، على ها الراتب الحقير، والمهامش ويه أم كاظم وغيرها! وأقول، خو ما سولف وياكم –الأخ-، تره هو وأمثاله بالشر ويجتر!.

- يا أخي تره ماكو داعي لها الكلام. رجال لا نعرفه ولا يعرفنه، وما سمعنه منه كلمة حتى الله بالخير؟ قال هذا الفتى الجميل.

- طبعاً، طبعاً. تريده يقول لك –الله بالخير- ليش هو من اليعرفون الله!؟

وأشار إليّ –أنتَ- انشاء الله، يخلصنه منك. بكره يتقرر مصيرك؟ مو أنت موظف، وراتب محترم، ليش تحارب حكومتك، الوطنية لحساب دولة كافرة؟ أعوذ بالله لو الله يخلصنه من المعلمين، كان استرحنه! والحقيقة مو كل المعلمين مثلك. الأكثرية منصرفين لواجبهم وراحتهم. ناس هادئين يقضون وقت الفراغ بالنادي، ما عدهم شي مخبَّه! صحيح يشربون، ويلعبون ورق، هذا دور مر بيه كل شاب. هذا احسن من اللعب بأعمال لتدمير الوطن لحساب عدو الوطن والدين؟! ها. شتـﮕول، لو تثوب لربك؟

وأعتدل حامد بجلسته، وقال: - عزيزي، سيد عريبي. أرجوك جوز عن حاله. الرجل ما فتح فمه بكلمة، الله أعلم ما بقلبه. لابد عنده عائلة، زوجة وأطفال، أب، أم، ثم أكو قانون، وأكو تحقيق، وهو هسه مثل ضيف بحمايتكم، مو تمام؟!

يبدو ان المفوض أحس بخسة موقفه، فختم ثرثرته: - على كل، انشاء الله، تطلعون بخير قبل الصبح، مع السلامة!

وسمع صوت أم كاظم ومعها توتو تردد اللعنة على الشيطان، وتوقفت عند زنزانتنا، حيتهم بالخير. وبأسف قالت: - ليش عيني .... والله ما كان يحصل هذا لو ما الشيطان؟!

ضحك الأشيب وعلق: - مسكين هو الشيطان، نتهمه بكل جرم نعمله، وان الخير كلّه من الله والشر كلّه من الشيطان؟ وأحنه؟ ... آلات تنفذ!

ولوى لسانه، وكأنه يسحب الكلمة منه سحباً، هكذا قال قدماء اليونان، للخير إله وللشر إله!

وردت ام كاظم: - لا باس المفوض طيب، ونعمة الإنسان! هسه تطلعون بعون الله؟ تصبحون على خير!

قال الفتى الأرقش معلقاً: - بعون الله لو بعون ام كاظم، ودَهِنه اليسير؟!

وعاد الشرطي يلعن ويشتم: - تعالوا يا ساده، يريدكم البيك. حرمتنه اُم كاظم الله يحرمه؟َ

نهض حامد، وترنح قليلاً بمشيته، ورتب هندامه، وقال: - طبعاً هسه نطلع. ولا تنسون حق المفوض؟ وأشار إلى الفتى الأرقش، وقال الأخ ضاعت فلوسه؟ ولا يهمك آنه عندك! والتفت إلي وقال، متكلفاً الفصحى: - وأخيراً لم تقل لي أيها السيد من تكون؟ ولم جيئ بك إلى هنا؟

- أيهمك ذلك؟ باختصار. أنا تحرشت بالسيدة العجوز الكبيرة؟!

ردَّ علي: –فهمت، أنا فهمت من أول نظرة، الكتب التي بين يديك تشير إلى ذلك! ما تشوفنه على حق، احنه ندفع عنا البلاء والشبهات لما نقضيهه بين الكاس والماخور! لأن العدالة تطارد من يراود العجائز؟! لكن اليغتصبون العذارى، ويعربدون في المواخير، بأحضان العواهر يعيشون بأمان؟!



المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913-1997)

____________________

*- أعتقد أن والدي، المربي الراحل طيب الله ثراه، كتبها في نهاية الاربعينات حيث أعتقل عدة مرات في مركز شرطة بغداد والتحقيقات الجنائية. وقد عثرت على دفتر صغير كتب فيه ملاحظة تشير الى أن قصص هذه المجموعة (هذا من فضل ربي) كتبها بين الثلاثينات والاربعينات.

الناشر محمد علي الشبيبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...