عروة المقداد - ربما تكون أنت التالي

عروة المقداد

أصابني الأرق وأنا أنتظر في الطابور الطويل الذي ينتهي بعنصر أمن يدقق في جوازات السفر. المطارات تشبه الحظائر الكبيرة، والوجوه التي تطالعك في تلك القاعات تحمل ملامح لا تعني أي شيء، بل تبدو وكأنّها منتزعة انتزاعاً من أماكن انتمائها الأصلية حيث جاءت. أماكن تمنح وجوه حامليها عادة صفة مميزة، أشياء مقترنة بذاكرة تتصل بتاريخ طويل ما من الحضارة أو البربرية يعطي في النهاية معنى لمن يقرؤها.

لم يكن هنالك مطارات قبل عقود طويلة؛ حينها كانت الأرض خربة خالية. الحدود بدورها لم تكن كهذه الحدود، بل أقرب لخط تماس مجهول، والمجهول يبقى كذلك إلى أن تحين لحظة الاكتشاف إياها. اليوم لم يعد هناك ثمة اكتشافات جديدة على صعيد الحدود بين البشر. المجهول الوحيد هو ذوات البشر العصيّة كخارطة لم توضع بعد.

هل هذه المقدمة دقيقة؟ ربما لا، ما دمنا لم نعرف بعد مقدمة ماذا ستكون، والأمر هنا على عهدة الراوي الذي يحكي قصته. أنا لم أكن راوياً في هذه القصة، إنما شاهداً عليها.

كانت وجهتي الولايات المتحدة، لكنني مررت بتركيا بحثاً عن بعض القصص القديمة التي تشاركتها مع أصدقاء الدراسة. بحثت في "الخيارات" العديدة التي وجدت نفسي مجبراً بسبب الحرب على التفكير بها، والتي لم يكن ثمة الكثير منها في بيروت، تلك المدينة المكتظة بالهواجس الرطبة كبحرها، حيث سألني سائق تاكسي عن مهتني، وردّ عليّ بلهجته البيروتية الساخرة: "بتصَدّق عليك يا خيي.. شو القصص بتطعمي خبز بهل الإيّام؟".

حسناً، رواية القصص لم تكن مهنتي بالضبط. قلت له إنني أبحث عن قصص لأحولها إلى أفلام، فأنا كاتب سيناريو.

كنت أحلم بأن أكتب أفلاماً سينمائية مهمة، إلا أنني وجدت نفسي في معمعة كتابة المسلسلات. ثم توقفت شركات الانتاج عن البحث عن المسلسلات الطويلة، وظهر توجه لدى بعضها إلى تركيب مسلسلات قصيرة من القصص القصيرة. بحيث تضمن معادلة الكلفة الانتاجية المتواضعة، مع تحقيق ربح جيد. والسبب في ذلك يعود ربما إلى ما حدث في هذه البقعة الجغرافية المعقدة: حرب، ثورة، حرب أهلية.. كونية.. ليس مهماً. التسميات لا تعنيني، فلكل منا طريقته في إطلاق المسميات، علاوة على أنّ المنتصر غالباً هو من يمنح الاسم النهائي للأشياء.

وفي بيروت، لم أستطع أن ألتقط القصص التي أريد. كتبتُ قصصاً كثيرة، لكنها كانت "قصصاً سوفياتية" كما أسماها أحد أصدقائي الشعراء. ولطالما أرقتني تلك التسمية التي اخترعها ذلك الشاعر العتيد. لم أكن أعرف بعد أن البشر لا يرغبون بسماع القصص التي وقعت بل يرغبون بسماع قصص كما لو أنها وقعت في خيالاتهم. ولأنّ البشر لم يكونوا أبطالاً في هذا العصر، مائع القيم، فإنّ البطولة كانت شيء مستهجن في كتابة القصص. في هذا العصر لا يوجد أبطال بالمطلق؛ فكّل شيءٍ يحتمل التأويل.

أثناء رحلة خروجي الكبير من أرض القصص شاهدت بطولات خارقة، لكنني أيقنت في نهاية المطاف بأنها مجرد قصص مكررة في هذا التاريخ البشري المرهق. ربما بسبب نصيحة صديقي، انتهيت إلى فقدان اهتمامي بأي اسم عليّ أن أدعوها به، ولم يعد مهماً أن تكون ثورة، أو بطولة، أو شجاعة، أو أي شيء آخر، طالما أنها في النهاية ستغدو حدثاً عابراً، أو مجرد وصف أدبي، أو تاريخي.. سحقاً للتاريخ!

ينبغي أن نحرر أنفسنا من التاريخ. كنت أفكر في هذا وأنا أقرأ كتاباً لأحد المؤرخين اختار له عنواناً تراجيدياً. رحت أفكر في تلك الحلقة المغلقة التي نحمل بذورها في جيناتنا، ولعلّ حرباً كبيرة شعواء ستكون ضرورية لقتل كل جينات القتل لدينا والبدء من جديد.

فيما يقترب دوري لتناول تأشيرة السفر الخاصة بي؛ كان يقف أمامي شابان بهيئة لا تلفت الانتباه. هزيلان بملابس عادية. أحاول الآن وصف وجهيهما، لكنني لا أجد سبيلاً إلى ذلك. هل هذا ضعف في الذاكرة، أم مجرد عياء لغوي؟ سأكتفي بالقول إنهما ليسا من ذلك النوع الذي يثير الانتباه. شابان قد تصادفهما وتنساهما بسرعة خاطفة. ختم الضابط جواز سفر كل منهما، ومضيا. وأتى دوري فنفحني ختمه على الأوراق بين يدي، ومضيت بدوري في سلك مدجنة الطائرت تلك.

تفحصت الوجوه، وتفحصت الأسواق الحرة، فكّرت: ترى لماذا سميت أسواقاً حرة؟ قد تبدو الإجابة عادية، لكون بضائعها معفاة من الرسوم الجمركية. ولكن فكرة تلك البقعة الحرة، وغير الخاضعة للقوانين المعتادة تثيرني حقاً. لدرجة أني تمنيت أن أقيم في منطقة حرة ما. حرة وخالية من أي سلطة بشرية. وبعد أن غصت في المزيد من أفكاري الساذجة هذه؛ أصابني إعياء جسدي هذه المرة، فبحثت عن كرسي ما لأجلس عليه بانتظار طائرتي.

جلست دون أن أنتبه في أي زاوية أو بقعة. ورحت أتصفح بسرعة الكتاب التاريخي الملحمي بين يدي. كان يحتوي على شهادات كثيرة، ولسوء الحظ، كنت أقرأ في حينها بعضاً من تلك الأحداث غير الدقيقة. همستُ في سري: "لم يمض على ما حدث سوى بضع سنوات، وها هو ذا مؤرخ هنا". ورغم كل المواد البصرية الموجودة كأدلة ووثائق، فقد يقع المرء في أخطاء معينة، فكيف بتاريخ يناهز عمره 1400 سنة، وما زلنا إلى الآن نتحارب حول تفاصيله؟ أصابني التعب حقاً، وغلب جفوني الخدر، فأغلقتهما.

لا أدري كم هي المدة التي غفوت فيها، وربما رحت أشخر في تلك القاعة الكبيرة، وأحلم بأنني موجود على خط الجبهة. خط جبهة ما في أحد الخطوط الأمامية. ثمة خطوط جبهة أمامية، وخطوط جبهة خلفية، وليست كل خطوط الجبهات مهيئة لتستخدم فيها الأسلحة كأمر حتمي.

العالم نفسه عبارة عن خطوط جبهة لا نهائية، يتقاتل فيها بعضهم بالسلاح مع بعضهم الآخر، فيما يتمترس آخرون وراء اللغة، والإيديولوجيا، والسياسة، والطعام. وأنا كنت قد اخترت اللغة لأتمترس وراءها، كنت أعتقد أن من يملك اللغة يمتلك جميع خطوط الجبهات، ويتحكم بخطوط تماسها الرفيعة لكن سرعان ما منيت بخسائر فادحة لن يسعني ذكرها الآن.

لكل منا خطوط جبهته الخاصة. متاريس لا نهائية تقطع هذه الأرض، وتجعل منها مصيدة للفئران الضعيفة. صحوت أخيراً بشكل نهائي، بعد أن ظننت أنني كنت أهذي، ووجوه المسافرين من حولي غائمة، وغير واضحة. تناهت إلى مسامعي همهمة ما:

"أظن أنني قتلت صديقك بمضاد "23 ملم". هل تذكر الاقتحام الأول بعد العيد؟ كان هناك مجموعة تحاول التسلل، وكنت أنا رامي المضاد، وأعرف أنني حصدت كل المجموعة".

التفتّ إلى الوراء بسرعة لأجد الشابين الهزيلين ورائي، يجلسان وكأنهما صديقان يثرثران عن ذكريات جميلة.

أدرت وجهي فزعاً، وشعرت أن المكان يطبق على أضلاعي. هل كانا مقاتلين؟ بالطبع كانا كذلك. أصخت السمع مرة خرى.

"نعم، أذكر كيف مزق الرصاص صدره، دفنته بيدي. كنت أود أن أتابع الاقتحام، غير أننا مُنعنا من ذلك. لكننا في المساء رددنا بالهاون".

"نعم نزلت القذائف علينا مثل المطر، وقتل الكثير من أفراد مجموعتي".

"متى ستعود إلى سوريا؟"

"حين أنهي زيارة أهلي!"

"وأنت؟"

"بعد أن أكمل علاجي.. ربما ثلاثة أشهر".

ثم صمت الاثنان، وطال صمتهما. التفتّ خلسة نحو الوراء ثانية، فشاهدت ملامح وجهيهما بوضوح هذه المرة. كانا ذا وجهين خاويين تماماً. لم أعرف جنسيتهما، هل كانا سوريين؟ لا أستطيع الجزم بذلك الآن. داخلت لهجتهما الكثير من اللهجات الأخرى. في البداية ظننت أن أحدهما فلسطيني، والأخر من الساحل. قلت حينها لا، ربما كان أحدهما سعودياً، والآخر من الشمال السوري. وفي كل مرة أسمع تلون حديثهما يزداد عدم يقيني من أين هما بالضبط. ترى من أين هما؟ وما الذي يثبت هويتهما؟

فجأة بدا لي سؤال الهوية ملحاً، وسألت نفسي من أنا؟ لم أكن سوى عابر يبحث عن قصص. ما الذي يربطني بذلك المكان على وجه التحديد؟ السؤال ذاته سألته فيما يتعلق بهما. ما الذي يربطهما بذلك المكان المليء بـ"الجبهات الأمامية"، فيما أنا أجهد في الركض على الجبهات الخلفية؟

ولكن سرعان ما قطعت أفكاري المتضاربة الجملة الأخيرة التي تلفظ بها أحدهما: "سلّم على أبو محمود، فقد كنا نتسلى بحديثه كثيرا، كانت شتائمه لاذعة حقاً".

"أبو محمود استشهد!"

"ربما تكون أنت التالي!"

"وربما يكون التالي هو أنت"

"سنرى بعد بضعة أشهر"

أردت أن ألتفت مجدداً، ولكنني فضلت أن أعود إلى أفكاري الخاصة. وانتهى الحديث، ولم أعد أسمع صوتيهما.

مضت قرابة الساعة وأنا أفكر فيما قاله هذان الشابان. ثم عدت إلى كتاب المؤرخ الكبير. قلّبت بعض الصفحات على عجل. كانت مليئة بالأرقام والتواريخ. ترى هل كل تلك التواريخ مجدية؟ ربما ستكون مجدية بعد سنوات كثيرة من الآن، عندما تزول الجبهات. ولكن في هذا الوقت بالذات، ينبغي على كل منا أن يبحث عن جبهة ليختبئ في خنادقها. فالبقاء دون جبهة، كما قال أحد المؤرخين، يجعل منا عرضة للقتل بشكل أسرع. ولا نستطيع أن نبرئ أنفسنا من المعركة والدماء التي تنزف في كل الجبهات. في تلك اللحظة كانت البوابة التي تؤدي إلى طائرتي قد فتحت. أمسكت بحقيبتي وأسرعت نحوها. كانت وجهتي إلى الولايات المتحدة، وأنا بالأصالة عن نفسي، استطعت أن أتدبّر أمر اللجوء إلى إحدى أكثر الجبهات صموداً في العالم.

* عن العربي الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...