عبد الفتاح القرقني - زُبَيْـدَةُ.. قصّة قصيرة



( أهدي هذه الأقصوصة إلى روح أختي زبيدة القرقني سائلا الله أن يتغمّدها برحمته الواسعة و يسكنها فراديس جنانه
( غيزن في 16/06/2019)


لَيْسَ مِنْ عَادَةِ فَتْحِي أَنْ يَقْبَعَ حَزِينًا ،مُبْتَئِسًا عَلَى أَحَدِ صُخُورِ شَاطِئِ سِيدِي مَحْرٍز الْمُسَطَّحَةِ قُرْبَ سَفِينَةٍ مُحَطَّمَةٍ تَنَاثَرَتْ أَغْلَبُ أَلْوَاحِهَا هُنَا وهُنَاكَ وَ لَمْ تَعُدْ صَالِحَةً لِلْإِبْحَارِ. كَانَ لَيْلُ آخِرِ شَهْرِ أُكْتُوبَرَ بَهِيمًا وَ مُمِلاًّ : فِي السَّمَاءِ الْمُظْلِمَةِ نُجُومٌ فِضِّيَـــــــــةٌ، برَّاقَةٌ كَأَنَّـــــهَا الدَّنَانِيــــرُ وَ لِأَمْوَاجِ الْبَحْرِ المُتَلاَطِمَةِ رُغَاءٌ مُوحِشٌ ، مُزْبِدٌ كَرُغَاءِ الْإِبِلِ شِتَاءً إِبَّانَ اشْتِدَادِ الْعَواصف وَ الْأَنْوَاءِ. كَانَتِ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ تَصْفَعُ وَجْهَ فتحِي الْعَابِسَ صَفْعًا مُحْتَمَلاً وَ تَهُزُّ هَزًّا خَفِيفًا شَعْرَهُ الْأجْعَدَ الَّذِي وَخَطَهُ الشَّيْبُ.
وَ مَا إِنْ قَوِيَتْ هَذِهِ الرِّيحُ وَ اشْتَدَّ زَفِيفُهَا حَتَّى تَلَفَّعَ فَتْحِي بِبُرْنُسٍ صُوفِيِّ ، بَالٍ غَيْرَ آبِهٍ بِصَخَبِ عُبَابِ الْبَحْرِ و رَذَاذِهِ المُتَطَايِرِ إِبَّانَ انْكِسَارِهِ الْعَنِيفِ عَلَى الصُّخُورِ .
مَنْ هَدَّهُ الْوَجْدُ وَ أَفْجَعَتْهُ الْخُطُوب وَ أَضْنَاهُ الْفِرَاقُ يَسْعَى إِلَى الْبَحْرِ مُتَعَثِّرَ الْخَطَواتِ لِمُنَاجَاتِهِ فِي وَدَاعَةٍ فَهْوَ خِلُّهُ الْوَفِيُّ الَّذِي يَأْتَمِنُهُ عَلَى أَسْرَارِهِ وَ يَبُثُّهُ حُزْنَهُ وَ شَكْوَاهُ وَ كُلَّ مَا يَخَطُرُ بِبَالِهِ فِي زَمَنٍ عَصِيبٍ اتَّسَمَ بِقِلَّةِ الرِّفَاقِ الْأَوْفِيَاءِ الَّذِينَ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِمْ النُّفُوسُ .
أَيُّهَا الْبَحْرُ الْمُتَرَامِي عَلِّمْنِي كَيْفَ أَحْمِلُ أَوْزَارِي دُونَ مَلَلٍ وَ تَنْكِيدٍ
أَيَّ صَبْرٍ تَمْلِكُ و أَنْتَ مُنْذُ الْأَزَلِ تَصْفَعُ ضِفَافَ الصَّخْرِ فِي تَحَدٍّ شَدِيدٍ ؟
أَنْتَ أَلْهَمْتَنِي الْجَمَالَ فَرُحْتُ أَصْدَعُ وَ أَصْدَحُ بِاسْمِهِ الْمَنْشُودِ
أَنْتَ سِرٌّ خَالِدٌ لِعَالَمِ الرُّومَانْسِيَّةِ مُغْرٍ بِجَلاَلٍ وَ كِبْرِيَاء عَنِيدٍ
أَنْتَ عُبَابٌ ضَاجٌّ يَعْزِفُ عَلَى نَايِهِ أُهْزُوجَةَ حُزْنِي وَ أَحْلاَمَ نَشِيدِي
أَنْتَ حِضْنٌ دَافِئٌ لِآهَاتِي وَ زَفَرَاتِي وَ دُمُوعِي وَ قَصِيدِي
بَكَى فَتْحِي بُكَاءً مُرًّا حَتَّى فَاضتْ مَدَامِعُهُ وَ احْمَرَّتْ مُقْلَتَاهُ وَ تَبلَّلَ بُرْنُسُهُ بِسَيْلٍ مِنَ الْعَبَرَاتِ . سَأَلَ الْبَحْرَ بِصَوتٍ مَنْهُوكٍ ، مَكْدُودِ مَزَّقَتْهُ الرِّيَاحُ :
- « أَيُّهَا الرَّفِيقُ الْوَدُودُ هَلْ تَعْرِفُ إِلَى أَيْنَ رَحَلَتْ شَقِيقَتِي زُبَيْدَةَ »
لَمْ يَكْتَرِثْ الْبَحْرُ بِهَذَا السُّؤَالِ بَلْ ازْدَادَتْ أَمْوَاجُهُ عُلُوًّا وَ عُتُوًّا فازْدَادَتْ حِينَئِذٍ أَعْصَابُ فَتْحِي تَفَحّمًـــــــــا وَ نَفْسُهُ أَسًى وَ فُؤَادُهُ خَفَقَانًا وَ احْتِقَانًا عَلى نَحْوٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ يُنْذِرُ بِذَبْحَةٍ صَدْرِيَّةٍ وَخِيمَةِ الْعَواقِبِ عَلَى صِحَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَ الْجَسَدِيَّةِ.
لَمْ يَسْتَسْلِمْ فَتْحِي طَوِيلاً إِلى الأَوْجَاعٍ الْقَاسِيَةٍ الَّتِي انْتَابَتْهُ وَ إِلَى الْهَوَاجِسِ الْخَرْقَاءِ الَّتِي اسْتَبَدَّتْ بِهِ وَ إِلَى الكَآبَةٍ الْقَاتِمَةِ الَّتِي اجْتَاحَتْ أَعْمَاقَهُ اجْتِيَاحَ الْجَرَادِ لِلْفَيَافِي فِي سَنَوَاتِ شِدَادٍ ، عِجَافٍ .
تَلَا الْمُعَوِّذَاتِ فِي خُفُوتٍ وَ هَمَّ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَنْزِلِـــهِ وَ هْوَ يَغْلِي غَلَيَــــانَ الْمِرْجَــــلِ وَ يَهْذِي هَذَيَانَ الْمَجَانِينِ : « لاَ رَجَاءَ مِنْكَ يَا بَحْــــــرُ لِأَنَّكَ لاَ تَسْتَمِــــــــعُ إِلَى آهَاتِـــــي وَ زَفَرَاتِـي وَ لاَ تُوَاسِينِي بِهَدْهَدَاتِكَ النَّاعِمَـــــــةِ وَ هَمْسِ أَمْوَاجِكَ وَ زُرْقَةِ مِيَاهِكَ . يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْكَ خَلِيلاً . بِئْسَ الصَّدَاقَـــــــةُ وَ سَاءَتْ مُرْتَفَــــــقًا . لاَ دَاعِيَ إِلَى صُحْبَــــةٍ هَشَّــــةٍ اصْطَبَغَــــتْ بِالْكِبْرِيَاءِ وَ الزَّيْــــــفِ وَ الْخِدَاعِ وَ الْغَدْرِ . هَلْ يُسِرُّكَ ضُعْفُ حِيلَتِي وَ نَفَادُ جَلَدِي ؟ يَا بَحٍرُ هَلْ تَسْمَعُنِي ؟ مَالَكَ لاَ تُجِيبُ ؟ هَلْ أَنْتَ أَطْرَشُ؟ أَنَا مُزْمِعٌ عَلَى هَجْرِكَ هَجْرًا جَمِيلاً لِأَسَابِيعَ مَعْدُودَةٍ آَمِلاَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ تطَهِّرُ فِيهِ قَلْبَكَ مِنَ الْغِلِّ وَ الْأَحْقَـــــــادِ وَ تَكُونَ خَيْرَ سَنَدٍ لِي فِي الْيُسْـــــــــرِ وَ الْعُسْرِ . دَعْنِي شَرِيدًا ، هَائِمًا أَحْتَسِي فِي اشْمِئْزَازٍ أَقْدَاحَ الرَّاحِ وَ أُصَارِعُ فِي إِقْدَامٍ الْأحْزَانَ الَّتِي تُحَاصِرُنِي مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَحِصَارِ غَزَّةَ أَرْضِ الْعِزَّةِ فَأَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ قُرْبِ انْبِلاَجِ الصَّبَاحِ »
وَحِينَمَا كانَ فَتْحِي يَسْتَعِدُّ لِلْاِنْصِرَافِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهْوَ يَجُرُّ أَذْيَالَ الْخَيْبَةِ وَ الْخُذْلاَنِ انْشَقَّ الْبَحْرُ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ بأعجوبة فِي هَالَةٍ مِنَ الْأَنْوَارِ السَّاطِعَةِ وَ خَرَجَتْ مِنْ أَعْمَاقِهِ حُورِيَّةٌ مَمْشُوقَةُ الْقِوَامِ ، نَقِيَّةُ الْبَشَرَةِ آَيَةً فِي الرَّوْنَـــــقِ وَ الْبَهَاءِ تَهِيمُ بِحُسْنِهَا الْعَينُ و تَجْحَظُ . مَشَتْ هَذِهِ الْحُورِيَّةُ حَافِيَةَ القَدَمَيْنِ فِي جَلاَلٍ فَوْقَ عُبَابِ الْبَحْرِ دُونَ أَنْ تَغْرَقَ أَوْ تَبْتَلَّ أَثْوَابُهَا الْحَرِيرِيَّةُ النَّفِيسَةُ. مَا أَبْهَاهَــــا وَ هْيَ تَتَّجِهُ نَحْوَ فَتْحِي بَاسِمَةَ الثَّغْرِ ، وَئِيدَةَ الْخَطْوِ فِي عَيْنَيْهَا الَعَسَلِيَّتَيْنِ بَرِيقُ أَمْـــــــنٍ وَ سَلاَمٍ وَ رَحْمَةٍ !. مَا أَرْوَعَ ضَّفَائِرَهَا الْخَمْرِيَّةَ الَّتِي تُسَافِرُ عَلَى بِسَاطِ الرٍّيحِ فِي كُلِّ الدُّنْيَا مُنْتَشِيَةً ، مَرِحَةً يَهُزُّهَا الدَّلاَلُ ! وَ إِذَا طَالَ بِهَذِهِ الْجَدَائِلِ السَّفَرُ تَنْسَدِلُ عَلَى ظَهْرِهَا ثُمَّ تَنْسَابُ مُعَانِقَةً وَجْهَ الْبَحْرِ الْمُزْبِدِ ، الْغَضُوبِ فِي رِقَّةِ مَوَّالٍ حَزِينٍ . وَ فِي رَمْشَةِ عَيْنٍ وَصَلَتْ الْحُورِيَّةُ إِلَى الشَّاطِئِ الرَّمْلِيِّ فَحَيَّتْ فَتْحِي فِي مُنْتَهَى اللُّطْـــــــفِ وَ الْأَدَبٍ ثُمَّ جَلَسَتْ إِلَى جِوَارِهِ فِي خَفَرٍ .
اِفْتَتَنَ فَتْحِي بِجَمَالِهَا الْفَائِقِ افْتِتَانًا كَبِيرًا وَ انْتَشَـــى بِعِطْرِهَا الْفَوَّاحِ انْتِشَاءً بَالِغًـــــــــا وَ انْبَهَرَ بِثَرائِهَا الْفَاحِشِ انْبِهَارًا شَدِيدًا لَمَّا أَبْصَرَ أَنَّ فِي مِعْصَمَيْهَا الْبَضَّيْنِ النَّاعِمَيْنِ حِلَيَةً مـــِنَ الزُّمُـــــــــــرُّدِ وَ الْمَرْجَانِ وَ فِي جِيدِهَا عِقْدًا مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَ الْيَاقُوتِ.
تَحَيَّنَ فَتْحِي فُرْصَةَ اخْتِلاَئِهِ بِهَذِهِ الْحُورِيَّةِ الْفَاتِنَةِ فاخْتَلَسَ النَّظَرَ إِلَيْهَا مِنْ خِلاَلِ خَرْقٍ فِي بُرْنُسِهِ وَ تَزَحْزَحَ عَنْ مَكَانِهِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا مُحَاوِلاً الالْتِصَاقَ بِهَا فَدَفَعَتْهُ بِمِرْفَقِهَا دَفْعَةً عَنِيفَةً كَادَتْ تُسْقِطُهُ مِنْ أَعَلَى الصَّخْرَةِ وَ تَقْذِفُ بِهِ فِي الْيَمِّ ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بِصَوْتٍ كَأَنَّهُ رَجْعُ الْمَوْجِ فِي صَلَفِهِ وَ عَجْرَفَتِهِ وَ هْـــيَ تَكْتُـــــمُ ضَحْكَـــةً بَشِعَةً صَفْـــرَاءَ عَلَـــى وَشَــــــكِ الاِنْفِلاَتِ وَ التَّحَرُّرِ:
- « يَا جَبَانُ اُتْرُكْ مَسَافةَ الْآمَانِ وَ لاَ تُحَاوِلْ مَرَاوَدَتِي عَنْ نَفْسِي أَوْ اسْتِدْرَاجِي إلَى مُغَازَلَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْعَبَثِ
وَ الْاِسْتِهْتَارِ »
- « مَعَاذَ اللَّهِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَدَّعِينَ »
- « مَعَ الْأَسَفِ الشَّدِيدِ فَأَنْتَ تَصَرَّفْتَ مَعِي وَ كَأَنَّكَ مُتَصَابٍ لَمْ تَتَوَانَ عَنِ اسْتِرَاقِ النَّظَرِ إِلَيَّ وَ السَّعْيِ الْحَثِيثِ إِلَى الِاِلْتِصاقِ بِجَسَدِي الْغَضِّ وَ أَنْتَ مُتَأَجِّجُ المُشَاعِرِ قَدْ قَدَحَ الشَّيْطَانُ زِنَادَ الْغِوَايَةِ فِي فِكْرِكَ »
- « الْمَعْذِرَةُ عَلَى كَلَفِي بِكِ مُنْذُ النَّظْرَةِ الْأُولَى عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّنِي رَجُلٌ مُتَزَوِّجٌ وَ لِي اِبْنٌ وَ ابْنَةٌ . مِنَ الْبَلاَهَةِ أَنْ لاَ أَعْشِقَكِ يَا أَفْرُودِيت وَ مِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ لاَ يَسْبِيَنِي جَمَالُكِ فَأَقَعَ فِي شِرَاكِ حُبِّكِ : الْوَجْهُ صَبُوحٌ وَ الشَّعْرُ كَأَنَّهُ خَمْرَةٌ مُعَتَّقَةٌ وَ الْقَدُّ غُصْنُ بَانٍ وَ الْخِصْرُ أَهْيَفُ كَخِصْرِ الْغِزْلاَنِ »
- « آهٍ مِنْ جَاذِبِيَّتِكَ وَ خِفَّةِ رُوحِكَ . عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ فَكُلُّ بَنِي آدَمٍ خَطَّاءُ وَ خَيْرُ الْخَطَّائِينَ الْتَوَّابُونَ .»
اِحْمَرَّ وَجْهُ فَتْحِي خَجَلاً وَ هَمْهَمَ بِكَلاَمٍ خَفِيٍّ ، غامِضٍ لاَ يَفُكُّ طَلاَسِمَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ « مَا مَخْصُوص الْمَشْنُوقُ إِلاَّ فِي أَكْلِ الحلوَى »
وَ مَا إِنْ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ حَتَّى اِسْتَطْرَدَ قَائِلاً وَ ابْتِسَامَةٌ شَحِيحَةُ الضِّيَاءِ تَرْتَسِمُ فِي خَفَرٍ عَلى مُحَيَّــاه :
- « هَلْ أَنْتِ أَفْرُودِيت آَلِهَةُ الْحُبِّ وَ الْجَمَالِ ؟»
- « أَنَا زَيْنَبُ ابْنَةُ مَلِكِ الْبِحَارِ نِبْتُون»
- « مَنْ ذَا الّذِي أَغْرَاكِ بِالْمَجِيءِ إِلَيَّ ؟ »
- « طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبَةٌ فَلاَ يُعْصِي أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ إِلاَّ الْعَاقُّ »
- « كَيْفَ ذَلِكَ يَا زَيْنَبُ ؟»
- « قُبَيْلَ اِنْهِمَاكِ أَبِي فِي التَّسْبِيحِ أَلَحَّ عَلَيَّ أَنْ أُصْغِيَ لِشَكْوَاكَ ثُمَّ أَمُدُّكَ بِأَنْجَعِ الْحُلُــــولِ وَ أَحْصَفِهَا »
- « شُكْرًا جَزِيلاً فَأَنَا وَاثِقٌ مِنِ بِرّكِ لِأَبَوَيْكِ و مُتَيَقِّنٌ أَيْضًا مِنْ أَنَّ كُلَّ الْكَائِنَاتِ تُسَبِّحُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى: تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبعُ والأرضُ وَمَن فيهنَّ وإنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهونَ تَسبيحَهُم إنَّه كان حليماً غَفوراً »
- « يَا زَيْنَبُ هَلْ تَعْرِفِينَ شَقِيقَتِي زُبَيْدَةَ ؟
- « مَا أَدْرِيهِ أَنَّ نِسْوَةَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ يَغْسِلَنَ الصُّوفَ فِي هَذَا الْبَحْرِ مُتَفَكِّهَـاتٍ مُتَنَـــــدِّرَاتٍ وَ يَضعْنَهُ فِي شَكْلِ أَكْوَامٍ صَغِيرَةٍ لِيَجِفَّ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ. وَ لَمَّا يَشْتَدُّ الْحَرُّ صَيْفًا يَسْبَحْنَ مُتَخَفِّيَاتٍ ، مَسْتُوَرَاتٍ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُنَّ إِلاَّ وُجُوهُهُنَّ الْمُشْرِقَةُ و مُلاَءَاتُهُنَّ الزَّرْقَاءُ . َكَثِيرًا مَا سَمِعْتُهُنَّ يُرَدِّدْنَ (يَا أَوَسُّو نَحِّيلِي الدَّاء الَّذِي أُحِسُّهُ)».
- « أُخْتِي زُبَيْدَةُ إِحْدَاهُنَّ . هَيَّا اسْتُرِي جَسَدَكِ بِهَذَا البُرْنُسِ الرَّثِّ وَ أَصْغَيْ إِلَى حِكَايَتِي الْعَجِيبَةِ بِإِمْعَانٍ »
- « بِكُلِّ سُرُورٍ وَ حُبُورٍ عَلَى أَنْ تَغُضَّ بَصَرَكَ اسْتِجَابَةً لِقَوْلِ الله تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . »
اِعْتَدَلً فَتْحِي فِي جِلَسَتِهِ وَ قَالَ وَ قَدْ افْتَرَّ ثَغْرُهُ عَنْ ابْتِسَامَةٍ بَائِسَةٍ،كَالِحَةٍ تُتَرْجِمُ مَدَى حُزْنِهِ الْعَمِيقِ :
- « فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ تَعَرَّضتْ أُخْتِي زُبَيْدَةُ إِلَى نَزْلَةٍ حَادَّةٍ هَيَّجَتْ أَمْرَاضهَا الْمُزْمِنَةَ كَالسُّكَّرٍي وَ ضَغْطِ دَمٍ رَغْمَ تَنَاوُلِ الْأَدْوِيَةِ فِي مَواعِيدِهَا وَ اتِّبَاعِ حِمْيَةٍ غِذَائِيَّة صَارِمَةٍ . عِنْدَمَا سَعَتْ الشَّمْسُ إلَى مَغْرِبِهَا فِي وَهَنٍ وَ تَثَاقُلٍ أَدَّيْتُ زِيَارَةً إلَى شَقِيَقَتِي زُبَيْدَةَ لِأَطْمَئنَّ عَلَى حَالِهَا . سَلَّمْتُ عَلَيْهَــــــــا وَ عَلَى أَفْرَادِ أُسْرَتِهَا تَسْلِيمًا حَـــــارًّا وَ سَأَلْتُهَا فِي كَنَفِ الْهُدُوءِ وَ أنَا مُنْدَهِشٌ مِنْ اصْفِرَارِ بَشَرَتِهَـــــــا وَ تَوَرُّمِ وَجْهِهَا وَ كَثَافةِ أَنِينِهَا آهْ آهْ آهْ بِدُونِ انْقِطَاعٍ
- « رَبِّي يَلْطُفُ بِكِ فَمِمَّ تَتَأَلَّمِينَ ؟»
- « ضِيقٌ فِي صَدْرِي وَ لُهَاثٌ مَسْتَرْسِلٌ وَ عَرَقٌ غَزِيرٌ وَ سُعَالٌ شَدِيدٌ مَصْحُوبٌ بِغَثَيَانٍ مُزْعِجٍ »
- « شَفَاكِ اللهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَسْقَامِ »
- « آمِين يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. شِدَّةٌ وَ تَزُولُ بِحَوْلِ اللَهِ »
- «لاَ تَقْنَطِي مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ فَرَجٌ قَرِيبٌ »
وَ حِينَمَا جُهِّزَتْ الْمَائدَةُ المُسْتَدِيرَةُ ، الْوَطِيئَةُ بِمَا لَذَّ وَ طَابَ مِنَ الأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ أَصَرَّتْ أُخْتِي زُبَيْدَةُ عَلَى أَنْ أَتَعَشَّى مَعَهَا يَدِي وَ يدُهَا جَنْبًا لِجَنْبٍ .أَوْجَسْتُ خِيفَــــةً مِنْ هَذَا الْإِلْحَاحِ وَ امْتَثَلْتُ لِطَلَبِهَا مُلَبِّيَا رَغْمَ الْهَوَاجِسِ الَّتِي تَصْرُخُ فِي بَاطِنِي : أَنَّ فِي الأَمْرِ سِرَّا لا يَعْلَمُ خَفَايَاهُ إِلاَّ اللهُ .
رَغْمَ جُوعِي الشَّدِيدِ اقْتَصَرْتُ عَلَى أَكْلِ بِضْعِ مَلاَعِقَ مِنَ الأَرُزِّ وَ شُرْبِ عَصِيرِ الرُّمَّانِ اللَّذِيذِ أَمَّا زُبَيْدَةُ تَنَاوَلتْ نُزْرًا مِنَ الطَّعَامِ يُبْعِدُ عَنْهَا غَائِلَةَ الْجُوعِ وَ ارْتَوَتْ بِقَدَحٍ مِنَ الْمَاءِ يُطْفِئُ لَهِيبَ عَطَشِهَا وَ حِمَدَتْ اللهَ عَلَى فَائِضِ النِّعَمِ الَّتِي أَصْبَغَهَا عَلَيْهَا . وَ بَعْدَ زِيَارَةٍ لِشَقِيقَتِي زُبَيْدَةَ اِسْتَغْرَقَتْ زُهَاءَ سَاعَةٍ وَدَّعْتُهَا بِالْأَحْضَانِ وَ عُدْتُ إِلَى مَنْزِلِي مَشْيَا عَلَى الْأَقْدَامِ غَيْرَ عَابِئٍ بِحُلْكَةِ اللَّيْلِ وَ طُولِ الْمَسَافَةِ فَمَرَضُ أُخْتِي شَغَلَ فِكْرِي وَ عَكَّرَ مِزَاجِــــي وَ أَسَــــــالَ دَمْعِـــي و قَطَّبَ جَبِينِي فُكُنْتُ أَسِيرُ كَئِيبًا ، مُتَشَائِمًا ، هَائِمًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
وَ فِي مُنْتَصَفِ شَهْرِ أُكْتُوبَرَ أَقَامَتْ أُخْتِي زُبَيْدَةُ فِي قِسْمِ الْإنْعَاشِ بِإِحْدَى الْمِصَحَّاتِ فِي جَزِيرَةِ جَرْبَةَ دُونَ أَنْ تَشْهَدَ صِحَّتُهَا تَحَسُّنًا مُطَمْئِنًا بَلْ ازْدَادَتْ تَدَهْوُرًا إِثْرَ قُصُورٍ كُلَوِيٍّ مُبَاغِتٍ أَثَارَ دَهْشَةَ وَحَيْرَةَ الْأَطِبَّاءِ وَ المُمَرِّضِينَ الْمُشْرِفِينَ عَلَى عِلاَجِهَا . وَ مَسَاءَ الْحَــــــــــــادِي وَ الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ أُكْتُوبَرَ وَلَجْتُ قِسْمَ الْإِنْعَاشِ مُرْتَبِكَا ، مَكْلُومًا ، بِخَطْوٍ وَئِيدٍ ، مُتَثَاقِلٍ فَكَأَنَّنِي أَسِيرٌ أَنْهَكَتْهُ الْأَغْلاَلُ . وَ حِينَمَا أَبْصَرَتْنِي أُخْتِي زُبَيْدَةُ نَظَرَتْ إِلَيَّ نَظْرَةَ اِسْتِعْطَافٍ مُثَقَّلَةً بِالْأَوْجَـــــــــاعِ وَ حَرَّكَتْ رَأْسَهَا تَحْرِيكًا عَنِيفًا فَوْقَ الْوِسَادَةِ دُونَ أَنْ تَنْبُسَ بِبِنْتِ شَفَةٍ أَوْ تُسْقِطَ كِمَامَةَ الْأُكْسِيجِينِ الْمَشْدُودَةَ بِإِحْكَامٍ إِلَى أَنْفِهَا . لَمْ تَكُنْ أُخْتِي فِي غَيْبُوبَةٍ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُرْمُقِنِي مُحَرِّكَةً رُمُوشَهَا فِي إِعْيَاءٍ شَدِيدٍ مَرْفُوقٍ بِأَنَّاتٍ سَحِيقَةٍ تُنْطِقُ الْحِجَارَةَ الصَّمَّاءَ .
وَ لَمَّا هَمَمْتُ بِالِاِنْصِرَافِ دَعَوْتُ لَهَا بِالشِّفَاءِ وَ أَنَا مَكْمُودٌ ، مَكْبُوتُ الْعَبَراتِ :« رَبِّي يَشْفِيكِ يَا أَغْلَى أُخْتِ » . شَيَّعَتْنِي بِعَيْنَيْنِ ذَابِلَتَيْنِ كَلَّ بَصَرُهُمَا وَ هْيَ تُومِئُ لِي بِيَدِهَا الْيُمْنَى فَهَلْ أَرَادَتْ أَنْ تُفْضِيَ لِي بِسِرٍّ يُخَامِرُ ذِهْنَهَا أَمْ هُوَ الْوَدَاعُ الْأَخِيرُ وَ هْيَ تُعَانِي مِنْ سَكَراتِ المَوتِ بَعِيدًا عَنْ بَيْتِهَا وَ أَهْلِهَا وَ ذَوِيهَا وَ جِيرَانِهَا؟ . مَا أَتْعَسَ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ وَ مَا أَمَرَّ الْفِرَاقَ ! حَاوَلْتُ الدُّنُوَّ مِنْ سَرِيرِهَا لِأَفُكَّ لُغْزَ إِشَارَتِهَا لَعَلَّنِي أَقْدِرُ عَلَى إِعَانَتِهَا بمَا هُوَ مُتَيَسِّرٌ وَ مُتَاحٌ لِي. آنَذَاكَ دَعَتْنِي الْمُمَرِّضَةُ فِي حَزْمٍ لِمُبَارَحَةِ الْمَكَانِ : « اِنْتَهَى وَقْتُ الزِّيَارَةِ يَا سيِّدِي ».
اِنْصَرَفْتُ إٍلَى بَهْوِ الْمِصَحَّةِ وَ أَنَا فِي مُنْتَهَى الْحُزْنِ لاَ أَحْفَلُ بِمَا يَدُورُ حَوْلِي فَأَنَا فِي دَقَائِقَ حَرِجَةٍ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ . كَانَ الصَّمْتُ يَلُفُّ الْمَكَانَ فِي مَلَلٍ دُونَ أَنْ يَنْقَطِعَ حَبْلُ الرَّجَاءِ الْمَتِينُ فَمَا أَضْيَقَ الْعَيْشَ لَوْلاَ فُسْحَةُ الْأَمَلِ. كَانَ أَفْرَادُ الْأُسْرَةِ وَاجِمِينَ ، مُطْرَقِي الرُّؤُوسِ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَ اللهِ عَنْ مَضَضِ فَإمَّا حَيَاةٌ وَ إِمَّا مَمَاتٌ.
وَ عِنْدَ الْإِيَّابِ إِلَى مَنْزِلِي اسْتَفْسَرَتْنِي زَوْجَتِي نَزِيهَةُ عَنْ حَالِ أُخْتِي زُبَيْدَةَ فَقُلْتُ لَهَا بِنَبَرَاتِ مُتَهَدِّجَةٍ أَضْنَاهَا الْكَمَدُ :« بَقَاءُ زَبَيْدَةَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ إِلَى الْغَدِّ يُعْتَبَرُ مُعْجِزَةً رَبَّانِيَّـةً وَ بِدَايَةً لِعُمْرٍ جَدِيدٍ ، مَدِيدٍ ».
سُبْحَانَ مَنَ تفَرَّدَ بِدَوَامِ الْعِزَّةِ وَ الْبَقَاءِ وَ كَتَبَ عَلَى مَخْلُوقَاتِه الْمَوْتَ و الْفَناَءَ و لم يشاركه أَحَدٌ في خلوده حَتَّى الْمَلاَئِكَةُ وَ الِأَنْبِيَاءُ . وَ فِي الثَّانِي وَ الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ أُكْتُوبَرَ فَارَقَتْ زُبَيْدَةُ الْحَيَاةَ وَقَدْ أَنَافَ سِنُّهَا عَلَى الثَّمَانِينَ فَغُسِّلَــــتْ وَ كُفِّنَتْ وَ دُفِنَتْ زَوَالاً فِي مَقْبَرَةِ الأُسْرَةِ فِي جنَازَةٍ حَاشِدَةٍ سَادَهَا الأَسَـــى وَ التَّكْبِيرُ وَ الْاستِغْفَارُ. إِنَّ الْقَلْبَ لَيَحْزَنُ وَ إِنَّ الْعَيْنَ لَتَدْمعُ وَ إِنَّ عَلَى فِرَاقِكِ يَا زُبَيْدَةُ لَمَحْزُونُونَ لاَ نَقُولُ إِلاَّ يُرْضِي اللهَ . إِنَّا للَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .
مِنْ بَيْنِ مَشَاهِدِ الْمَأتَمِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَشْهَدٌ مَقِيتٌ حَزَّ فِي نَفْسِي الْجَرِيحَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فَغَدَا كَابُوسًا شِرِّيرًا يُضَايِقُنِي وَ يُنَغِّسُ حَيَاتِي إِذَا خَلَوْتُ بِنَفْسِي أَوْ تَثَاءَبْتُ مِلْءَ شِدْقَيَّ أَوْ سَهَوْتُ عَنِ الْاِسْتِعَاذَةِ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. مَا هُوَ هَذَا الْمَشْهَدُ المُثِيرُ الَّذِي بَلْبَلَ فِكْرِي وَ أَسْهَدَنِي فَسِرْتُ أَمْشِي هَائِمًا عَلى وَجْهِ الْأَرْضِ ؟
مَا إِنْ وَلَجْتُ غُرْفَةَ أُخْتِي زُبَيْدَةَ حَتَّى دَغْدَغَتْ أَنْفِي رَائِحَةُ الْبَخُورِ الزَّكِيَّةُ وَ تَسَمَّرْتُ فِي مَكَانِي مَذْعُورًا ، فَاغِرَ الفَمِ أَرْمُقُ فِي انْكِسَارٍ جُثْمَانَ الْفَقِيدَةِ الْمُغَطَّى بِغِطَاءٍ نَاصعِ الْبَيَاضِ .سُبْحَانَ اللَّهِ الْحَيِّ الدَّائِمِ . وَ مَا هِيَ إِلاَّ ثَوانٍ مَعْدُودَةٌ حَتَّى كَشَفَتْ امْرَأَةٌ فَظَّةٌ ، غَلِيظَةُ الْقَلْبِ أَجْهَلُ اسْمَهَا اللِّحَافَ عَنْ وَجْهِ أُخْتِي فَبَدَا لِي نَضِرًا مُشْرِقًا رَغْمَ شُحُوبِهِ وَ خُلُوِّهِ مِنَ الْبَسَمَاتِ . سَرَتْ قُشَعْرِيرَةٌ مُزْعِجَةٌ فِي كَامِلِ بَدَنِي وَ فَاضتْ مُقْلَتَايَ بِدُمُوعٍ كَأنَّهَا الْجَمْرُ وَ وَدَّعْتُ أُخْتِي مُرَدِّدًا « السَّمَاحُ ، السَّماحُ . جَنَّةٌ وَ غُفْرَانُ ذُنُوبٍ إِنْ شَاءَ اللهُ » ثُمَّ بارحْتُ الْمَكَانَ سَائِلاً الْعَلِيَّ الْقَدِيرَ أَنْ يَتَغَمَّدَهَا بِواسِعِ رَحْمَتِهِ وَ يُسْكِنَهَا فَسِيحَ جِنَانِهِ . طَيْفُ أُخْتِي لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ مُلاَحَقَتِي هُوَ نَصْبَ عَيْنَيَّ فِي الْيَقَظةِ وَ الْحُلْمِ. كَمْ تَمَنَّيْتُ أَنْ يَزُولَ هَذَا الْخَيَالُ تَمَامًا أَوْ لِبَعْضَِ الْوَقْتِ فَيَنْدَثِرَ اكْتِئَابِي وَ أَبْتَسِمَ لِلْحَيَاةِ كَمَا يَبْتَسِمُ النَّاسُ الْعَادِيونَ! سَئِمْتُ مِنْ هَذهِ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكَةِ الَّتِي أَحْيَاهَا فَأَضْحَتْ حَيَاتِي مُمِلَّةً ، رَتِيبَةً لا رَوْنَقَ فِيهَا . النَّهَارُ لِلْخُمُـــــــولِ وَ الْهَواجسِ و اللَّيْلُ لِلْأَرَقِ وَ التَّقَلُّبِ عَلى الْفِرَاشِ وَ عَدِّ النُّجُومِ وَ إِذَا دَاعَبَ النُّعَاسُ الْخَفِيفُ جَفْنَيَّ لِوَقْتٍ قصير فِي آخِرِ اللَّيْلِ كَانَتْ أَحْلاَمِي مُضْطَرِبَةً وَ مُزْعِجَةً . مَا الْعَمَلُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ هَذَا الطَّيْفِ الَّذِي يَتَرَاقَصُ أَمَامِي فِي الْيَقَظَةِ وَ الْمَنَامِ ؟»

جَفَّفَتْ زَيْنَبُ دُمُوعَ فَتْحِي المُنْهَمِرَةَ بِرَاحَة يَدِهَا وَ قَالَتْ لَهُ فِي إِشْفَاقٍ عَظِيمٍ :
- « وَاجِهْ هَذِهِ الْمَأْسَاةَ بِالصَّبْرِ وَ الًصَّلاَةِ عَمَلاً بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا استعينوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ »
- « لاَ أَسْتَغْرِبُ مِنْ تَرْدِيدِ أُمِّ كَلْثُومِ عِبَارَةَ لِلصَّبْرِ حُدُودٌ»
- « تَجَمَّلْ بِالصَّبْرِ فَالصَّبْرُ مِفْتَاحُ الْفَرَجِ وَ دَعْكَ مِنَ الاِنْزِلاَقِ نَحْوَ الوَسَاوِسِ وَالْغِوَايَةِ وَ الضَّلاَلِ فَالْمَوْتُ قَضَاءٌ وَ قَدَرٌ نَتَقَبَّلُهُ بِصَدْرٍ رَحِبٍ وَ إِيمَانِ لاَ يَفِلُّ وَ لاَ يَكِلُّ »
- « هَلْ مِنْ نَصِيحَةٍ ثَانِيَةٍ ؟ »
- « سَبِّحْ كَثِيرًا وَ ادْعُ الله بُكْرَةً وَ أَصِيلاً أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنَ الْحُزْنِ وَ يُفَرِّجَ هُمُومَكَ وَ يَمُنَّ عَلَيْــكَ بِالسَّلْوَى وَ رَاحَةِ الْبَالِ»
- « نُصْحُكِ عَزَّزَ ثِقَتِي بِنَفْسِي فَأَنَا الْآنَ مَسْرُورٌ ، مُنْشَرِحٌ أَكَادُ أَطِيرُ مِنَ شِدَةِ الْفَرَحِ وَ الاِسْتِبْشَارِ »
- « مَا أَخَفَّ قَلْبَكَ وَمَا أَلْطَفَ رُوحَكَ وَ مَا أَشَدَّ بَرِيقَ التَّفَاؤُلِ فِي مُقْلَتَيْكَ !»
قَالَ فَتْحٍي فِي نَخْوَةٍ وَ مُرُوءَةٍ وَ هْوَ يَفْتِلُ شَارِبَيْهِ المُعَقَّفَيْنِ :
- « لَقَدْ كُنْتُ مُنْذُ قَلِيلٍ أُعَانِي مِنْ حُزْنٍ شَدِيدٍ وَ إِحْبَاطٍ مُخِيفٍ و الْآنَ طَفَحَ قَلْبِي بِالْغِبْطَةِ وَ أَضَاءَتْ نَفْسِي الصَّقِيلَةَ وَمَضَاتٌ بَهِيجَةٌ مِنَ الْأمَلِ لاَ يَخْبُو نُورُهَا وَ لاَ يَنْطَفِئُ أَلَقُهَا »
- « أَصْغِ إِلَى هَذِهِ الْأَبْيَاتِ لِعُمَرِ الْخَيَّامِ فَهْيَ لَنْ تَزِيدَكَ إِلاَّ رُسُوخَا وَ ثَبَاتًا
سَمِعْتُ صَوْتًا هَاتِفًا مِنَ السَّحَرْ
نَادَى مِنَ الْغَيْبِ غُفَاةَ الْبَشَـــــرْ
هُبُّوا امْلَؤُوا كَأْسَ الْمُنَى قَبْـــــلَ
أَنْ تَمْلَأَ كَأْسَ الْعُمُرِ كَفُّ الْقَـــدَرْ»

وَ فَوْرَ إِحْسَاسِ فَتْحِي بِالطُّمَأْنِينَةِ دَاعَبَ النُّعَاسُ جُفُونَهُ وَ أَسْلَمَ لِنَوْمٍ مُرِيحٍ لاَ تُكَدِّرُ صَفْوَهُ أَضْغَاثَ الأَحْلاَمٍ. وَ مَا هِيَ إِلاَّ دَقَائِقُ حَتَّى غَرَفَتْ زَيْنَبُ مِنَ الْبَحْرِ الطَّامِي ثَلاَثَ حُفْنَاتٍ مِنَ السَّمَكِ الطَّرِيِّ مَلَأَتْ بِهَا سَلَّةً مِنَ السَّعَفِ مَوْضُوعَةً حِذْوَ صَدِيقِهَا الْحَمِيمِ فَتْحِي ثُمَّ حَرَّرَتْ رِسَالةٌ قَصِيرَةً جَاءَ فِيهَا :
- اُشْكُ بَثَّكَ وَ حُزْنَكَ إِلَى اللهِ
- لاَ تَحْزَنْ وَ لاَ تَبْتَئِسْ إِنَّ اللَهَ مَعَكَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ فَإِنْ أَنْتَ لاَ تَرَاهُ فَهْوَ يَرَاكَ.
- عِنْدَ الشَّدَائِدِ يُعْرَفُ الْإِخْوَانُ وَ أَنَا وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ بِحَوْلِ اللهِ .
دَثَّرَتْ زَيْنَبُ صَدِيقَهَا فَتْحِي بِبُرْنُسِ رثٍّ وَ دَسَّتْ فِي جَيْبِهِ تِلْكَ الرِّسَالَةً ثُمَّ كَلَّفَتْ أَحَدَ خُدَّامِهَا بِحِرَاسَتِهِ إِلَى أَنْ يَصْحُوَ مِنْ نَومِهِ الْمُرِيحِ . آنَ وَقْتُ الرَّحِيلِ فَغَاصَتْ زَيْنَبُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ غَيْرَ عَابِئَةٍ بِهَدِيرِ أَمْوَاجِ الْبَحْر وَ ارْتِفَاعِهَا كَالطّوْدِ الأَشَمِّ . إِنَّهَا تُحْذِقُ فَنَّ الْعَوْمِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهَا شَأْنُهَا شَأَنُ أَفْرَادِ أُسْرَتِهَا. وَ إِثْرَ سَاعَةٍ مِنَ السِّبَاحَةِ المُتَوَاصِلَةِ وَصَلَتْ زَيْنَبُ إِلَى قَصْرِ أَبِيهَا خَائِرَةَ الْقُوَى ، تَتَنَفَّسُ بِسُرْعَةٍ مُذْهِلَةٍ لَكِنَّهَا فَرِحَةٌ ، رَاضِيَةٌ عَلَى الْعَوْنِ الَّذِي قَدَّمَتْهُ فِي مُنْتَهَى الْأَرْيَحِيَّةِ لِرَفِيقِهَا فَتْحِي ذَاكَ الرُّجُلُ الشَّهْمُ وَ الْوَقُورُ.


تعليقات

أهدي هذه الأقصوصة إلى روح أختي زبيدة القرقني سائلا الله أن يتغمّدها برحمته الواسعة و يسكنها فراديس جنانه ( غيزن في 16/06/2019)
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...