أدب ساخر جورج سلوم - صراخ في المقبرة

لن أستطيع أن أفتح فمي .. سيخرسونني

سأتنفس فقط وبلا صوت .. وسأبلع وأزدرد وأجترّ وسأعلك بلا صوت!

سأهمس لنفسي فقط وبعض الهمس قد يكون قتّالاً .. فالهمس خطير وقد يكون كلاماً بذيئاً أو مخجلاً على الأقل وإلا لجهروا به .. والهمس يجعل الآذان منصتة والعيون ترقب الشفاه لتقرأها وآلات التسجيل تعمل

والجدران لها آذان ..

ودورة المياه التي تكون فيها وحدك عادة .. تشاركك فيها الأرواح الجنيّة .. الشريرة .. لذا فاصمت فيها أيضاً ... اسكت فيها وتنفس من شرجك فقط .. زفيراً كريه الرائحة وعد فاستنشقه مراراً وتكراراً لأن بابك مغلق عليك .. ودّع أنفاسك واستقبلها ثانية وثالثة .. لأنك معتادٌ عليها ولن تضرّك لأنها مهضومة بأمعائك ومختمرة بعصارات أفكارك وممتصّة بوجدانك المصاب بالإمساك..

إياك والإسهال الفكري .. فقد تصاب بعده بالتجفاف الأدبي ، وهو أحد أسباب جفاف المداد

اسكت فقط .. ولا تكتب ما يعتمل في نفسك

لا .. لا تكتب شيئاً فهنا الطامة الكبرى.. ستلحقك الكلمات حتى الجيل الرابع عشر من بني جلدتك لتحاكمك ..

اسكت فالسكوت من ذهب لا يباع في السوق .. ولكنك تشتري به كرامتك!

اسكت .. بدءاً من صباحك المقيت .. ودَع فيروز تغني لك من مذياع الثرثرة قبل نشرات الأخبار التي ستجعلك تؤمن بالهجوع والاستكانة والخنوع والمهانة

اسكت مع طلوع شمسك .. وتعلّم منها الصمت المضيء

اسكت في مكان عملك .. حتى ولو كنت بلا عمل .. ووافق على كل ما يقولونه لأنهم أعلم منك وأفقه وأقدر وأشجع وأحكم وأعظم

استصغر نفسك دائماً .. وقل الله أكبر

اسكت في دور العبادة كلها لأنك سبق وأعلنت أنك آمنت بمسلماتها

ومروراً ببيتك .. وأمام ابنك الذي طالت لحيته .. وزوجتك التي ماعدت مقنعاً لها منذ كتبت كتابك عليها .. وأمام عنكبوت غرفتك الذي تطاولت شبكته عليك .. دعه ينسج شباكه بصمت ولن يفترسك

في شارعك كن صامتاً .. فالمارة به مكلفون بمراقبتك وإسكاتك لو عطست لأنك ستكون معدياً وممرضاً

في بستانك وبين شجراتك اسكت أيضاً .. فالمحصول آيل للسقوط والشجرة ثائرة على جذورها .. والطفيليات صارت سيدة الحقل

لا تحاول أن تهوي على أصول الشجر بمنجلك .. فالأشجار ثائرة عليك هذه الأيام .. اتركها تبخل عليك بثمارها .. فما عدت مقنعاً حتى لأشجارك وأنت لست أهلاً لقطف تفاحة .. وعليك بالساقطات منها فقط ..لقد أسقط في يدك يا هذا

اسكت مادمت حياً

وقد عرفت حلاوة السكوت ولم يعرف المتكلمون مرارة الكلام

وعندما يقبرونك .. عندها تكون قد جاءت ساعتك ..عندها زمجر بروحك الصاعدة من خياشيمك .. اصرخ معترضاً على طريقة موتك وتوقيتها غير المناسب ومكان قبرك ونوع تربتك واتجاه رأسك ولون كفنك وكمية التراب التي سيردمونك بها .. اعترض على اسمك المكتوب على شاهدتك .. وقل لهم إن اسمك كان خطأ املائياً لا ذنب لك فيه ..لأنهم لم يستشيروك بل فرضوه عليك فرضاً .. وما حصل التوافق والتناسب المرجوّ بين اسمك وكنيتك.

وفعلاً .. مازلت أسمع صراخاً كلما مررت بالمقبرة .. وقالوا إنه ضجيج الأرواح وعواء الريح ونباح كلاب شاردة ونعيق غربان الشؤم ..وقالوا إنه صخب الأرواح التي عاشت بالصمت الذليل وآن لها أن تقول شيئاً ..وقالوا إن الرعد هو مظاهرة الأرواح المتفاعلة والبرق هو صرير أسنانها .. والمطر دموعها التي قد تسقي ظمآنا وقد تفيض سيولاً قتالة .. وقوس قزح هو قوس النصر الذي يؤذن بانتهاء العاصفة .

لقد حاولوا سابقاً أن يمروا من تحته ليقطفوا الانتصار .. ولكنه كان بعيداً للأسف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...