علياء الداية - اشتعـــال.. قصة قصيرة

في منتصف الصفحة، أتوقف عن القراءة. منذ زمن طويل لم أتسلّ باستطلاع الشارع، هواية قديمة. أنظر عبر النافذة، الإنارة خافتة، الليل والهدوء يعمان المكان، سيارة، اثنتان، تمران مرور الأشباح. من وضع هذه الكومة هنا؟ على الرصيف المقابل، قرب أشجار الصنوبر المتصلة بحديقة الجيران أكداس رماها بعضهم، لا شكّ أنهم الجيران في الحارة القريبة، دائماً يلقون بالمخلفات أمام بيوت الآخرين!

"كالنار في الهشيم" كان أخي الصغير قد عاد اليوم من المدرسة وجادت حصة العربي عليه بهذه العبارة، وكي يشرح لي هذا المثَل قال: "لنتخيل كومة من القش، وقد اشتعلت فيها نارٌ، ستمتد النار وتنتشر لتأكل كل شيء وبسرعة! هذه هي: النار في الهشيم". أخي ذكي جداً، واسع الخيال، ويحفظ دروسه جيداً!

يعود السكون الاعتيادي. لكن ها هما متسكعان يقتربان، تسبقهما قهقهاتهما، يدفع أحدهم بقدمه علبة قصدير فارغة فيملأ ضجيجها المكان، تخف الجلبة، يبدوان كأولاد الجيران المشاغبين الذين تصرخ فيهم أمهم على الدوام: "لا تكذب، ستذهب إلى النار". سيمضي هذان الشابان بالتأكيد وسيختفي وقع خطواتهما مع الشارع الممتد الطويل. ولكن لا، شيءٌ آخر يحدث، مغاير للتوقع. هناك يتهامسان، يشير أحدهما إلى كومة القش، يتبعه الآخر. ثمة ضوء ينبعث بينهما، عود ثقاب؟ يختفي الضوء وقد مال أحدهما وصار ظهره باتجاه الشارع في حين صفّق الآخر ثلاث مرات مبتهجاً! لا! ليته لا يفعل ذلك! ولكن، الشرارة وسط القشّ، يرمقها الشابان بنظرة ثم يوليان مسرعين ليبتلعهما ليل الشارع الممتد الطويل.

الشرارة تتطور، أتسمّر ويداي ملتصقتان بالنافذة، النار تكبر، وتكبر. عيناي مأخوذتان بالمشهد، برتقالي، أحمر، أصفر، ألوان النار الساحرة، اشتعالها، ألسنة اللهب. هذه هي النار، "إلى النار"، ستشتعل أشجار الصنوبر المجاورة، وتتسلل النار إلى أبناء الجيران، وتزورهم مرّة واحدة، يا للبؤساء! "تنتشر لتأكل كل شيء وبسرعة!" هل ستأتي إلينا أيضاً؟ وأفزع من الخاطر الرهيب، أصرخ! أركض لأنير المصباح، الأهل... وريثما يهبّ الجيران وتصل سيارة الإطفاء يأتي أخي الصغير فأرفعه إلى مستوى النافذة لينظر: "كالنار في الهشيم"!
التفاعلات: رضى كنزاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...