أحمد بوزفور - العين الزركَا.. قصة قصيرة

ولكن ( نانا ) لم تكن جرة عسل فقط، كانت جرة حكايات أيضا، كنت أسمع من أعمامي الشيوخ حكاياتهم عن شبابهم ورجولتهم وصراعاتهم على الأرض مع الجيران القدامى، وبلائهم في حروب ” بوحمارة ” و ” عبد الملك ” ” وعبد الكريم “. كنت أنظر مبهورا إلى اللحية البيضاء وهي تهتز كشاشة، وأقرأ فوقها صور البطولة والشهامة والإباء، وأنا خلال ذلك أتسع وأكبر، والعالم يصغر ويتكور، حتى يصبح حبة حلوى في كفي الصغيرة المرتعشة، من الحماس لا من الخوف، من القوة النابتة لا من البرد.

وحين أخلو إلى ( نانا ) كانت تعيد الحكايات نفسها، الأحداث نفسها، الحروب نفسها، ولكن بإخراج أفظع وأقسى، يجعل من أبي وأعمامي الأبطال عصابة من القتلة والسفاحين المتوحشين، لا تهتز لهم شعرة أمام الطفل والمرأة والشيخ المسن. يقتلون ويغتصبون، ويستولون، وشعارهم الدائم: ” حفنة تراب ولاحفنة نمل “
لم تكن ترحم أحدا، أو تحترم أحدا، كلهم قلبهم” كافر” وعينهم (زركَا ) والعالم يتسع ويُظلم ويتوحش، وأنا أصغر وأنكمش، وأندس في ” قشابة ” ( نانا ) الباهتة، ولحمها الأسمر المجعد.

” نانا “
لم تكن الفظاعة في الأحداث أساسا، بل في طريقة حكيها : القتل والدم والخديعة والوحشية تُسرد بنغمة رتيبة مستوية لا تعطي أية أهمية للمعنى وظلاله. كمن يقرأ قصيدة عمودية قديمة قراءة عروضية محضة تحافظ على البحر، وتلغي الدلالة.
كانت عين العالم الكبير تزرورق شيئا فشيئا، وضمنها عين ( نانا ) نفسها.


أحمد بوزفور


* أحمد بوزفور : العين الزركَا
التفاعلات: مليكة ابابوس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...