كالصاعقة نزل عليّ خبر موت الكاتب والصديق محمد لفتح. ووجدتُ صعوبة بالغة في تصديق هذا النبأ الفاجعة. كان قلبي يخفق بقوة، وحلقي يختنق، وأمعائي تتلوى: استحوذت عليَّ رغبة جارفة في التقيؤ. موتُ أخي الكبير، كما تعودت أن أسمّيه، موتٌ أصابني بالحزن والغم والغضب. لكن هيهات! مهما دققتُ في الكلمات، وتشددتُ في انتقائها، فهي عاجزة تماماً عن التعبير على حقيقة ما يخالجني من عواطف وأحاسيس. ليس هناك كلمة واحدة تستطيع التعبير عن دوّامة الاضطراب والحيرة والذهول التي أغرقني فيها رحيل محمد لفتح. إنني أكن حباً وإعجاباً كبيرين للرجل ولأعماله. وما زلت حتى الآن أتذكر سروره عندما علم بأنني عقدت العزم على تكريمه عبر قراءة مجموعة من قصائدي ضمن أمسية شعرية في بار «دون كيشوت» في الدار البيضاء، وهو بار طالما درج على ذِكره في رواياته ونصوصه. كان يتطلّع، حسب تعبيره، إلى المغامرة مرة أخرى في هذا الفضاء الذي كان يسميه «الحفرة» ومشاهدة «التغيير الذي سيطرأ عليه تحت وقع الأبيات الشعرية». لقد كان الرجل يتحلّى بالحشمة والصدق والكرم، وهي خصال قلّما خبَرتُها عند الكتّاب الآخرين. وهذا ما جعلنا نرتبط بصداقة عفوية ومتينة منذ لقائنا الأول. بعد أيام قليلة على مرور هذا اللقاء بيننا في باريس، بعث إلى بنسخة من روايته «آنسات نوميديا» ممهورةً بإهداء جميل جعلني أشعر بامتنان كبير. شاءت الأقدار أن نلتقي لاحقاً في مدينة طنجة في مناسبة «معرض الكتاب الدولي» الذي كنّا من بين ضيوفه. لم نفترق أبداً خلال عشرة أيام كاملة، ولا أتذكر حتى الساعة أنني خالطتُ أحداً غيره في تلك الرحلة الطنجوية. ترسّختُ صداقتنا، ورغم فارق السن الكبير بيننا، كان كل واحد منا يعدّ الآخر بمثابة أخ حقيقي: «أنا خوه الصغير وهو خويا لكبير». كان لفتح يكره الصالونات الأدبية والمواضعات الرسمية ببريقها وضجيجها المصطنع. لذا هربنا معاً من العالم وغُصنا في ليل طنجة وأجوائها الهامشية والبوهيمية. عشرة أيام من التيه والجنون المفرطين أنهكت أجسامنا الهشة. كنا نغرق ونطفو إلى السطح من جديد، متكئاً أحدنا على الآخر. كان لفتح يضحك كثيراً، وكانت تبدو على وجهه علامات البهجة، رغم تلك المرارة الغامضة الممزوجة بغضب فاتر، التي كانت تشعّ من نظراته. «الموت هو ما يحوِّل الحياة إلى قدر»، كتب لي لفتح في رسالة قبل شهور قليلة من موته، مستشهداً بقولة للكاتب الفرنسي أندري مالرو. ثم أضاف من عنده: «الكتابة تستطيع، هي الأخرى لعب دور في الحياة». برحيله، يبدو لي كأنّ الموت تحالف مع الكتابة ليحوّلا حياة لفتح إلى قدر، هو الذي آمن دوماً بقدرة الكتابة والموت على تغيير مسار الأشياء. وبينما كان الموت يسري بين سطور أعماله، كان لفتح منكباً على الكتابة بحرقة وهوس، مازجاً بين «رعب الحياة ورعب الموت». ورغم ذلك، كان لفتح غالباً ما ينظر إلى أعماله نظرةً مفعمة بالريبة والشك، من فرط تواضعه من دون شك، وأيضاً لكونه يرى الكتابة متناقضة تماماً مع «الخطاب المنغلق والمثالي» السائد في الأوساط الأدبية. خلال مراسلاتنا ونقاشاتنا المستفيضة، كان لفتح يرفض الركون إلى طمأنينة «التصنيفات الأدبية» ويكره كل أشكال «التمجيد الذاتي»، وتلك واحدة من خصاله الكبيرة. علاقته بالكتابة كانت إشكالية ومتوترة وبلا أدنى تنازلات. كان يعيش فعل الكتابة على أنه نوع من الحرمان والألم. ألم كان يقارنه بآلام المخاض. لقد كان يرى الكتابة فيضاً عضوياً، حمى سائلة. مَنوية ودموية. تُطبع على ورق أبيض في نوع من الانصهار اللحمي شبيه بممارسة الجنس. كتب لي أخيراً: «كيف يمكن أن نجرؤ على الكتابة بعد كافكا وريلكه وبيرس ودستويفسكي وتشيخوف وتولستوي.... الكتابة كتعفّن في الجسم. إذن الكتابة بالنسبة إليّ، هي نوع من الحَكّة». رغم إصراره على اعتبار الكتابة ممارسة مهينة بعد كل هذه الأسماء العظيمة، فإنّ أعمال لفتح بثرائها وتعدّد أشكالها وكثافتها تدافع عنه وعن مكانته الأدبية. وعندما نقرأ أعماله، يغمرنا جمالها الساطع ويحلّق بنا نحو عوالم بعيدة. رغم أنّ أعماله عبارة عن روايات تحدوني الرغبة في أن أصف كتبه بالأعمال الشعرية، ذلك أنّ لفتح كان يقوم بعمل يزاوج فيه بين موهبة الكيميائي وصرامة الحداد. كلماته الدقيقة والشفافة تغيّر وجه الواقع وتحوّل كلما تلمسه إلى روعة تعمي الأبصار. سنرى دوماً في كتاباته صاحب عمل له سحر وأسر الموت. رحلة سعيدة أخي الكبير... حتى ميتاً ستظل تسكنني إلى الأبد.
* كاتب وشاعر مغربي مقيم في باريس
* كاتب وشاعر مغربي مقيم في باريس