خورخي أمادو - كيف أزاح المولاتو بورسيانكولا الجثّةَ عن ظهره.. قصة قصيرة - ت: محمد منصور

كان الغرينغو،** الذي حطّ رحالَه هنا منذ سنين، رجلًا كتومًا وذا بشرةٍ باهتة. لم يرَ أحدٌ قطّ شخصًا يحبّ الشربَ كثيرًا مثلَه. والقول إنّه يبتلع الكحولَ ابتلاعًا ليس بالوصف الدقيق ــــ فجميعُنا يفعل ذلك، والحمدُ للربّ! ــــ إذ كان في إمكانه أن يعاقر القوارير طوال نهاريْن وليلتيْن من دون أن يحرّك شعرة. وإذ يثمل، فإنّه لا يثرثر، ولا ينطلق بأغنيات عن الزمن الماضي، ولا يبدأ بسرد القصص عن الحظّ العاثر في أوقاتٍ مضت. كتومًا كان، وكتومًا ما يزال؛ فقط عيناه الزرقاوان تبدأان بالانحسار؛ ومع كلّ نظرةٍ تحترق الزرقةُ شيئًا فشيئًا، كجمرةٍ ملتهبةٍ حمراء.

نسجوا عنه الكثيرَ من القصص، وبعضُها كان يسيل بكثيرٍ من الرقّة، حتّى أصبح من الممتع الاستماعُ إليها. لكنّها كلّها أقاويل ــــ فمن فم الغرينغو لا تستطيع أن تعلمَ أيّ شيء؛ حتّى في مناسبات الولائم الكبيرة، عندما يثقلك الشعورُ أنّ قدميْك لُفَّتا بالرصاص المسكوب لكثرة الخمرة المتجمّع فيهما، يبقى فمُه ذلك الفمَ المقطّب! ومرسيدس، التي لا يَخفى على أيّ منّا ولعُها بالغرينغو، لم تستطع، على الرغم من تطفّلها الفريد، انتزاعَ حقيقةٍ واحدةٍ عن المرأة التي قتلها في بلده، أو عن الرجل الذي ظلّ يطارده سنةً بعد سنة، ومن مكانٍ إلى آخر، حتّى غرز سكّينًا في بطنه. عندما سألتْه مرسيدس عن ذلك الحادث، في أحد تلك الأيّام الطويلة، وقد استنزفت الخمرةُ احتياطيَّ طاقته كلّه، بقي يحدّق في ما لا يعرفه أحد، بعينيه الصغيرتين المزمومتين الزرقاوين المحمرّتين كالدم، والمطبقتيْن كأنّهما مغلقتان، ليطلق في النهاية صوتًا كالنخير لم يُفهم منه شيءٌ.

لاختلاط التفاصيل، لم أتمكّن من فهم نهاية قصّة المرأة تلك، ذاتِ السبعة عشر جرحًا في أجزائها السفلى... أو قصّةِ ذلك الرجل الثريّ الذي طارده من ميناءٍ إلى آخر حتّى غرز فيه سكينًا، هي ذاتُها التي استعملها ليقتل المرأةَ ذاتَ السبعة عشر جرحًا في أجزائها السفلى. لا أعرف! فهو، وإنْ كان يحمل تلك الجثث، فإنّه لم يشأ التخلّصَ من عبئها؛ حتّى وهو يثمل، كان يطبق جفنيْه وتتدحرج تلك الجمراتُ الملتهبةُ على الأرض تحت أقدام الجميع.

اسمعوا، إنّ الجثة لحملٌ ثقيل. وقد شاهدتُ، في العديد من المرّات، أشجعَ الرجال يسْكرون ويزلقون أحمالَهم بين يديْ شخصٍ غريب. فما بالكم بجثّتين، لرجل وامرأة، وبتلك الجراح في البطن؟! لم يدعِ الغرينغو حملَه ينزلق قطّ، وثقلُ الحمولة قوّس ضلوعَ صدره بلا شكّ. لم يطلبْ مساعدةً من أحد، لكنّهم ــــ هنا وهناك ــــ بدأوا بنسج التفاصيل حتّى تحوّلتْ إلى قصّةٍ لا بأس بها، فيها أجزاءٌ تُضحك وأجزاءٌ تُبكي، كما ينبغي للقصّة الجيّدة أن تكون.

لكنّ ما ينبغي أن أخبركم إيّاه الآن لا علاقة له بالغرينغو. لندعْ قصّته لمناسبةٍ أخرى، لأنها تتطلّب وقتًا طويلًا، لا لسببٍ آخر. إنّ جلسةَ خمرٍ سخيفةً كهذه ــــــــــــ مع احترامي للجميع هنا ــــــــــــ لا تصلح للحديث عن الغرينغو، ولا لتفكيكِ أحداث حياته المتشابكة مثل كرة الصوف، أو لفضِّ فصولِ خيوطها. إنّما عليكم الانتظار إلى يوم آخر، بإذن الله. فالوقت لن يختفي، ولا ضوءُ القمر. وإلّا، فلماذا وُجدتْ ساعاتُ الليل والنهار الضجرة؟

الغرينغو يمرّ من هنا فقط، كما يقولون، مرورَ الكرام. لكنّه، في تلك الليلة الممطرة، أتى ليذكّرنا بموسم أعياد الميلاد القادم قريبًا، وبالبلد الذي جاء منه حيث عيدُ الميلاد عطلةٌ حقيقيّة، على عكس الحال هنا؛ ما من شيء يُقارن بأعيادنا كاحتفالات ساوجاو، بدءًا باحتفالات القديس أنطونيو، مرورًا بأيّام القديس بدرو، أو باحتفالات تخليد مياه أوكسالا تلك، عيد بونفيم، الأيّام المقدّسة لواجبات زانغو، هذا ــــــــــ أوّاه يا أخي ـــــــــــ من دون أن نذكر حفل استيعاب برآيا، يا له من عيد! إذن، لا تنقصنا مناسباتُ الأعياد هنا، فلماذا نستعيرها من غريب؟!

تذكّر الغرينغو أعيادَ الميلاد، الوقت الذي بدّل فيه بورسيانكولا ـــــــــ ذاك المولاتو كما في قصّة كلب الشحّاذ الأعمى ــــــــــــ مكانه، وجلس فوق خزّان الكاز وقد غطّى كأسَه براحة يده كي لا يحطّ الذبابُ في شرابه. ألا يشرب الذبابُ الكحول؟ فلتعذرْني جنابُك، إنّ ما أقوله سيبدو سخيفًا لأنّك لا تعرف ذبابَ حانة ألونسو؛ إنّه لعينٌ حقًّا: يُجنّ من أجل قطرة خمر، يرمي بنفسه إلى قعر الكأس، يتذوّق قطرةً صغيرة، ويطنّ حائمًا مبتعدًا، مثل حشرات أيّار. لم يكن بالإمكان إقناعُ ألونسو، ذلك الأسبانيِّ العنيد، بأن يضع حدًّا لهذه المسخرة ـــــــــــــ كان جوابُه، وهو محقّ، أنّ الذباب أتى مع المكان الذي اشتراه، وهو غير مستعدّ للتخلّص منه بداعي أنّه مزعج، لأنّه يرغب، فقط، بلعقة خمرٍ صغيرة. ذلك لم يكن سببًا كافيًا، فكلّ زبائنه يحبّون الشيء نفسه، وهو لن يطرد الزبائن، أليس كذلك؟

لا أدري إنْ كان المولاتو بورسيانكولا قد بدّل مكانه كي يكون قريبًا من مصباح الكاز، أو لأنّه قرّر أن يروي قصّة باتريسا باتيستا ورهانها. في تلك الليلة، انقطع التيّارُ الكهربائيّ كما أوضحتُ، فغرقتْ منطقةُ الساحل كلّها في الظلام، وأشعل الونسو مصباحَ الكاز على مضض. كانت رغبته الحقيقيّة هي طردنا، لكنّه لم يتمكّن، إذ كانت تمطر، كتلك الأمطار الغزيرة التي تبلّلكَ أكثر من المياه المقدّسة، وتخترق جلدكَ مباشرةً الى العظم. كان ألونسو إسبانيًّا مدرّبًا، استوعب الكثيرَ من خبرته كصبيِّ خدمات في فندق. لذلك أشعل المصباح وأخذ يُجري الحسابات بأرومة قلم رصاص. تلهّى الجميع بالثرثرة عن هذا الموضوع وذاك، وباصطياد الذباب، يقتلون الوقتَ كيفما اتّفق.

عندما بدّل بورسيانكولا مكانه، برطم الغرينغو ما عنده عن عطلة الميلاد. قال شيئًا عن الثلج وأشجار مضاءة. لم يكن بورسيانكولا ليدع الفرصة تفوته. وبينما كان يكشّ الذباب ويتناول جرعة خمر، بدأ بصوت خفيض: "كانت ليلة عيد الميلاد عندما ربحتْ باتريسا باتيستا الرهانَ، وبدأت حياةً جديدة."

"أيّ رهان؟"

سألتْ مرسيدس وكأنّها تشجّع بورسيانكولا، وهي حقيقةً لم تكن في حاجة إلى أن تفتح فمها؛ فبورسيانكولا لم يكن يحتاج إلى التشجيع أو الإقناع. ألقى ألونسو بقلم الرصاص جانبًا، وأعاد ملء الكؤوس، مقتنعًا بأنّ الذباب الذي يحوم حوله ليس إلّا حشراتِ أيّار السكرانة تمامًا! بلع بورسيانكولا شرابه، تنحنح، وبدأ قصّته. كان هذا البورسيانكولا أحسنَ متحدّثٍ عرفتُه في حياتي، وهذه شهادة غير عاديّة: كان متكلّمًا ممتازًا، سلسًا جدًّا، تَحسب، لو لم تعرفْ خلفيّته، أنّه استهلك مقاعدَ الدراسة كلّها، مع أنّ فانتورا العجوز لم يرسله إلى المدرسة قطّ، بل إلى الشوارع وأرصفة الواجهة البحريّة. كان بارعًا في سرد القصص، ولئن خرجت القصّةُ رديئةً من فمي فليس ذلك لعَيبٍ في القصّة نفسها أو في المولاتو بورسيانكولا.

اِنتظر بورسيانكولا حتّى ترتاح مرسيدس في جلستها على الأرض، متّكئةً على ساقي الغرينغو كي تحسن الاستماع. ثم أوضح أنّ تيريسا باتيستا ظهرتْ عند رصيف الواجهة البحريّة لأوّل مرّة بعد دفن شقيقتها بأسابيع ــــــــــ وهو الوقت الذي استغرقه وصولُ الخبر إلى حيث يسكنون بعيدًا جدًّا. أتت لتتعرّف مباشرةً إلى تفاصيل ما حدث، ثمّ قرّرت المكوثَ هنا. كان وجهُها يشبه وجه شقيقتها شبهًا سطحيًّا، إذ إنّ روح أختها ماريّا "الطرحة" لم تكن، ولن تكون، كأيّ روحٍ أخرى. لهذا بقيتْ تيريسا، طوال حياتها، محتفظةً بالاسم الذي وُلدتْ فيه: تيريسا باتيستا، دون أن يخطر في بال أحدٍ أن يغيّره. في المقابل، كيف لأيّ كان، وفي أيّ من أيّام الأسبوع، أن يفكّر بأن يسمّي ماريّا "الطرحة": ماريّا باتيستا؟!

مرسيدس المتطفّلة أرادت أن تعرف مَن هي، بحقّ السماء، هذه الماريّا؟ ولماذا "الطرحة"؟

إنّها ماريّا باتيستا، شقيقةُ باتريسا، شرح بورسيانكولا بصبر. أخبر كيف أنّها، فور وصولها، ناداها الجميعُ ماريّا الطرحة، لا أيَّ اسمٍ آخر، بسبب حرصها الدؤوب على عدم تفويت الفرصة لحضور أيّ عرس من الأعراس بعينين محدّقتين دومًا ببذلة العروس. تحدّثوا كثيرًا عند رصيف البحر عن ماريّا الطرحة هذه؛ كانت آيةً في الجمال. وقال بورسيانكولا، بأسلوبه الخاصّ في اختيار التعابير، إنّها كانت تبدو كشبحٍ يسمو ليلًا فوق سطح البحر عندما كانت تتسكّع حول الميناء. كانت جزءًا طبيعيًّا من الواجهة البحريّة، كما لو أنّها وُلدتْ هناك، مع أنّها في الواقع قد وفدتْ من مناطق الداخل، بثياب رثّة. وكانت يومها تذكر آلامَ الضرب الذي تلقّته قبل مجيئها، لأنّ باتيستا العجوز، والدَها، كان متشدّدًا، وعندما علم أنّ ابن الكولونيل باربوسا سلب عذريّتها، التي كانت لا تزال خضراءَ كنبتة البارسيمون، أمسكها من ذقنها وأشبعها ضربًا لتفريطها بها. وطردها من المنزل بعد ذلك؛ فهو لم يرضَ بامرأةٍ ساقطةٍ في منزله. مكانُ المرأة الساقطة هو الأزقّة الخلفيّة، مكانُ المرأة الضائعة هو منطقة الأضواء الحمراء: هذا ما قاله الرجلُ المسنّ، محطّمًا كلّ شيء على رأس فتاته الصغيرة، يملأه الغضبُ، وأكثرَ منه الألمُ، لأنّه يرى ابنته ذات الخمسة عشر عامًا، الجميلة كلوحة، لم تعد عذراءَ ولا فائدةَ منها ترجى سوى أن تصبح مومسًا.

هكذا أصبحت ماريّا باتيستا ماريّا "الطرحة،" وانتهى بها الأمر أن جاءت إلى العاصمة؛ ففي منطقتها، هناك في آخر العالم، لا مستقبلَ لها كبائعة هوى. تسكّعتْ بعد وصولها من زقاق إلى آخر، إلى أن استقرّت على تلة ساو ميغيل طفلةً. حتّى إنّ تيبيريا، سيّدةَ الماخور حيث حطّت ماريّا بقجةَ أمتعتها، سألتْها إنْ كانت تَحسب هذا المكان مدرسةً ابتدائيّة.

حصل بورسيانكولا على الكثير من تفاصيل القصّة، ما سبق ذلك وما تلاه، من فم تيبيريا، وهي مواطنةٌ تتمتّع بالاحترام الكبير، عدا عن كونها أفضلَ صاحبةِ بيتِ دعارةٍ في باهيّا على الإطلاق.

أنا لا أمتدح سلوكها لأنّها صديقتي. هي ليست في حاجةٍ إلى ذلك. مَن لا يعرف تيبيريا؟ ومَن لا يحترم صفاتها؟ إنّهنّ طيّبات في ذلك المكان، نساءٌ على قدر كلمتهنّ، قلوبٌ من ذهب، يقدّمن المساعدةَ إلى نصف العالم. إنّهنّ كالعائلة الكبيرة الواحدة هناك، في بيت تيبيريا، وليست الواحدةُ منهنّ "لنفسها وليأخذ الشيطانُ الآخرين." لا شيء من هذا القبيل هناك. الكلّ على وئام تامّ؛ إنّها عائلة متماسكة. كان بورسيانكولا عزيزًا جدًّا على تيبيريا، يعرف البيتَ حقّ المعرفة، ودائمًا ما يقع في غرام فتاةٍ أو أخرى. وهومستعدّ دومًا لإصلاح أنبوب ينقّط، لتغيير مصباحٍ خرب، لتثبيت مزرابٍ على السطح، وبركلةٍ خاطفةٍ على المؤخّرة يطرد أيّ زبون يتجرّأ على عدم احترام نفسه ويتصرّف كالحيوان. وكانت تيبيريا تخبره بكلّ شيء، خبرًا بخبر، وهكذا كان في وسعه أن يسرد القصّةَ من البداية إلى النهاية من دون أن يتعثّر بأيّ مقطعٍ منها. كان كثير الاهتمام بقصّتها لأنّه، حالما وقعتْ عيناه على ماريّا، جُنّ بحبّها، كواحد من أولئك العشّاق اليائسين.

عندما وصلتْ ماريّا كانت الأصغرَ سنًّا في ذلك البيت. لم تكن قد بلغت السادسة عشرة، وكانت مدلّلةً جدًّا من طرف تيبيريا وباقي النسوة، اللواتي عاملنَها كابنة، وأغدقن عليها أجملَ عرائس اللعب، حتّى إنهنّ أعطينها لعبة لتحلّ مكانَ "آن،" الدميةِ المهترئةِ التي كانت تستعملها في لعبة الخطوبة والزفاف. كانت ماريّا الطرحة تقضي وقتها عند الواجهة البحريّة؛ كانت تعشق النظرَ إلى البحر، كما يفعل القادمون من الأرياف. تسابقُ هبوطَ الظلام إلى هناك، سواء تحت ضوء القمر أو الضباب، تحت رذاذ المطر أو خلال عاصفة. كانت تسير على ضفّة البحر، تبحث عن زبائن، وكانت تيبيريا توبّخها ضاحكةً: لماذا لا تلزم الماخورَ، مرتاحةً آمنةً، مرتديةً قميصَ نوم مزركشًا بالزهور، تنتظر الرجالَ الأثرياء المولعين بشيءٍ فتيّ طازجٍ مثلها؟ يمكنها أيضًا أن تتّخذ راعيًا ثريًّا، رجلًا مسنًّا يقع في غرامها ويوفّر لها حياةً رخيّةً، فلا تُضطرّ إلى الذهاب إلى السرير مع كلّ مَن هبّ ودبّ، بمعدل اثنين أو ثلاثة في الليلة. هناك مثال في الماخور ذاته، كي لا نذهب بعيدًا، لوسيّا التي يأتي القاضي مَئيّا ليراها مرّةً في الأسبوع ويعطيها كلّ شيء! حتّى إنّه وجد وظيفة حمّال لبارسيلينو البسيط، حبيبِ لوسيا.

احتارت تيبيريا في أمر ماريّا، إذ لم تتجاوب مع بورسيانكولا المولاتو، الذي مزّقه عشقُه للفتاة التي نامت مع الجميع إلّاه. كانت تمشي إلى جانبه، يدًا بيد على جبل سرّات، يتمتّعان بمنظر البحر. أو أكثر من ذلك، كانت تتمايل إليه كما تفعل الحبيبةُ حين يذهب عاشقان في رحلة صيد على ضوء القمر، تخبر المولاتو عن حفلات الزفاف التي كانت تذهب إليها: "يا لَجمال العروس! يا لروعة الطرحة الطويلة!" لكنْ، عندما يحين وقتُ الذهاب إلى السرير وللقيام بالشيء الصحيح، كانت تودّعه بـــ "طابت ليلتك،" وتترك بورسيانكولا خائرَ القوى، حائرًا.

هكذا كان بورسيانكولا يروي في تلك الليلة الماطرة عندما كان الغرينغو يستذكر عيدَ الميلاد. وما يأسرني في سماع القصص التي يرويها المولاتو أنّه لا يبدّل شيئًا في الأحداث كي يجمّل صورته. كان يقْدر بسهولة أن يدّعي أنّه نام معها، مرّاتٍ عديدةً لا مرّةً واحدة. والحقّ أنّ الجميع كان يظنّ ذلك، خصوصًا أولئك الذين كثيرًا ما شاهدوهما على رصيف الواجهة البحريّة معًا. كان باستطاعته أن يفاخر من غير مشقّة، لكنّه بدلًا من ذلك كان يخبر القصّة كما حصلتْ تمامًا، وذلك لم يكن مفاجئًا للكثيرين منّا. نامت ماريّا مع هذا وذاك، وكانت تتهيّج معهم في الوقت المناسب بدقّةٍ. ليس الأمر أنّها لم تستمتع، لكنْ، فور انتهاء الفعل، ينتهي كلّ شيء معها، ولا ترغب في الحديث عن الموضوع. إنّ الكلام عن أيّة عاطفةٍ حقيقيّةٍ في حدّ ذاتها، مثل ذلك النوع الذي لا ينتهي من الاشتياق الذي يعانيه العشّاقُ من عدم رؤية الحبيب وما إلى ذلك، لم تشعر ماريّا به تجاه أيٍّ كان. ولا ندري إنْ كانت تشعر به تجاه المولاتو بورسيانكولا. لكنْ لماذا لم ترافقه إلى السرير؟ كانت تجلس بقربه على الرمل، تغطس قدميْها في الماء، تنظر نحو الأفق حيث لا أحد يستطيع الرؤية بوضوح، من تسنّى له رؤية نهاية البحر؟ أيٌّ مِن مستمعيّ الكرام؟ عذرًا، لكنّي لا أظنّ ذلك.

العاشق الولهان الوحيد كان المولاتو بورسيانكولا. لم تمرّ ليلةٌ واحدةٌ لم يترقّبْ فيها ماريّا عند واجهة البحر، يلاحقها، راغبًا في أن تتحطّم سفينتُه عند صخرتها. هكذا أخبر القصّة، من دون أن يخفي شيئًا؛ ولا يزال وجعُ الحبّ يضعف صوتَه حتّى الآن. كان تائهًا أكثر من كلبٍ أضاع صاحبَه، يتشمّم أيّ شيء يوحي برائحة ماريّا الطرحة، بينما كانت تيبيريا باستمرار تهمس أشياء في أذنه. هكذا بدأ في تفكيك الشِّباك، وإعادةِ تركيب قصّة ماريّا، إلى أن وصل إلى حدث الجنازة.

عندما قام ابنُ الكولونيل باربوسا، ذو التربية الممتازة، خلال عطلته المدرسيّة بولوج ماريّا، لم تكن قد أتمّت الخامسة عشرة، لكنّها امتلكت نهدَي امرأةٍ ناضجة وجسدَها. كانت امرأةً في المظهر الخارجيّ، أمّا في داخلها فهي لا تزال صبيّةً تلعب بعرائس اللعب المهترئة طوال النهار، عرائسَ من النوع الذي يمكنك شراؤه بدولار واحد في الأسواق الشعبيّة. كانت تجمع بقايا أقمشة، تخيطها فتجعل منها فستانًا للعبتها، مع طرحةٍ وإكليلِ عروس. وفي أيّ يومٍ تشهد الكنيسةُ فيه زفافًا، تكون ماريّا هناك تتفرّج بعينيْن مشدوهتيْن على بذلة العروس. كانت تفكّر: أثمّة أجملُ من شعور ارتداء بذلةٍ كهذه: بيضاءَ بالكامل، وبطرحةٍ تتدلّى خلفها، وزهورٍ تتوّج رأسَها؟ كانت ماريّا تصنع الملابسَ لدمية العروس، تحدّثها طوال الوقت، وكلَّ يومٍ تتخيّل زفافًا كي تراها بطرحةٍ وإكليل. زوّجتْ لعبتَها بكلّ أنواع الحيوانات في الحيّ، وبخاصّةٍ الديك المسنّ الأعمى، الذي كان العريس الأصلح لأنّه لا يهرب، بل يرقد في عماه طائعًا. فلمّا أخبر ابنُ الكولونيل باربوسا ماريّا "أنّك الآن ناضجةٌ للزواج، أترغبين في الزواج منّي؟" قالت نعم، إنْ هو أعطاها طرحةً جميلةً. المسكينة لم تكن لديها أدنى فكرةٍ عن أنّ الشاب لم يكن صادقًا، وأنّ وعده بالزواج بها لم يكن سوى خدعةٍ لولوجها عند ضفّة النهر. لهذا كانت متحمّسةً، ووافقتْ، وما تزال إلى يومنا هذا تنتظر البذلةَ، والطرحةَ، وإكليلَ العروس المصنوع من الزهور. لكنْ، بدلًا من ذلك، حصلتْ على علقةٍ مبرّحةٍ من العجوز باتيستا، وبعد شيوع الخبر حصلتْ على اسم "ماريّا الطرحة." ولم يشفها من هوسها شيءٌ؛ فبعد طردها من منزلها، واظبتْ على حضور الأعراس في الكنيسة متخفّيةً، إذ تُمنع بائعاتُ الهوى من الاقتراب من مراسم الزفاف الكنسيّة. وعندما تزوّج باربوسا، ذاك الذي قدّم لها ذلك الجميل، بابنة الكولونيل باوفانتورا - وكان زفافًا تحدّث عنه الجميع - كانت ماريّا حاضرةً لترى العروس، المتربّية جيّدًا، جميلةً بفستانٍ لم ترَ مثله قطّ، مصنوعٍ في ريو، له طرحةٌ بطول نصف ميل، ونقابُ وجهٍ مطرّزٌ بالكامل؛ كان شيئًا مذهلًا حقًّا. بعد ذلك الزفاف وجدتْ ماريّا طريقها إلى هذه البقعة، وحطّت رحالها في بيت دعارة تيبيريا.

لم يكن قضاءُ وقتٍ ممتع بالنسبة إليها يعني ارتيادَ دُور السينما، أو الكاباريه، أو الرقص، أو احتساءَ الخمرة في بار، أو الذهابَ في نزهة بحريّة. كان يعني حضورَ حفلات الزفاف والنظرَ إلى بذلات العرائس وحسب. كانت تقصّ الصورَ من المجلات: عرائس بطرحات، إعلانات لمخازن بيع مستلزمات العرائس، ثم تلصقها كلّها على الحائط فوق سريرها. وقد صنعتْ بذلة عروس، ببقايا أقمشة جديدة، لدميتها الجديدة التي أهدتها إيّاها تيبيريا وباقي النسوة. وكالبنت الصغيرة، الصغيرة حقًّا، قالت لتيبيريا: "يومًا ما سوف تشاهدينني ببذلة كهذه." ضحك الجميع، سخرن منها، مازحنها، لكنّ ذلك لم يغيّرها.

عند هذا الحدّ نفد صبرُ بورسيانكولا ــــــــــــ تعب من ترويض طبيعته الحيوانيّة، ومن التجوال بقبضتيْه المتكوّرتيْن، ومن الحديث عند الواجهة البحريّة. لكلّ رجلٍ اعتدادُه بنفسه، وقد انتظر طويلًا وأيقن أنّ الأمر ميؤوس منه، وهو لم يكن من الصنف الذي يموت من أجل الحبّ، أسوإ أنواعِ الموت. لجأ إلى كارولينا، المولاتة الضخمة المكتنزة التي عاشت فقط لتمارس الحبَّ معه. داوى نفسه من ماريّا الطرحة ببضعة كؤوس من الخمرة وببعضٍ من قهقهات كارولينا الصاعدة من الأعماق. ولم يشأ التحدّث عن الموضوع بعد ذلك أبدًا.

مع التفصيل الأخير، طلب بورسيانكولا المزيدَ من الخمرة، فقُدّمتْ إليه. كان ألونسو مستعدًّا لفعل أيّ شيء من أجل قصّة جيّدة، وهذه القصّة تقترب من نهايتها؛ كانت النهاية مرضَ الأنفلوانزا الذي انتشر منذ بضع سنوات وراح ضحيّته نصفُ سكّان العالم. أصابت الحمّى ماريّا الطرحة، ونظرًا لضعفها لم تصمد سوى أربعة أيّام. عندما بلغ خبرُ مرضها بورسيانكولا كانت ماريّا قد توفّيت. وكان حينها متخفّيًا بسبب مشكلته مع غوميز، وهو صاحب بسطةٍ في آغوا دوس مينينوس تأذّى في لعبة ورق. ومن المعروف أنّك حين تقطع ورقَ اللعب مع بورسيانكولا فهذا يعني أنّك ترمي بنقودك في الهواء؛ فهو يلعب لأنّه يستمتع بذلك، ولا يطيق اللعب مع من يشكو الخسارةَ فيما بعد.

كان بورسيانكولا ينتظر هدوءَ العاصفة تلك حين تلقّى رسالةً من تيبيريا ترجو منه الحضورَ حالًا. كانت ماريّا تطلبه بإلحاح. توفّيت ساعة وصوله تمامًا. شرحت تيبيريا وصيّةَ ماريّا الأخيرة وهي على فراش الموت. أرادت أن تُدفن ببذلة عروس، بطرحةٍ وإكليل. طلبتْ أن يكون عريسُها المولاتو بورسيانكولا الذي كان ينتظر الزواج بها.

كان طلبًا مؤلمًا، لكنْ لا بدّ من تلبيته لأنّه جاء من شخص توفّي للتوّ. سأل بورسيانكولا كيف له أن يأتي ببذلة الزفاف، الغاليةِ الثمن، في ليلة أُقفلتْ فيها كلُّ المتاجر. اعتقدَ أنّ ذلك أمرٌ صعب، لكنّه لم يكن كذلك. إذ إنّ نسوة الماخور كلّهن، ونساءً من الشارع، فضلًا عن المومسات العجائز التعبات من الحياة، كلّهنّ، فجأةً، وجدن أنفسهنّ عاملاتِ خياطة، يخِطْن فستانَ زفافٍ مع طرحةٍ وإكليلِ عروسٍ. بسرعة جمعن نقودهنّ كاملةً واشتريْن زهورًا. رتّبن القماش. حصلن على الدانتيل، وحده الله يعلم من أين، وجدن حذاءً، جواربَ حريريّةً، بل قفّازاتٍ بيضاء كذلك. خاطت إحداهنّ قطعة، ووضعتْ ربطةَ التزيين أخرى.

قال بورسيانكولا إنّه لم يرَ بذلة زفافٍ أفضلَ منها، جميلة جدَّا وأنيقة. وهو يدرك عمّا يتحدّث، لأنّه في الفترة التي كان يطلب فيها ودّ ماريّا جال في كلّ الأمكنة بحثًا عن حفلات الزفاف، وقد أعياه النظرُ إلى فساتين العرائس.

بعد أن ألبسن ماريّا، كان ذيلُ بذلتها متدلّيًا على السرير، متكوّمًا على أرض الغرفة. جاءت تيبيريا بباقة الزهور ووضعتها بين يديْ ماريّا. لم تكن هنالك قطُّ عروسُ بمثل هذا الصفاء وهذه الحلاوة، أو بمثل هذه السعادة في يوم زفافها.

جلس بورسيانكولا على جانب السرير؛ فقد كان هو العريس. أخذ يد ماريّا. بكت كلاريس: امرأة متزوّجة، هجرها زوجُها، لتربّي وحدها أطفالًا ثلاثة، وخلعتْ خاتمَ الزواج من إصبعها ــــــــــ ذكرى أوقات أجمل ــــــــــ وأعطته مولاتو. وضعه بورسيانكولا على مهلٍ حول إصبع المرأة المتوفّاة ونظر إلى وجهها. كانت ماريّا الطرحة تبتسم. "قبل تلك اللحظة لا أدري، لكنّها في تلك اللحظة كانت تبتسم": هكذا وصفها بورسيانكولا، ولم يكن قد شرب في ذلك اليوم ولو قطرةً واحدة. اختلس نظرةً إلى تيبيريا، وهو ينتزع عينيه انتزاعًا عن وجهها الجميل ذاك. أقسمَ أنّه رأى، حقًّا رأى، تيبيريا تتحوّل إلى كاهن، ترتدي اللباسَ الكهنيّ الخاصّ بمراسم مباركة الزفاف، مع التنسور وكلّ شيء، كاهن سمين بسحنة فيها بعض القداسة. ملأ ألونسو الكؤووسَ من جديد وشرب.

هنا توقّف المولاتو بورسيانكولا. لا يمكن أن تُنتزع منه كلمةٌ أخرى عن القصّة. لقد أنزل جثّته علينا، وأراح نفسه من الحمل. أصرّت مرسيدس على معرفة إنْ كان النعش أبيضَ ــــــــــ لعذراء، أو أسودَ ـــــــــــ لخاطئة. هزّ بورسيانكولا كتفيْه بلا مبالاة، وهرس ذبابة. أمّا عن تيريسا باتيستا والرهان الذي كسبته، والحياة الجديدة التي بدأتْ، فلم يُذكر شيء. كما أنّ أحدًا لم يسأل. ولا أستطيع أن أزيد كلمةً في ذلك؛ فأنا لست شخصًا يروي قصصًا عن أمورٍ لا يعرفها. ما أستطيع فعله هو أن أروي قصة الغرينغو، لأنّني أعرفها، كما يعرفها الجميع عند الواجهة البحريّة. لكنّي أعلم أنّها قصّة لا تمكن روايتُها مع شراب من هذا النوع، لو تعذرون قولي هذا. إنّها قصة من الحجم الكامل، وتحتاج إلى شرب ليلة ممطرة طويلة، بل إلى رحلة صيد على ضوء القمر. ورغم ذلك، فإنْ رغبتم في أن أخبرها فسوف أفعل. لا أرى سببًا للعكس.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنوان القصّة بالبرتغاليّة: DE como o mulato Porciuncula descarregou seu defunto
* مولاتو: وصفٌ يُطلق على الزنوج ذوي البشرة المائلة إلى البياض، وغالبًا ما ينتج من كون أحد الأبوين زنجيًّا.
** ألغرينغو: وصف شائع بين سكّان أميركا اللاتينيّة، يُطلق على الرجل الأبيض، وبخاصّةٍ مَن كان من شمال أميركا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...