نعيم آل مسافر - نهاية الحرب.. قصية قصيرة

أثناء جلوسي في الكرسي الأمامي للباص الصغير ملثما ً بيشماغ , كان الإسفلت يجري إلى الخلف سريعا ً والسيارة إلى الأمام . أيهما يسير والآخر متوقف الإسفلت أم السيارة , نحن أم الزمن ؟

فوق ظهر الباص كان يرقد محمد الحاج ـ مؤقتا ً ـ في صندوق خشبي طويل , الصندوق ملفوف بذات قطعة القماش رباعية الألوان لكنها خالية من النجوم الثلاثة هذه المرة . لم أعد تلميذا ً في المدرسة لأرفعها , كما كنت أفعل في رفعة العَلم .

كنت أقاتل كل يوم خميس من أجل أن يرشحني المعلم للقيام بتلك المراسيم . أقف أمام السارية أفل الحبل النازل من أعلاها أسحبه من أحد جانبيه , أرى العلم يرتفع إلى الأعلى رويدا ً رويدا ؛ فأتصور أني أرفع والدي الذي رأيته آخر مرة ملفوفا ً به . أراه يرفرف عاليا ً في ساحة المدرسة , أقف أمامه خاشعا ً , أؤدي التحية بكل إجلال وإكبار . بينما أردد مع المعلمين والتلاميذ النشيد الوطني .

تعجبت من نفسي لما فرحت قبل فترة , عندما رأيت الجنود القادمين من الجانب الثاني للكرة الأرضية ينتزعونه من السارية , يرمونه على الأرض كأي خرقة بالية انتهى مفعولها . لكنها الحرب تفعل الأعاجيب !

عندما كنت صغيراً في الثمانينات أسمع الكبار يتحدثون عنها ـ الحرب الضروس ـ تصورت أن لها أضراس تماسيح . ولا تبكي ضحاياها ؛ فعيونها أصلف من أن تبكي أيا ً كان .

أسمعهم يقولون أن فلان عندما أتوا به محمولا ً في صندوق خشبي مغطى بقطعة القماش ذاتها , كان بدون رأس وفلان أتوا به محترقا ً . كنت أتساءل :

ـ من لها أضراس قوية كأضراسها , لماذا ُتقطع هذا وتشوي ذاك دون أن تأكلهم ؟

بعد حرب النسور المعدنية , أيقنت أن الحرب تختلف تماما ً عما كنت أتصور ؛ فقد أصحبت تلتهم العروش , البنايات , الجسور . إنها اكبر من التماسيح والديناصورات حتى ! بحثت في ذاكرتي عن شيء كبير بحجمها فلم أجد ما أقرنه بها .

لم تضع الحرب أوزارها كما قيل . لابد أنها تلبس إزارا ً مثل (أم مطشر) , حتى ماتت . كنت أذهب إلى المدرسة صباحا ً , أعود من ملعب كرة القدم عصرا ً , وهي كذلك . كنت أتصور أنها تنام بإزارها . لكن الحرب لا تموت , لا تنام , لا تشبع , تأكل فقط...

محمد أفلت من الضروس خمس مرات , سقط من فمها كما يسقط فتات الطعام من فم عجوز خالي من الأسنان , بإصابات مختلفة لازالت أثارها على بدنه المسجى في التابوت الآن . أكلت في واحدة منها رجله اليمنى وأكلت معها الابتسامة العريضة المرتسمة دوما ً على محياه الندي.

الحرب الضروس وعاصفة الصحراء كانتا ارحم ؛ فقد عادت إليه ابتسامته بعد أن رزق بطفل نسخة طبق الأصل عنه , أنساه هموم الدنيا وما فيها . أما حرب النسور المعدنية هذه فقد أكلت وجهه وصادرت ابتسامته إلى الأبد.

يبدوا إن الحروب لا تبتسم , تكشر عن أنيابها فقط ؛ فهي لا تحب المبتسمين , تأكلهم بكل ما أوتيت من وحشية . لكن الضروس أكلت ( عذيب ) أيضا ً الذي لم يعرف وجهه العبوس معنى للابتسام ! الحرب بهيمة ترعى ما تقع عليه عيناها.

وزعت الحروب جسده وما تبقى منه مسجى الآن بصندوق خشبي فوق ظهر الباص , يرتدي آخر ملبس يمكن أن يلبسه , خرقة بيضاء كالتي لبسها يوم توجه لبيت الله . لكنه اليوم متوجه نحو الله لا نحو بيته . لن يعود ليهنئه الأصدقاء كما حصل في العام الماضي ويمنحونه لقبا ً جديدا ً ( محمد الحاج).

في كل مرحلة من حياته له لقب جديد , من فارس الصف , إلى المهندس , المعوق , ألحاج , الـ......ـجنازة . ذهبت أسمائه وألقابه وأملاكه , أكلتها الحروب وأطلقت عليه آخر الألقاب.

بعد فتره وجيزة من فرحي برمي العلم الذي بدا انه أصبح اكسباير , خاطرت بحياتي في تظاهره ضد تغييره عندما أرادوا رفع النجوم الثلاث من على متنه . وتحويله من نقيب إلى جندي في الجيش المنحل , فلا يتبقى من مميزاته سوى كلمتين كانت قد أتت بهما رياح عاصفة الصحراء .

ألا توجد نجوم تبتلعها الحرب غير نجوم العَلم ؟ قاموا ببناء جميع النفوس والبنايات المهدمة , أصلحوا الخراب , ولم يبق إلا قطعة القماش تلك كي يطالها التغيير!

أمطت لثام اليشماغ عن وجهي أثناء جلوسي في مقعد الباص الأمامي , راودني شعور إني أصبحت لا أحترم نفسي كثيرا ً . كيف أربط ذكرى والدي بخرقه تتبدل ألوانها كالحرباء ؟ في كل عهد لها شكل ولون جديد , كلما جاء حاكم جديد غير ألوانها.

أسرع السائق نحو المراحيض عند توقف السيارة والإسفلت معا ً . الآخرون توجهوا كل حسب قوة الضغط الداخلية التي تضغط عليه , كي يدفع الم جوع أو عطش . مشهد تكرر علي سابقا ً كفلم معاد ؛ فالسيارات المتوجهة إلى مدينة الجثث تقف في هذا المكان عادة ً للاستراحة . لكن محمد الحاج لم ينزل هذه المرة من السيارة , مازال نائما ً ؟! ينام كثيرا أثناء السفر , وجوابه التقليدي حاضر دائما:

ـ النوم الكثير من صفات الأسود...

تصورت أن رجله الوحيدة أصيبت بالخدر , ذهبت لأشتري له علبة سجائر , أعرف النوع الذي يدخنه , ليس سجائره فقط بل كل ما يحب ويكره .

عدة دكاكين متجاورة في الاستراحة على الشارع العام لا توجد فيها ضالتي , دكاكين أخرى تبعد بضعة أمتار قرب محطة الوقود ذهبت إليها دون جدوى . رأف بحالي أحد عمال محطة توزيع الوقود وأعطاني علبة سجائر من نفس النوعية التي أبحث عنها.

ـ تأخرنا , يجب أن ندفن ونعود قبل حلول الظلام . قال السائق.

ـ ( ... )

كنت أشاهد علبة السجائر في المرآة الجانبية تسير إلى الخلف مع الإسفلت , بعد أن رميتها من الشباك الجانبي للباص ؛ فلم يعد محمد قادرا على التدخين بعد الآن.

خطوط بيضاء متقطعة في المنتصف , بدأت تظهر وهي تسير إلى الخلف أيضا عند مدخل مدينة الجثث . جميع الأموات والأحياء جثث ُدفن بعضها والبعض الآخر ينتظر , ولن تبدل تبديلا ً مادامت الحرب مستمرة .

توقفت السيارة في طابور السيارات المتوقفة اثر ارتفاع صوت نعيق الحرب في مكان قريب . ترجل الجميع من السيارة وهرعوا دون شعور إلى مكان الانفجار . أردت للوهلة الأولى أن أحمل محمد معي , لكني لم أستطيع حمل التابوت لوحدي . عدلت عن الفكرة , هرولت مع الآخرين نحو مكان نعيق الحرب . فكانت الأرض مملوءة بقطع غيار بشرية .

تيقنت حينها أن الحرب درداء , ليس لها أضراس . لأنها تلتهم عند الأكل التهاما ً ولا تحتاج أن تلوك ما تأكله .

*********

ليلة كتبت هذه القصة , نمت في وقت متأخر من الليل . رأيت في المنام شقيقي الذي يسكن الطرف الثاني من الكرة الأرضية ـ بعيدا ً عن الحروب ـ وقد مات...

كنت جالسا ً في نفس الباص الصغير متلثما ً بذات اليشماغ , أبكي بغير دموع , أتوسل تلك القطرات المالحة أن تنزل لعلها تطفئ النار المشتعلة بقلبي . أصيح بأعلى صوتي نادبا ً فلا أسمع شيئاً . أحاول الصياح بصوت أعلى دون جدوى .

تيقنت عند استيقاظي أن لا أحد يسمع صياح ضحايا الحروب مهما علا . اتصلت به وتأكدت من سلامته , وقررت إنهاء الحرب على الورق وذلك أضعف السلام.


نعيم آل مسافر


* النص الفائز بالمركز الثالث
جائزة النور للابداع دورة الدكتور عبد الرضا علي

2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...