بشار خليف - الذئبة

يَدٌ باردة، وحيدة كالبحر كانت يدها، مُذْ راودها الحلم، شَكَّلَ الآخر لديها إلهاً، ولكن ليس كل الآخرين آلهة.
تحلم أنه أخيراً سيأتي كي تغور في الرخاوة وأصابع العشق تحرثها، تهرشها، تشيلها إلى عوالم لم تألفها... لكنها تحدس بها، وخلف ستار الحلم، ربما، كان على مريم أن تَتَّقي مع كل فطور صباحي سيل الوصايا وطرق الحرص على الذات، على الجسد، على نقاء الروح البيضاء، حتى صار لكل صباح طقسً له لوازمه وصحونه وتوابله... وكلماته التي كالرذاذ تهمي على وجه مريم:
«الخوف... الذئاب... النقاء... الشهوة... الرجال... الضعف... الوطر... الخفر... العذرية.... التماسك»، تصورات مشحونة كَوَشْمٍ تقذفها الجدة منيفة دون تعب في وجه مريم، لازمةٌ يومية لهمٍّ يوميّ، أوهام وما بعد أوهام عند كل شمس فالآن أوان الخديعة والأحاسيس ساحة حرب.
وفي الجانب الآخر من الروح... تَخْضَرُّ عينا مريم... يعلو الإيقاع الداخلي، تتسع الروح كعشب تموزي... تلتحف جذور الموات، جذور منيفة التي غَرَزَتْها في شَعر مريم.
كل شيء آبَ إلى منفاه.. «الأنثى إلى الذكر... الأرض إلى المطر... الاذن إلى خبر.. والعين إلى البَصَر».
حلَّ الصباح أخيراً، هكذا أحستْ العصافير، هكذا صاح الديك، كل الحوانيت المغلقة لم تَعُدْ كذلك، الشمس تتراكم على الأسِرَّة، بائع الجرائد يَنْدهُ لصياح من ورق، بائع الحليب يُعِدُّ صباحاً من أطفال، تتغرغرُ الأفواه بالكلمات، تحُلُّ طقوسُ منيفة وهواجسها، جبال من هذيان تتهاوى على رأس مريم... ولِمْ لا... فمريم سوف تذهب إلى الجامعة كي تصير طبيبة كأبيها الذي مات وزوجته في حادث قبل أن يحُلَّ الحلم لأول مرة.
ـ احذري الرجال يا مريم... اقطعي كلَّ يد تمتد إليك... هذه طرق الشهوة والخطيّة... تَذَكري يا صغيرتي أنك ليلى... وأن الذئاب تحوم حولك... كي تأكل لحمك... وُتفصفص عظامك... لن يبقى منك شيء... ستفورين كماء... إياك يا مريم، لعنة جَدِّك الكبير ستلاحقك.
لَمْ تستطع مريم أن تكتشف سِرَّ الحلم الذي يَشيلها كلما بدأتْ جَدتها في إعداد مباخرها ومحاصرتها بالأحجبة، حجاب عند كل باب، حجاب تحت مخدتها...، وفي جيوبها، حول عنقها، وربما عينيها... ثم «لماذا هذه الرجفة التي تبدو على كيان منيفة كلما هتكتْ عرضي بالمخاوف»؟ هكذا تساءلتْ مريم.
مضت الجدة إلى النافذة، لأول مرة منذ عشرين سنة، تُبعِدُ الستارة عنها كي تُشيّعَ الصبية، ومريم لَمْ تشأ إغضابها؛ فهي "جدتي التي لم تضربني يوماً، رغم كل هذه المخاوف التي تحاصرني بها، صحيح أنها زعلتْ مني في كانون الماضي؛ وذهبتْ إلى غرفتها، أغلقت الباب عليها ولم تخرج ليوم كامل ولكن في اليوم الثاني وقبل الصباح هَدْدَتُها أنها إن لم تخرج فسوف أخرج من البيت ولن أعود أبداً..».
ـ ماذا تقولين ؟ تغادرين البيت ؟! إلى الذئاب التي تحوم حولنا... إلى الألسنة الناطرة..؟ «العمى... أصلاً في بنت بتسأَلْ ستْها إن كان زوجها ذئباً»! يا الله... صَدَقَ منْ قال: قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر... معقول يا مريم أن يكون جَدَّك ذئباً أو كلباً؟".
ـ ولكن يا جدتي أنت التي قلت أن كل الرجال ذئاب.
ـ إلاّ جَدِّكِ يا بنت... إلا جدك.
ارتختِ الجدة... ارتعشتْ.
ـ هات يدك... قَرِّبي هذا الكرسي قبل ما تَهدُّني مفاصلي.
جلستْ... راحتْ.. زهوُ عينٍ بَدا، ارتعاشٌ آتٍ من هناك في لحظة انتصاف الفرح بين زمنين، لأول مرة تشاهد مريم جَدَّتَها في الربيع، زَهْوُ الأخضر تَوَّقدَ في عينيها؛ وتَوَّردَ في وجهها حتى آخر الطراوة التي اكتسحتْ غضونهُ، والجدةُ بصوت خافت ما فتئتْ تُتَمتِمُ... «إلا جدك».
لِمْ تشأ مريم أن تخرج منيفة عن زهوها، لكنّها خشيتْ أن تنتابها الكوابيس ثانية... بحثتْ عن سؤال جديد... كي تُلهيها..
ـ جدتي...؟
ـ يا عيوني.
ـ صليتِ ؟.
ـ كل وقتي صلاة ورضا.
ـ جدتي..؟.
ـ ياروح منيفة ؟ !.
ـ الرجال ذئاب ؟ !.
ـ طبعاً.
أردفتْ مريم بتردد:
ـ ولكن ألم تُخلَق المرأة من ضلع آدم ؟ !
حملقتِ الجدة... أحكمتْ غطاء الرأس على بياض شعرها... أجابت:
ـ نعم، خُلقنا من ضلعه، ولكن توقفي يامريم، هذا سؤال يفرط الروح، لا يا ابنتي، عودي عنه، هذه شرشرة توصلك إلى الخطيئة والكفر.
منذ ذلك الوقت... وقتُ حرَنْ منيفة، عافتْ مريم الأسئلة ليعود شيء آنَ كل صباح، كغراب ربما، يحومُ حول الأثاث القديم الداكن، الكرسي الهزاز بأنينه وأزيره... قطع القماش القديمة التي تُخاط كل يوم، لكن مريم الآن في الجانب البهيّ، في جانب البحث عن جواب، عن فرح.
وسط الشارع صخب، الشمس صاخبة، حتى الموت صاخب في مشهد الجنازة العابرة، لا أسئلة، لا غربان، لا قماش، لا تعاويذ، لا استخارات وضرب في المندل.
تحسستْ بيدها الثانية يدها الأولى، الأولى باردة كصفر، أحست كم أنها وحيدة كيدْ باردة كثلج، يَدا في الثلج كانت مريم.
أوشكتْ أن تتأكد أنها ليست أنثى، هذا الشعر الفاحم، الوجه الأبيض، العينان الخضروان، وجسد لاهب، رغم آلاف العيون التي تترصدها وتَغُبُّها من أصابع قدميها النحيلة وحتى مصبها.. «بعيدون هم كحكايا الجدات... وأنا لم أَعُدْ أُميزُ العيون يا منيفة،... عين الذئب وأنا ليلى... عيني وكل الذئاب...!».
تضيعُ مريم في تفسيراتها، تَطُولُ المسافة بين قدميها، تتأخر عن الجامعة، ثمة خمس دقائق تأخذ طريقها إلى موقف الباص، ضحكتْ حين شَبَّهتُهُ بسلة القمامة التي تَلمُّ الأشياء، صعدتْ إلى الباص، الباص أيضاً سلة قمامة، ضحكت ثانية بخفرٍ، فالناس «الذئاب» تراقب، هكذا، هتفتْ الجدة، والأمكنة ممتلئة، بالذئاب وضلوعها، بصغارها.
لوهلة أوشكتْ أن تسأل السائق عن ذئبات يَصْعدْنَ إلى الباص، «سوف يتهمني بالجنون» هكذا تمتمتْ، تراجعتْ نحو مقعدين... أوقعاها في حيرة الجلوس... «فأما أن أجلس إلى جانب هذا الشاب الجميل... كذئب... كما تقول منيفة وإما أن أجلس إلى جوار هذه العجوز التي لا تعتني بنفسها كما جدتي. ومن يعلم، ربما لا تحرص مثلها على حفيداتها... ربما عاش أبناؤها وبناتها فلم تتكلف تربية أولادهم».
شبه دوارٍ لفَّ رأس مريم... خارتْ قواها في اختيار أزليّ بين الرغبة والموت... في اختيار اللون الصحيح والشمس الصحيحة، عاد الإله يستفيق من قاع الرحم... أعشبتْ مريم... أوشكت أن تجلس إلى جوار الشاب الذي ابتسم لها... لكن العجوز تلقفت يدها:
ـ اجلسي إلى جانبي يا حلوة... ما اسمك ؟.
سقطتْ مريم كمنديل متسخ... أَكَلَتُهُ فيما بعد مكنسة الخيبة... قالت:
ـ مريـم.
ـ اسمك حلو يا أمورة... وجسمك مثل العاج، حرام أن يكون إلى جوار هؤلاء المتهورين، يا مريم... الزمن تَغيَّر، وعلائم الساعة قريبة، هذه أخر الدنيا، حتى الأخ ما عاد يتعرّف على أخيه. استفاقتْ مريم من وصايا الكون... من تكتكات حَبَّاتِ المسْبَحَةِ حول رأسها... من طغيان شرق يسوط العقل بالخيال والرهبة.. تطلعت إلى العجوز... تَمَلَّتْها:
ـ يا مدام... من علائم الساعة ألا يتعرف الأخ على أخيه؟.
ـ نعم... هذه نهاية الدنيا.
ـ وبدايتها ؟ سألتْ مريم.
ـ بدايتها ؟ شو يعني ؟.
ـ أما قَتَلَ الأخُ أخاه ؟ !
اتسعتْ عينا العجوز... حاصتا... أشاحتْ برأسها إلى النافذة حيث لاحَ حلم مريم، هاهو يحمل باقة زعتر وكأساً من نبيذ يقترب... يُعطِّرُ قدميها بالزعتر... يُقَبِلُها إصبعاً إصبعاً... يصعد... يعلو... ينبض.. يعلو الحلم... تمتد الأجنحة إلى آخر مساراتها.
إلى أخرها تصل مريم... وعن آخرهِ يخرج الإله من قاع الرحم كأخضر... يَحلُّ دفئاً في كل فراغ.. في الشفة على الشفة... في صوت على صوت.. جسد على جسد.. يدٌ في يدٍ، كآبْ،... ومريم تموج مع اهتزازت الباص كأغنية... وَدّتْ أن تلفت انتباه الشباب إليها «أنا هنا... مثل سؤال.. مثل قلب... اخرج منك إليّ... كما خرجتُ مني اليك، التفتْ ولو لتكةِ وقت، أمعقول ألا أَلْفُتَ نظرك بهذا وهذا، ذاك وذاك؟ ! لا... أنت لا تفهم نفسك يا. ! ولكن ما اسمك ؟ ! دعني أختار لك اسماً، يليق بك، بلا اسم، لا حيلة للجسد، ولا للروح معنى؛ سأسميك... اسمع، الأفضل أن تختار اسمك أنت... فأنا لستُ أمك... ألا يكفي هذه الملايين التي لم تَخْتَرْ أسماءها ؟ !.
يَفْتّر ثغر مريم على ابتسامة توشك أن تصير ضحكة مجلجلة... لولا ما حدث في الأسفل... فإلى الأسفل... عند العانة تماما ..أحستْ مريم بشيء بارد ينسرب... كأفعى.. كَيدٍ باردة... ووحيدة.
لحظة، ويسقط قلبها عند القدم تماماً... لحظة، وينفرط نبضهُ بين أقدام الركاب، تطلعتْ مريم إلى العجوز التي كانت تبتسم في وجهها وتُعِدُّ بتجاعيد الجفن الأيسر... غمزة، لم تفهم معناها فقد كانت منشغلة بأسباب اللعاب الذي يسيلُ من طرف فم العجوز وهي تقول:
ـ ما رأيكِ أن تأتي معي إلى البيت لنتسلى...؟!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...