محمد كريم الساعدي - خطابات الهيمنة

لقد تأثر (سعيد) في كتاباته ما بعد الكولونيالية بمفكرين غربيين ، هما (ميشيل فوكو) و(انطونيو غرامشي) ، إذ كان لـ (فوكو) تأثيراً أكبر على (سعيد) وبخاصة في مفاهيم (الخطاب والسلطة والمعرفة والتمثيل والجسد) ، بينما انحصر تأثير (غرامشي) في مفهوم (الهيمنة) فقط.

إن نقطة بداية التلاقي بين افكار(فوكو) و (سعيد) تعود الى نظرتهما الى مفهوم الخطاب السلطوي الغربي ،إذ يراه (فوكو) : سلسلة من الإجراءات الداخلية (في داخل الفكر والمجتمع الغربي) وطريقة الممارسة التي شكلت خطابات السلطة وما تخفيها من ممارسات ضد الآخر في داخل مجتمعات المؤسسة الغربية ذاتها ، اما (سعيد) فيركز على الخطاب السلطوي الغربية ممارساتها الإيديولوجية ضد الآخر، ويوظف آليات الخطاب عند (فوكو) في دراسة الظاهرة (الإستشراقية) بوصفها نوعاً من أنواع الخطاب الذي بنته المؤسسة الثقافية والسياسية المهيمنة في الغرب لإيجاد بعد ثقافي وأخلاقي لحركات التوسع العسكري الاستعماري ، واحتلال أجزاء واسعة في قارة أفريقيا وقارة أسيا. ويتفق (سعيد) مع (فوكو) إن للسياق التاريخي والاجتماعي والحضاري أثراً كبيراً على النص وعلى قدرته في توليد المعنى في كشف للخطاب الكولونيالي الغربي.

إن مفهوم الخطاب عند (فوكو) يرتبط بطريقة فعالة بالذات المؤسسة وتكون هذه العلاقة هي ما يمكن أن تحدد آليات بنائه وتطبيقاته والتحكم في طرق تنفيذه ، وكلما كانت الذات المؤسسة تمتلك معرفة جديدة عن الآخر ،كلما كانت صياغة آليات الخطاب أفضل وأكثر فعالية ، وذلك لأنها الجهة القادرة على أن تنشط وتحفز بصورة مباشرة الأشكال الفارغة للغة ، وأن تزودها بمقاصدها ، فالذات المؤسسة ، وهي تخترق سمك أو جمود الأشياء الفارغة ، هي التي تلتقط عبر الحدس ، المعنى الموضوع فيها ، وهي أيضاً التي تؤسس – خارج الزمن – آفاقاً من الدلالات لا يكون على التاريخ فيما بعد سوى أن يقوم بتوضيحها ، آفاقاً من الدلالات تعثر فيها القضايا والعلوم والمجموعات الاستدلالية ، في النهاية ، على أساسها. أن الذات المؤسسة في علاقتها بالمعنى ، تتوفر على رموز وإشارات وآثار وحروف ، لكنها ليست في حاجة لان تمر عبر الهيئة الخاصة بالخطاب لكي تظهرها . ومن ثمَّ فان الذات المؤسسة عبر خطاباتها سوف تكّون المقولات الخاصة بها ونظامها الذي يميز ممارستها ضد جماعة ما.

إن الخطاب عند (فوكو) يأخذ بعده المعرفي إذا تحدد بأربعة مبادئ أساسية ، تكون هي الإطار الذي يتحدد من خلاله الخطاب وهي كالآتي :-

1. مبدأ القلب :- التعرف على منبع الخطاب.

2. مبدأ عدم اتصال :- أن تكون هناك انساق للتقليل من الخطابات ، أي ليس فوق الخطاب خطابات أو وراءه خطاب كبير متصل وصامت يسوده.

3. مبدأ الخصوصية :- يعني ألا نذيب الخطاب في لعبة دلالات مسبقة.

4. مبدأ الخارجية :- أي لا ننطلق من الخطاب نحو نواته الداخلية والمخفية ، بل نذهب انطلاقاً من الخطاب نفسه ، وانطلاقاً من ظهوره وانتظامه.

ومن هذه المبادئ الاربعة عند (فوكو) يتمظهر الخطاب بشكل أساسي في مفهوم السلطة لديه ، فهي التي تمارسه على الآخر ، وهي التي تعطيه مبررات وجوده ، لذلك لم يكن مفهوم السلطة لديه مفهوماً عابراً بل هو مفهوم يأخذ فعله وأثره في تنفيذ وتفعيل الخطاب في الوسط المعني ، وارتباطه بفعلها الزماني والمكاني بالأفراد والجماعات بل وحتى في مفردات الحياة اليومية ، فالسلطة عند (فوكو) صيغة للفعل لا تمارس تأثيرها مباشرة وفورية على الآخرين ، أنها بدلاً من ذلك تمارس تأثيرها على أفعالهم ، على أفعال موجودة ، أو على تلك التي تبرز في الحاضر أو المستقبل.

لقد وظف (سعيد) مفهوم آخر استقاه من (فوكو) ،وهو مفهوم (التمثيل) ،الذي يحدد فيها آلية ظهور الأحداث في الخطابات ، أي أن أي نوع من الأحداث التي تظهر في خطاب ما ، سواء كانت واقعية أو متخيلة مثلاً ، كما هي صورة الأوصاف التي أطلقت على الآخر الشرقي في الخطاب الغربي ، وحتى في نتاجاته الأدبية ستكون جزءاً من آليات التعامل مع المواقع وتوجيهه على وفق الخطاب المعني ، إذ إن نظام التمثيل تتجلى فيه الأحداث في الخطابات بكل أشكالها ، فمعلوم بأنه لا توجد أحداث مجردة ، إنما الأحداث الواقعية (التاريخية) منها أو المتخيلة (الأدبية) تظهر في سياق خطاب ، تعمل استراتيجياته على التحكم في نوع الحدث ، وتظهره طبقاً لسلسلة متكاملة من التغيرات الثقافية الخاضعة لذلك السياق الخطابي وتوجهاته على صعيد آليات فرض صيغة في أوقات معينة ضمن دائرة عملية توظيف خاضعة لتوجيهات السلطة.

ويتبنى (سعيد) مفهوم آخر من (فوكو) هو مفهوم (الجسد) ، إذ يرى فيه أن السلطة توظف هذا المفهوم من خلال الاستحواذ عليه وجعل خطابها ينفذ فيه ، فالجسد يعد وسيطاً بين عالمي السلطة وخطابها ، وكذلك يكون حاملاً لخطاباتها ، فالجسد عند (فوكو) مجال لـإنتاج النظام والانتظام ، ووطن ممارسة السلطة سلطاتها عبر تكنولوجيا لغوية (الخطاب). يمكننا القول أن السلطة تكتب نصها بالخطاب على صحيفة الجسد فهي تحظر من حيث تغيب إن آليات الخطاب وآليات الجسد تسير وفق منطق علاقات قوى ، فيتحول الجسد إلى وسيط ويتحول الخطاب إلى مراقب تمكنه السلطة المحايثة له والمبثوثة من ترويض كل شيء والسيطرة على كل شيء، نظام التعليم ، نظام الكتابة ، نظام القضاء ، نظام الطب... الخ.

يظهر مفهوم الخطاب الكولونيالي الذي تمارسه السلطة الإمبريالية ضد الشعوب ، والذي يظهر على الممارسات الجسدية للشعوب المقهورة بفعل الاستعمار الثقافي وما يفرض عليها من أنظمة التعليم والكتابة والقضاء وغيرها ، ويأتي الرد على هذه الممارسات السلطوية عن طريق الرفض والمقاومة لتلك الممارسات ،إذ تدخل معها في ثلاثة اشكال من الصراع : صراع ضد الهيمنة الثقافية التي تدعو الى الغاء الثقافة الاصلية للشعوب ، وصراع ضد الاستغلال بحجة التثقيف وتغيير الاحوال الثقافية والاقتصادية وغيرها ، مما يجعل طرق الاستغلال قادرة على تسيير ارادة الآخر في منحى التغيير الثقافي الكولونيالي لصالح المستعمر، و صراع ضد الخضوع والخنوع الذي يجبر الشعوب الى الاستسلام الثقافي لهذا الخطاب.

أما مفهوم (الهيمنة) الواردة في مؤلفات (سعيد) ولاسيما في (الإستشراق) فقد أخذه عن (غرامشي) الذي ميز بين تصورين عن المجتمع الغربي في دراساته الاجتماعية. إذ يرى (غرامشي) أن المجتمع ينقسم الى قسمين : مجتمع مدني تدخل في تكوينه المؤسسات المعنية بالعمل المجتمعي ، أي خارج نطاق عمل الدولة مثل النقابات والعائلات والمدارس وممارساته عقلانية غير قسرية. والثاني المجتمع السياسي وهو تشكيل مؤسساتي تشرف عليه الدولة مثل أجهزة المجتمع ويلعب دوراً مهماً في السيطرة المباشرة على المجتمع الأول من خلال ما يراه (غرامشي) بأسلوب (التسلط) ، والتأثير في الأفكار لصياغة صورة الدولة على أفرادها في الداخل ونقل هذه الصورة إلى الخارج أيضاً ، والمفهوم (التسلط) ومن ضمنه التسلط الثقافي هو ما يمنح الإستشراق متانته وقوته في جعل شكل الفكر الغربي هو المهيمن في داخل المجتمع الغربي وخارجه.

إن مفهوم الهيمنة عند (غرامشي) يأخذ أبعاد اجتماعية وسياسية وأخلاقية تمارس ضد الأخر من خلال التفوق الذي تحققه الطبقة المتحكمة في قيادة المجتمع والذي يبدأ في مسارين مختلفين : (السيطرة Domino) أو (القسر) والقيادة الفكرية والأخلاقية (Intellectual Moral Direction) ويشكل هذا الأخير من السيطرة والهيمنة والتحكم الاجتماعي ، وبمعنى آخر ، ينقسم هذا النوع إلى شكين أساسيين : فبجانب تأثيره على السلوك والاختيار خارجياً بواسطة الثواب والعقاب ، فهو مؤثر داخلياً أيضاً ، وذلك بواسطة صياغة للقناعات الشخصية وفي نسخة مطابقة للعبادات السائدة ، وينطلق مثل هذا التحكم الداخلي من الهيمنة.

يرى (سعيد) في مفهوم الهيمنة عند (غرامشي) من خلال التاريخ الاجتماعي والواقع الذي يعيشه أبناء الجنوب في ايطاليا في ضوء التمايز الذي يقعون فيه نتيجة للسياسات والقوى الاقتصادية الشمالية فيها ، وتأثير هذه السياسات على الطبقات الاجتماعية في الجنوب ، وذلك من خلال تشكيلات ثقافية متمايزة ،حيث قدم (غرامشي) انموذجاً جغرافياً فيه التمايز الثقافي الذي يعالجه عن طريق ربط الشمال والجنوب من خلال تنظيم ثقافي يدعو فيه إلى عدم تمييز الجنوب بوصفه إقليماً متخلفاً من ايطاليا ، وهنا يحاول سعيد أن يوظف مفهوم الهيمنة الثقافية والجغرافية في فهم الخطاب الكولونيالي الذي طبق على جغرافيا المستعمرات.

لقد طور (سعيد) عمله في نقد الخطاب الكولونيالي وتفكيكه من خلال إيجاد منظومة من المفاهيم التي وظفها في دراساته للإسشراق الغربي ، حيث وضع مجموعة من المحاور التي تناول فيها هذه المفاهيم في دراسة ظاهرة الإستشراق وصورة الشرق فيها ، فقد حدد (سعيد) أصول الإستشراق في أربعة محاور ، هي :

1) الامتداد الامبريالي الغربي وسلطة الخطاب الكولونيالي في الشرق.

2) التفاعل والاقتحام التاريخي.

3) الأنا أو الذات المفكرة والمستعمرة.

4) الآخر الكسول أو الشرير أو البربري.

إن الامتداد الامبريالي الغربي اتخذ من الخطاب الثقافي الكولونيالي مبدأ أساسياً في الظهور الثقافي والسياسي والاجتماعي في الشرق ، حيث عمل (سعيد) من خلال مناقشته للإستشراق والثقافة الامبريالية على مناقشة الامتداد الكولونيالي الغربي في الشرق من خلال ما قدمه المستشرقين من صورة منحازة للعقل الغربي وحضارته ، كذلك حرص سعيد في (الإستشراق) على النظر إلى المعرفة كلحظة من لحظات السلطة ، فالمعرفة ليست ، في نظره ، محض وعي بارد بالعالم ، بل هي تكييف للعالم ، وإخضاعه ، وإعادة بنائه ، وإذا كانت هناك آليتان في عمل المعرفة الأولى نظرية ويعبر عنها ميل المعرفة إلى أن تكون نسقاً من التصورات أو التمثلات للعالم والأشياء ، وتعبيراً رمزياً عنها ، والثانية عملية ، ويعبر عنها ميلها إلى التعبير عن آلية الإرادة فيها ، من حيث الإخضاع والتكييف ذروة الإفصاح عن تلك الإرادة التي استطاع من خلالها الاستعمار بخطابه الكولونيالي وامتداده الامبريالي أن يوظف المعرفة لخدمة أهدافه في الشرق.

اما ثنائية (الأنا والآخر) وصفات كل منهما لم تأتِ مع الامتداد الامبريالي ، بل هي صفات قديمة جاءت نتيجة للصراع الثقافي بين قطبي العالم القديم وما بعده ، من المكونات العالمية التي أخذت بالظهور بحسب قوة كل قطب على الآخر ، لكن هذه الثنائية تكونت بشكل مميز في بنية (الاستشراق) من خلال ما علق في تسمية الآخر العديد من الصفات التي يراد بها أن تكون صورة مركزة في الوعي الإستشراقي خاصة ، كطابع إيديولوجي، وفي الوعي الغربي عامة ، حتى تتحول كمفهوم أساسي في اللاوعي عند ابناء المجتمعات الغربية فيما بعد. لذلك يتأسس مفهوم الآخر بالنسبة للذهنية الغربية على مفهوم (الجوهر) ، أي إن ثمة سمة أساسية جوهرية تحدد (الذات) مما يجعل الآخر مختلفاً عنها ، وبالتالي لا ينتمي إلى نظامها.

إن سوء (التمثيل) بحسب رأى (سعيد) اوجد مفهوماً ثانياً يقوم عليه التمثيل ، هو (الجغرافيا التخيلية أو المتخيلة) ، اي الأرضية المفترضة التي وقع عليها بناء صورة الآخر الشرقي في الذهنية الغربية وفي خطابه الكولونيالي وحتى في الثقافة الداخلية للشعوب الغربية ، حيث درسه سعيد هذا المفهوم من خلال وجهات نظر ثلاث (فلسفية ونفسية وبلاغية) مستعرضاً لعدد من الأحداث التي تؤيد وجود المفهوم في الذهنية الغربية بامتداداتها التاريخية والأدبية والفكرية ، ففي المجال التاريخي يقرنها بصورة الصراع التاريخي الممتد بين الشرق والغرب في ساحات المواجهة بين الطرفين ، أما في المجال الفكري فالنتاج الإستشراقي وما قدم فيه من إشارات كثير على هذه المساحات المتخيلة المبنية على صور لا حقيقية عن الشرق. ويرى في وجهات النظر الثلاثة ، بأن الاستشراق في صورته الفلسفية نمط اللغة أو الفكر أو الرؤيا التي ما زالت أسميها في هذا البحث بصورة عامة جداً الاستشراق ، هو شكل من أشكال الواقعية الجذرية (الراديكالية). وأي أمرئ يستخدم الاستشراق وهو عادة معالجة أسئلة ، أو أشياء ، أو خصائص ، أو أقاليم اعتبرت شرقية ، يخصص ، ويسمى ، ويثبت ، ويشر إلى ما يتحدث عنه ، أو ما يفكر به ، بلفظه أو بعبارة يرى فيما بعد إنها (اكتسبت طبيعة الواقع أو ببساطة أشد ، أصبحت عين الواقع. الذي يفهم من خلاله الشرق ، وفي الإستشراق هناك العديد من الأشياء التي حفلت بها هذه الدراسات والتي لم تقتصر على الجانب الوصفي الذي كان يقدمه المستشرقين عن ما يشاهدونه ، بل أيضاً كانت هنالك صور تؤلف عن الشرق في داخل المجتمع الغربي ذاته كما ذكر الباحث عن (الرسائل الفارسية) التي ألفها (مونتسكيو) ، وكذلك في شخصية (عطيل) (لشكسبير) الذي يتناولها الباحث في المبحث الثاني والتي أصبحت صورة تمثل الفرد (المغربي) العربي وما حمل من أوصاف في دراسات عن هذه الشخصية. أما في وجهة النظر البلاغية ، هو بشكل مطلق تشريحي وتعدادي ، واستخدام مفرداته ، هو الاشتغال بتخصيص الأشياء الشرقية بدقة ، وتقسيمها إلى أجزاء تسهل السيطرة عليها ، أما نفسياً ، فان الإستشراق شكل من أشكال العصاب التوهمي (بارانويا) ومعرفة من نمط آخر مختلف – على سبيل المثال – عن المعرفة التاريخية العادية ، وهذه في اعتقادي ، بضع من النتائج التي تؤدي إليها الجغرافيا التخيلية والحدود الاحتدامية التي تقوم برسمها.

لقد أضاف (سعيد) إلى مفهوم (الجغرافيا التخيلية) كلمة (الشرقنة) التي أصبحت مفهوماً يتلازم مع ما أفرزه العقل الغربي للجغرافيا التخيلية ، إذ أصبح مفهوم (شرقنة الشرق) فعل تكوين الشرق في الجغرافيا التخيلية بمعنى أن الشرق قد خلق. وهي كلمة يريد أن يشير بها سعيد إلى أن العلاقة بين الشرق والغرب هي علاقة من القوة ، ومن السيطرة ومن درجات متفاوتة من الهيمنة المعقدة المتشابكة يشير بها إلى عملية تحويل منتظمة ومنضبطة للشرق، وبالتالي فان صناعة الشرق في المخيال الغربي يعني تثبيت مصطلح الشرق بأوصافه السلبية في العقل الغربي ومخيلته ليكون بذلك مفهوم (شرقنة الشرق) بناء صيغ ثابتة لها مرجعياتها التاريخية والثقافية عن الكيان الجغرافي الواقع في شرق الغرب ، وأوجد من خلاله تقسيمات عمل من خلاله على تجزئة الشرق ووضعه في ثلاثة حقول وهي (الشرق الأدنى ، الشرق الأوسط ، الشرق الأقصى) للوصول إلى جغرافيا جديده هدفه منها إعادة بناء الشرق بعيداً عن واقعه ، ووفق مسلمات ذهنية غريبة عن ذلك الواقع ، يراد لها أن تمثل موقع الحقيقة الواقعية ، مستبعدة الواقع التاريخي والنفسي للأمم الشرقية ، ومستبدلة إياه بصورة خيالية ، ابتكرتها مخيلة الإنسان الغربي ورسمتها ريشة قلمه ، معيداً بذلك ترتيب الوقائع والأحداث بالطريقة التي ترضي غروره وإحساسه بالفوقية ، بتعبير آخر ، إنها أسطرة للشرق من قبل الذهن الغربي.

إن (سعيد) حينما يصف الذات المؤسسة (بالأنا) ، ويعطيها دورها ومفاهيمها التي تعمل على تمييز نفسها عن (الآخر) يأتي بمفهوم جديد يصور فيه (الأخر) ، وحسب وقوعه تحت دائرة التوصيف الثقافي الكولونيالي ، حيث يرى بأن أبناء الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار ورضخت في أول الأمر لهذه الأوصاف كانت توصف بـ(الاصلاني الصامت) الذي لا صوت له. والذي يجب أن يمثل أمام العالم من أجل صياغة حياته من جديد ، على وفق ما يريده الحاكم الاستعماري بخطابه الكولونيالي ، فمن أجل تغيير هذا الاصلاني يجب أن يمثل بثقافة جديدة مبنية على فكر يكون فيه الاصلاني هو التابع ،لأن أوصافه السابقة ستكون كالأثقال التي يقيد بها، ومن أجل أن يبقى بعد التغيير مديناً للمغير الذي أسهم فعلاً في تثبيت أوصاف غرائبية وغير واقعية ، ومن ثم عمل على تشكيل شخصية وهمية للأصلاني مبنية على كونها إنساناً كسولاً ، تقتضي شخصيته المتحللة وفسوقه الطبيعي سيداً آمراً أوربياً. ونرى ذلك في ملاحظات الحكام الاستعماريين مثل (غاليني ، وهوبير ليوتيه ، واللورد كرومر ، وهيو كليفورد ، وجون باورينغ): يداه كبيرتان ، وأصابع أقدامه رخوة مرنة ، وقد تمرست يستلق الأشجار لقد حولته هذه الأوصاف الاصلانيين وعملهم إلى سلع وغطت ببريق مموه الشروط التاريخية الفعلية ، مهربة ومبخرة منها حقائق الكدح والمقاومة.

أما في المقابل الصمت عمل (سعيد) في البحث عن التفاعل والاقتحام التاريخي الذي حول الاصلاني الصامت إلى مقاوم عن ثقافته ومفرداتها التي حاول الغربي محوها أو استبدالها بأخرى من صناعة غربية. حيث حاول (سعيد) قراءة (مرويات) الخطاب الكولونيالي الكبرى من خلال (قراءة طباقية) وما نتج عن مبدأ التفاعل بين الخطاب الكولونيالي والثقافات الأخرى وأثر هذا التفاعل القسري على جسد الثقافات المحلية ومدى الكفاءة بين طرفي المعادلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...