كنتُ –كعادتي- مستغرقاً في القراءة.. هوايتي.. التي أدمنت عليها إدماناً لا ينجع معه دواء..
كانت عالمي الذي أطير فيه، ناسجاً من حولي ما أشاء من حالات الحلم واليقظة، والرضى والسخط، والفرح والحزن، وغير ذلك من المشاعر الدفينة التي لا تُحصى..
وكانت الحديقة التي اعتدت أن أجلس على كرسي منزوٍ في آخرها كلما أحببت أن أغيّر جو البيت، غاصّة بالناس؛ فقد كانت الليلةُ ليلة النصف. البدر متألق مزهو في كبد السماء، والطقس رائع تنساب نسماته عذبة رخية في هذه الليلة المشرقة البهية.
فجأة رأيتها تندفع نحوي: طفلة صغيرة لا يزيد عمرها على ثلاث سنوات، جميلة كفلقة البدر، رقيقة مثل أنفاس الصباح.
-بابا.. بابا...
كانت تصيح بصوت عذب تعجز موسيقا العالم كلّها أن تصدح أرّق منه أو أجمل..
اندفعت إلى أحضاني، ثم تسلقتني واضعة قدميها فوق ركبتيّ:
-بابا.. بابا..
فاجأني ذلك الحدث، وأطار سكينتي. طوّقت الطفلة عنقي بذراعيها الرقيقين، ومضت تطبع قبلات حارة على وجهي وشعري وصدري ويديّ..
لم أدرِ ماذا أفعل؟ سقط الكتاب من حجري على الأرض، ولكني لم أشعر بسقوطه. كنتُ مباغتاً مأخوذاً بالموقف.
-بابا.. بابا..
يطير صوت الطفلة في أرجاء المكان مزقزقاً كأغرودة العصافير، تتجه الأنظار نحوي من كل جهة، أغدو محطّ تطلع الجميع.
والطفلة مطوّقة عنقي، متشبثة بي، كأنها تحتمي في صدري من شبح مرعب يطاردها .
-بابا.. بابا.. أين أنت كلّ هذه الأيام؟.. قم..
راحت تشدّني من ذراعي. كنت متصلباً فوق مقعدي، فاغراً فيّ من الدهشة، والطفلة التي أفلتت عنقي، ونزلت إلى الأرض من بين أحضاني، تمسك الآن ذراعي، وتشدّني لتوقفني..
-بابا.. بابا.. قم.. ماما تنتظرنا..
شعرت أن عليّ ألا أبقى جامداً كأبي الهول.. ينبغي أن أفعل شيئاً.. ولكن ماهو؟
وقفتُ مع الصغيرة، ورحتُ أتطلع حوالي، كانت أنظار كثيرة تتجه نحونا. شدَّتْني، فانقدتُ إليها، مشيتُ معها بضع خطوات، ثم رفعتها بين يديّ، ونسيت كتابي الأثير مطروحاً على الأرض..
رحتُ أتلفت في كلّ اتجاه. لم أكن ألمح أحداً. والطفلة تصيح صياحاً عالياً بصوتها الموسيقي العذب.
-بابا.. بابا.. عاد بابا.. اشتقتُ لبابا.
خطوتُ خطواتٍ توجهني الصغيرة التي أحملها عندما لاحت على البعد طفلة في حوالي الثامنة من عمرها قادمةً باتجاهنا. كانت أختها على ما يبدو من ذلك الشبه الكبير الواضح بينهما. اقتربتْ منا وأنا حامل الصغيرة بين ذراعيّ، وراحتْ تصيح بأختها.
-ريم.. تعالي.. عيب.. اتركي الرجل.
شددتُ الصغيرة في أحضاني وهمست في أذنها:
-ريم؟ اسمك ريم؟ ما أجمله من اسم!..
قرصتْ الصغيرة خدي وهي تقول بلثغة رائعة:
-ليم بابا.. نسيت؟..
صاحت الكبرى بأختها مرة ثانية.
-ريم.. اتركي الرجل وتعالي.. عيب.. ستزعل منك ماما..
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بي. ألصقت خدّها بخدي، ونهرت أختها قائلة:
-لن أترك بابا.. أنا مشتاقة إليه كثيراً.. لقد عاد من السفر أخيراً..
كان موقفاً حرجاً. الصغيرة ريم ملتصقة بي كعصفور مذعور، وأختها الكبرى تنهرها، تدعوها أن تتركني، وتأتي معها إلى عند "ماما" التي تنتظرهما.
ولما أعيت الحيل مع ريم التفتُّ إلى أختها، وقلتُ لها:
-أين أمك يا صغيرتي؟.. أنا سأوصل ريم إليها..
تحركت الطفلة الكبرى وأنا وراءها حاملاً ريم التي هدأت بين يديّ كما يهدأ الفرخ الصغير.
***
كانت الأم تجلس غير بعيد عنا، تشهد ما يحدث، وتتسمع ما يقال وقد علاها الارتباك والحرج، حتى بدا وكأنّ عرق الخجل يتصبب منها..
-ماما .. هذه ريم.
صاحت أختها، فنهضت امرأة شابة محتشمة بجلباب طويل وحجاب وقور، أقبلت نحونا، ومدت يديها تجاول أخذ ريم مني وهي تعتذر إليّ بصوت يقطع نبراته الحياء.
-آسفة يا أخي.. لا تؤاخذنا أرجوك.. تعالي يا ريم.. اتركي "عمو" لقد أزعجته بما فيه الكفاية.
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بعنقي، ثم انفجرت في بكاء حار، وراحت تتمتم بنبراتها الطفولية العذبة من خلال صوتها المتهدج بالبكاء.
-هذا "بابا" وليس "عمو" بابا أرجوك.. لا تتركني مرة أخرى.. مرة أحبك.. لا أستطيع أن أعيش من دونك..
هدأت ريم قليلاً، فقلت لأمها وأن أتحاشى النظر إليها بسبب وقارها، وشدّة حشمتها، وإحكام حجابها:
-اتركيها معي قليلاً يا سيدتي.. أنا سأهدئها وأعيدها إليك.. ثم سألت على استحياء:
-ولكنْ ما الموضوع؟ مابها ريم؟..
قالت السيدة وهي تغالب نبرات صوتها المتهدج:
-هذه ابنتي الصغرى.. كانت شديدة التعلق بأبيها.. كان يشبهك كثيراً يا سبحان الله يا أخي.. يخلق من الشبه أربعون..
قلتُ، وقد غلبني الانفعال، واستكانت ريم فوق صدري حتى كأنها قد نامت:
-وأين أبوها الآن يا سيدتي؟
قالت السيدة وهي تغالب دموعها وتهدُّج صوتها:
-توفي من حوالي سنة في حادث سيارة.. أخفينا الأمر عن ريم، قلت لها إنه مسافر وسيعود.. حسبتُ إنها ستنساه.. ولكنها في كل يوم تسأل عنه: أين بابا؟.. متى سيعود؟ كانت شديدة التعلق به إلى حد الهوس..
ثم صمتتْ وصمتُّ. اعتراني تأثر لم أشعر به في حياتي. أما ريم فقد بدا أنها غفت فوق ذراعيّ فعلاً:
أكملت السيدة مغالبة دموعها وهي تمدّ ذراعيها لتأخذ ريم:
-ولما رأتك حسبتك هو.. سبحان الله.. كم تشبهه! حفظك الله يا أخي.. وأبعد عنك السوء.
أخذت المرأة ريم من بين ذراعي. لا أدري لم اعتراني فجأة إحساس غريب وهو أن شيئاً عزيزاً قد انتزع من بين جنبيّ، ثم تضخم هذا الإحساس حتى وجدتني فجأة وكأني على وشك أن أبكي لابتعاد هذه الصغيرة.
أهذا معقول؟.. كدت أسترجعها من بين ذراعيْ أمها، اعتراني شعور تدفق في أعماقي كشلال هادر: صعبٌ ألا ترى هذه الصغيرة مرة أخرى، لن تستطيع أن تنساها، أو تصبر على فقدها أبداً أبداً.
حفرتها تلك اللحظات التي حملتها فيها في أعماقي حفراً لا أستطيع أن أتخيل الآن أنه سوف يُمْحى.
هتفتُ من غير وعي.
-سيدتي.. أرجوك.. أنا محتاج إلى هذه الصغيرة مثلما هي محتاجة إليَّ..
نظرت إليّ المرأة باستغراب وارتياب، رأيتها لأول مرة، طالعتُ وجهها. كانت غاية في الحسن والبهاء والجاذبية والحشمة.
نظرتُ إلى أخت ريم.
-ما اسمك يا صغيرتي؟
همست الصغيرة ببراءة:
-لبنى..
التفت إلى أمها وأنا أتهدّج من الانفعال والنشوة.
-سيدتي.. هل أستطيع أن آخذ من لبنى رقم هاتفكم لأقوم بزيارتكم أنا ووالدتي زيارة عائلية؟..
.........................................
كنتُ –كعادتي- مستغرقاً في القراءة.. هوايتي.. التي أدمنت عليها إدماناً لا ينجع معه دواء..
كانت عالمي الذي أطير فيه، ناسجاً من حولي ما أشاء من حالات الحلم واليقظة، والرضى والسخط، والفرح والحزن، وغير ذلك من المشاعر الدفينة التي لا تُحصى..
وكانت الحديقة التي اعتدت أن أجلس على كرسي منزوٍ في آخرها كلما أحببت أن أغيّر جو البيت، غاصّة بالناس؛ فقد كانت الليلةُ ليلة النصف. البدر متألق مزهو في كبد السماء، والطقس رائع تنساب نسماته عذبة رخية في هذه الليلة المشرقة البهية.
فجأة رأيتها تندفع نحوي: طفلة صغيرة لا يزيد عمرها على ثلاث سنوات، جميلة كفلقة البدر، رقيقة مثل أنفاس الصباح.
-بابا.. بابا...
كانت تصيح بصوت عذب تعجز موسيقا العالم كلّها أن تصدح أرّق منه أو أجمل..
اندفعت إلى أحضاني، ثم تسلقتني واضعة قدميها فوق ركبتيّ:
-بابا.. بابا..
فاجأني ذلك الحدث، وأطار سكينتي. طوّقت الطفلة عنقي بذراعيها الرقيقين، ومضت تطبع قبلات حارة على وجهي وشعري وصدري ويديّ..
لم أدرِ ماذا أفعل؟ سقط الكتاب من حجري على الأرض، ولكني لم أشعر بسقوطه. كنتُ مباغتاً مأخوذاً بالموقف.
-بابا.. بابا..
يطير صوت الطفلة في أرجاء المكان مزقزقاً كأغرودة العصافير، تتجه الأنظار نحوي من كل جهة، أغدو محطّ تطلع الجميع.
والطفلة مطوّقة عنقي، متشبثة بي، كأنها تحتمي في صدري من شبح مرعب يطاردها .
-بابا.. بابا.. أين أنت كلّ هذه الأيام؟.. قم..
راحت تشدّني من ذراعي. كنت متصلباً فوق مقعدي، فاغراً فيّ من الدهشة، والطفلة التي أفلتت عنقي، ونزلت إلى الأرض من بين أحضاني، تمسك الآن ذراعي، وتشدّني لتوقفني..
-بابا.. بابا.. قم.. ماما تنتظرنا..
شعرت أن عليّ ألا أبقى جامداً كأبي الهول.. ينبغي أن أفعل شيئاً.. ولكن ماهو؟
وقفتُ مع الصغيرة، ورحتُ أتطلع حوالي، كانت أنظار كثيرة تتجه نحونا. شدَّتْني، فانقدتُ إليها، مشيتُ معها بضع خطوات، ثم رفعتها بين يديّ، ونسيت كتابي الأثير مطروحاً على الأرض..
رحتُ أتلفت في كلّ اتجاه. لم أكن ألمح أحداً. والطفلة تصيح صياحاً عالياً بصوتها الموسيقي العذب.
-بابا.. بابا.. عاد بابا.. اشتقتُ لبابا.
خطوتُ خطواتٍ توجهني الصغيرة التي أحملها عندما لاحت على البعد طفلة في حوالي الثامنة من عمرها قادمةً باتجاهنا. كانت أختها على ما يبدو من ذلك الشبه الكبير الواضح بينهما. اقتربتْ منا وأنا حامل الصغيرة بين ذراعيّ، وراحتْ تصيح بأختها.
-ريم.. تعالي.. عيب.. اتركي الرجل.
شددتُ الصغيرة في أحضاني وهمست في أذنها:
-ريم؟ اسمك ريم؟ ما أجمله من اسم!..
قرصتْ الصغيرة خدي وهي تقول بلثغة رائعة:
-ليم بابا.. نسيت؟..
صاحت الكبرى بأختها مرة ثانية.
-ريم.. اتركي الرجل وتعالي.. عيب.. ستزعل منك ماما..
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بي. ألصقت خدّها بخدي، ونهرت أختها قائلة:
-لن أترك بابا.. أنا مشتاقة إليه كثيراً.. لقد عاد من السفر أخيراً..
كان موقفاً حرجاً. الصغيرة ريم ملتصقة بي كعصفور مذعور، وأختها الكبرى تنهرها، تدعوها أن تتركني، وتأتي معها إلى عند "ماما" التي تنتظرهما.
ولما أعيت الحيل مع ريم التفتُّ إلى أختها، وقلتُ لها:
-أين أمك يا صغيرتي؟.. أنا سأوصل ريم إليها..
تحركت الطفلة الكبرى وأنا وراءها حاملاً ريم التي هدأت بين يديّ كما يهدأ الفرخ الصغير.
***
كانت الأم تجلس غير بعيد عنا، تشهد ما يحدث، وتتسمع ما يقال وقد علاها الارتباك والحرج، حتى بدا وكأنّ عرق الخجل يتصبب منها..
-ماما .. هذه ريم.
صاحت أختها، فنهضت امرأة شابة محتشمة بجلباب طويل وحجاب وقور، أقبلت نحونا، ومدت يديها تجاول أخذ ريم مني وهي تعتذر إليّ بصوت يقطع نبراته الحياء.
-آسفة يا أخي.. لا تؤاخذنا أرجوك.. تعالي يا ريم.. اتركي "عمو" لقد أزعجته بما فيه الكفاية.
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بعنقي، ثم انفجرت في بكاء حار، وراحت تتمتم بنبراتها الطفولية العذبة من خلال صوتها المتهدج بالبكاء.
-هذا "بابا" وليس "عمو" بابا أرجوك.. لا تتركني مرة أخرى.. مرة أحبك.. لا أستطيع أن أعيش من دونك..
هدأت ريم قليلاً، فقلت لأمها وأن أتحاشى النظر إليها بسبب وقارها، وشدّة حشمتها، وإحكام حجابها:
-اتركيها معي قليلاً يا سيدتي.. أنا سأهدئها وأعيدها إليك.. ثم سألت على استحياء:
-ولكنْ ما الموضوع؟ مابها ريم؟..
قالت السيدة وهي تغالب نبرات صوتها المتهدج:
-هذه ابنتي الصغرى.. كانت شديدة التعلق بأبيها.. كان يشبهك كثيراً يا سبحان الله يا أخي.. يخلق من الشبه أربعون..
قلتُ، وقد غلبني الانفعال، واستكانت ريم فوق صدري حتى كأنها قد نامت:
-وأين أبوها الآن يا سيدتي؟
قالت السيدة وهي تغالب دموعها وتهدُّج صوتها:
-توفي من حوالي سنة في حادث سيارة.. أخفينا الأمر عن ريم، قلت لها إنه مسافر وسيعود.. حسبتُ إنها ستنساه.. ولكنها في كل يوم تسأل عنه: أين بابا؟.. متى سيعود؟ كانت شديدة التعلق به إلى حد الهوس..
ثم صمتتْ وصمتُّ. اعتراني تأثر لم أشعر به في حياتي. أما ريم فقد بدا أنها غفت فوق ذراعيّ فعلاً:
أكملت السيدة مغالبة دموعها وهي تمدّ ذراعيها لتأخذ ريم:
-ولما رأتك حسبتك هو.. سبحان الله.. كم تشبهه! حفظك الله يا أخي.. وأبعد عنك السوء.
أخذت المرأة ريم من بين ذراعي. لا أدري لم اعتراني فجأة إحساس غريب وهو أن شيئاً عزيزاً قد انتزع من بين جنبيّ، ثم تضخم هذا الإحساس حتى وجدتني فجأة وكأني على وشك أن أبكي لابتعاد هذه الصغيرة.
أهذا معقول؟.. كدت أسترجعها من بين ذراعيْ أمها، اعتراني شعور تدفق في أعماقي كشلال هادر: صعبٌ ألا ترى هذه الصغيرة مرة أخرى، لن تستطيع أن تنساها، أو تصبر على فقدها أبداً أبداً.
حفرتها تلك اللحظات التي حملتها فيها في أعماقي حفراً لا أستطيع أن أتخيل الآن أنه سوف يُمْحى.
هتفتُ من غير وعي.
-سيدتي.. أرجوك.. أنا محتاج إلى هذه الصغيرة مثلما هي محتاجة إليَّ..
نظرت إليّ المرأة باستغراب وارتياب، رأيتها لأول مرة، طالعتُ وجهها. كانت غاية في الحسن والبهاء والجاذبية والحشمة.
نظرتُ إلى أخت ريم.
-ما اسمك يا صغيرتي؟
همست الصغيرة ببراءة:
-لبنى..
التفت إلى أمها وأنا أتهدّج من الانفعال والنشوة.
-سيدتي.. هل أستطيع أن آخذ من لبنى رقم هاتفكم لأقوم بزيارتكم أنا ووالدتي زيارة عائلية؟..
كانت عالمي الذي أطير فيه، ناسجاً من حولي ما أشاء من حالات الحلم واليقظة، والرضى والسخط، والفرح والحزن، وغير ذلك من المشاعر الدفينة التي لا تُحصى..
وكانت الحديقة التي اعتدت أن أجلس على كرسي منزوٍ في آخرها كلما أحببت أن أغيّر جو البيت، غاصّة بالناس؛ فقد كانت الليلةُ ليلة النصف. البدر متألق مزهو في كبد السماء، والطقس رائع تنساب نسماته عذبة رخية في هذه الليلة المشرقة البهية.
فجأة رأيتها تندفع نحوي: طفلة صغيرة لا يزيد عمرها على ثلاث سنوات، جميلة كفلقة البدر، رقيقة مثل أنفاس الصباح.
-بابا.. بابا...
كانت تصيح بصوت عذب تعجز موسيقا العالم كلّها أن تصدح أرّق منه أو أجمل..
اندفعت إلى أحضاني، ثم تسلقتني واضعة قدميها فوق ركبتيّ:
-بابا.. بابا..
فاجأني ذلك الحدث، وأطار سكينتي. طوّقت الطفلة عنقي بذراعيها الرقيقين، ومضت تطبع قبلات حارة على وجهي وشعري وصدري ويديّ..
لم أدرِ ماذا أفعل؟ سقط الكتاب من حجري على الأرض، ولكني لم أشعر بسقوطه. كنتُ مباغتاً مأخوذاً بالموقف.
-بابا.. بابا..
يطير صوت الطفلة في أرجاء المكان مزقزقاً كأغرودة العصافير، تتجه الأنظار نحوي من كل جهة، أغدو محطّ تطلع الجميع.
والطفلة مطوّقة عنقي، متشبثة بي، كأنها تحتمي في صدري من شبح مرعب يطاردها .
-بابا.. بابا.. أين أنت كلّ هذه الأيام؟.. قم..
راحت تشدّني من ذراعي. كنت متصلباً فوق مقعدي، فاغراً فيّ من الدهشة، والطفلة التي أفلتت عنقي، ونزلت إلى الأرض من بين أحضاني، تمسك الآن ذراعي، وتشدّني لتوقفني..
-بابا.. بابا.. قم.. ماما تنتظرنا..
شعرت أن عليّ ألا أبقى جامداً كأبي الهول.. ينبغي أن أفعل شيئاً.. ولكن ماهو؟
وقفتُ مع الصغيرة، ورحتُ أتطلع حوالي، كانت أنظار كثيرة تتجه نحونا. شدَّتْني، فانقدتُ إليها، مشيتُ معها بضع خطوات، ثم رفعتها بين يديّ، ونسيت كتابي الأثير مطروحاً على الأرض..
رحتُ أتلفت في كلّ اتجاه. لم أكن ألمح أحداً. والطفلة تصيح صياحاً عالياً بصوتها الموسيقي العذب.
-بابا.. بابا.. عاد بابا.. اشتقتُ لبابا.
خطوتُ خطواتٍ توجهني الصغيرة التي أحملها عندما لاحت على البعد طفلة في حوالي الثامنة من عمرها قادمةً باتجاهنا. كانت أختها على ما يبدو من ذلك الشبه الكبير الواضح بينهما. اقتربتْ منا وأنا حامل الصغيرة بين ذراعيّ، وراحتْ تصيح بأختها.
-ريم.. تعالي.. عيب.. اتركي الرجل.
شددتُ الصغيرة في أحضاني وهمست في أذنها:
-ريم؟ اسمك ريم؟ ما أجمله من اسم!..
قرصتْ الصغيرة خدي وهي تقول بلثغة رائعة:
-ليم بابا.. نسيت؟..
صاحت الكبرى بأختها مرة ثانية.
-ريم.. اتركي الرجل وتعالي.. عيب.. ستزعل منك ماما..
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بي. ألصقت خدّها بخدي، ونهرت أختها قائلة:
-لن أترك بابا.. أنا مشتاقة إليه كثيراً.. لقد عاد من السفر أخيراً..
كان موقفاً حرجاً. الصغيرة ريم ملتصقة بي كعصفور مذعور، وأختها الكبرى تنهرها، تدعوها أن تتركني، وتأتي معها إلى عند "ماما" التي تنتظرهما.
ولما أعيت الحيل مع ريم التفتُّ إلى أختها، وقلتُ لها:
-أين أمك يا صغيرتي؟.. أنا سأوصل ريم إليها..
تحركت الطفلة الكبرى وأنا وراءها حاملاً ريم التي هدأت بين يديّ كما يهدأ الفرخ الصغير.
***
كانت الأم تجلس غير بعيد عنا، تشهد ما يحدث، وتتسمع ما يقال وقد علاها الارتباك والحرج، حتى بدا وكأنّ عرق الخجل يتصبب منها..
-ماما .. هذه ريم.
صاحت أختها، فنهضت امرأة شابة محتشمة بجلباب طويل وحجاب وقور، أقبلت نحونا، ومدت يديها تجاول أخذ ريم مني وهي تعتذر إليّ بصوت يقطع نبراته الحياء.
-آسفة يا أخي.. لا تؤاخذنا أرجوك.. تعالي يا ريم.. اتركي "عمو" لقد أزعجته بما فيه الكفاية.
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بعنقي، ثم انفجرت في بكاء حار، وراحت تتمتم بنبراتها الطفولية العذبة من خلال صوتها المتهدج بالبكاء.
-هذا "بابا" وليس "عمو" بابا أرجوك.. لا تتركني مرة أخرى.. مرة أحبك.. لا أستطيع أن أعيش من دونك..
هدأت ريم قليلاً، فقلت لأمها وأن أتحاشى النظر إليها بسبب وقارها، وشدّة حشمتها، وإحكام حجابها:
-اتركيها معي قليلاً يا سيدتي.. أنا سأهدئها وأعيدها إليك.. ثم سألت على استحياء:
-ولكنْ ما الموضوع؟ مابها ريم؟..
قالت السيدة وهي تغالب نبرات صوتها المتهدج:
-هذه ابنتي الصغرى.. كانت شديدة التعلق بأبيها.. كان يشبهك كثيراً يا سبحان الله يا أخي.. يخلق من الشبه أربعون..
قلتُ، وقد غلبني الانفعال، واستكانت ريم فوق صدري حتى كأنها قد نامت:
-وأين أبوها الآن يا سيدتي؟
قالت السيدة وهي تغالب دموعها وتهدُّج صوتها:
-توفي من حوالي سنة في حادث سيارة.. أخفينا الأمر عن ريم، قلت لها إنه مسافر وسيعود.. حسبتُ إنها ستنساه.. ولكنها في كل يوم تسأل عنه: أين بابا؟.. متى سيعود؟ كانت شديدة التعلق به إلى حد الهوس..
ثم صمتتْ وصمتُّ. اعتراني تأثر لم أشعر به في حياتي. أما ريم فقد بدا أنها غفت فوق ذراعيّ فعلاً:
أكملت السيدة مغالبة دموعها وهي تمدّ ذراعيها لتأخذ ريم:
-ولما رأتك حسبتك هو.. سبحان الله.. كم تشبهه! حفظك الله يا أخي.. وأبعد عنك السوء.
أخذت المرأة ريم من بين ذراعي. لا أدري لم اعتراني فجأة إحساس غريب وهو أن شيئاً عزيزاً قد انتزع من بين جنبيّ، ثم تضخم هذا الإحساس حتى وجدتني فجأة وكأني على وشك أن أبكي لابتعاد هذه الصغيرة.
أهذا معقول؟.. كدت أسترجعها من بين ذراعيْ أمها، اعتراني شعور تدفق في أعماقي كشلال هادر: صعبٌ ألا ترى هذه الصغيرة مرة أخرى، لن تستطيع أن تنساها، أو تصبر على فقدها أبداً أبداً.
حفرتها تلك اللحظات التي حملتها فيها في أعماقي حفراً لا أستطيع أن أتخيل الآن أنه سوف يُمْحى.
هتفتُ من غير وعي.
-سيدتي.. أرجوك.. أنا محتاج إلى هذه الصغيرة مثلما هي محتاجة إليَّ..
نظرت إليّ المرأة باستغراب وارتياب، رأيتها لأول مرة، طالعتُ وجهها. كانت غاية في الحسن والبهاء والجاذبية والحشمة.
نظرتُ إلى أخت ريم.
-ما اسمك يا صغيرتي؟
همست الصغيرة ببراءة:
-لبنى..
التفت إلى أمها وأنا أتهدّج من الانفعال والنشوة.
-سيدتي.. هل أستطيع أن آخذ من لبنى رقم هاتفكم لأقوم بزيارتكم أنا ووالدتي زيارة عائلية؟..
.........................................
كنتُ –كعادتي- مستغرقاً في القراءة.. هوايتي.. التي أدمنت عليها إدماناً لا ينجع معه دواء..
كانت عالمي الذي أطير فيه، ناسجاً من حولي ما أشاء من حالات الحلم واليقظة، والرضى والسخط، والفرح والحزن، وغير ذلك من المشاعر الدفينة التي لا تُحصى..
وكانت الحديقة التي اعتدت أن أجلس على كرسي منزوٍ في آخرها كلما أحببت أن أغيّر جو البيت، غاصّة بالناس؛ فقد كانت الليلةُ ليلة النصف. البدر متألق مزهو في كبد السماء، والطقس رائع تنساب نسماته عذبة رخية في هذه الليلة المشرقة البهية.
فجأة رأيتها تندفع نحوي: طفلة صغيرة لا يزيد عمرها على ثلاث سنوات، جميلة كفلقة البدر، رقيقة مثل أنفاس الصباح.
-بابا.. بابا...
كانت تصيح بصوت عذب تعجز موسيقا العالم كلّها أن تصدح أرّق منه أو أجمل..
اندفعت إلى أحضاني، ثم تسلقتني واضعة قدميها فوق ركبتيّ:
-بابا.. بابا..
فاجأني ذلك الحدث، وأطار سكينتي. طوّقت الطفلة عنقي بذراعيها الرقيقين، ومضت تطبع قبلات حارة على وجهي وشعري وصدري ويديّ..
لم أدرِ ماذا أفعل؟ سقط الكتاب من حجري على الأرض، ولكني لم أشعر بسقوطه. كنتُ مباغتاً مأخوذاً بالموقف.
-بابا.. بابا..
يطير صوت الطفلة في أرجاء المكان مزقزقاً كأغرودة العصافير، تتجه الأنظار نحوي من كل جهة، أغدو محطّ تطلع الجميع.
والطفلة مطوّقة عنقي، متشبثة بي، كأنها تحتمي في صدري من شبح مرعب يطاردها .
-بابا.. بابا.. أين أنت كلّ هذه الأيام؟.. قم..
راحت تشدّني من ذراعي. كنت متصلباً فوق مقعدي، فاغراً فيّ من الدهشة، والطفلة التي أفلتت عنقي، ونزلت إلى الأرض من بين أحضاني، تمسك الآن ذراعي، وتشدّني لتوقفني..
-بابا.. بابا.. قم.. ماما تنتظرنا..
شعرت أن عليّ ألا أبقى جامداً كأبي الهول.. ينبغي أن أفعل شيئاً.. ولكن ماهو؟
وقفتُ مع الصغيرة، ورحتُ أتطلع حوالي، كانت أنظار كثيرة تتجه نحونا. شدَّتْني، فانقدتُ إليها، مشيتُ معها بضع خطوات، ثم رفعتها بين يديّ، ونسيت كتابي الأثير مطروحاً على الأرض..
رحتُ أتلفت في كلّ اتجاه. لم أكن ألمح أحداً. والطفلة تصيح صياحاً عالياً بصوتها الموسيقي العذب.
-بابا.. بابا.. عاد بابا.. اشتقتُ لبابا.
خطوتُ خطواتٍ توجهني الصغيرة التي أحملها عندما لاحت على البعد طفلة في حوالي الثامنة من عمرها قادمةً باتجاهنا. كانت أختها على ما يبدو من ذلك الشبه الكبير الواضح بينهما. اقتربتْ منا وأنا حامل الصغيرة بين ذراعيّ، وراحتْ تصيح بأختها.
-ريم.. تعالي.. عيب.. اتركي الرجل.
شددتُ الصغيرة في أحضاني وهمست في أذنها:
-ريم؟ اسمك ريم؟ ما أجمله من اسم!..
قرصتْ الصغيرة خدي وهي تقول بلثغة رائعة:
-ليم بابا.. نسيت؟..
صاحت الكبرى بأختها مرة ثانية.
-ريم.. اتركي الرجل وتعالي.. عيب.. ستزعل منك ماما..
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بي. ألصقت خدّها بخدي، ونهرت أختها قائلة:
-لن أترك بابا.. أنا مشتاقة إليه كثيراً.. لقد عاد من السفر أخيراً..
كان موقفاً حرجاً. الصغيرة ريم ملتصقة بي كعصفور مذعور، وأختها الكبرى تنهرها، تدعوها أن تتركني، وتأتي معها إلى عند "ماما" التي تنتظرهما.
ولما أعيت الحيل مع ريم التفتُّ إلى أختها، وقلتُ لها:
-أين أمك يا صغيرتي؟.. أنا سأوصل ريم إليها..
تحركت الطفلة الكبرى وأنا وراءها حاملاً ريم التي هدأت بين يديّ كما يهدأ الفرخ الصغير.
***
كانت الأم تجلس غير بعيد عنا، تشهد ما يحدث، وتتسمع ما يقال وقد علاها الارتباك والحرج، حتى بدا وكأنّ عرق الخجل يتصبب منها..
-ماما .. هذه ريم.
صاحت أختها، فنهضت امرأة شابة محتشمة بجلباب طويل وحجاب وقور، أقبلت نحونا، ومدت يديها تجاول أخذ ريم مني وهي تعتذر إليّ بصوت يقطع نبراته الحياء.
-آسفة يا أخي.. لا تؤاخذنا أرجوك.. تعالي يا ريم.. اتركي "عمو" لقد أزعجته بما فيه الكفاية.
ولكن ريم ازدادت تشبثاً بعنقي، ثم انفجرت في بكاء حار، وراحت تتمتم بنبراتها الطفولية العذبة من خلال صوتها المتهدج بالبكاء.
-هذا "بابا" وليس "عمو" بابا أرجوك.. لا تتركني مرة أخرى.. مرة أحبك.. لا أستطيع أن أعيش من دونك..
هدأت ريم قليلاً، فقلت لأمها وأن أتحاشى النظر إليها بسبب وقارها، وشدّة حشمتها، وإحكام حجابها:
-اتركيها معي قليلاً يا سيدتي.. أنا سأهدئها وأعيدها إليك.. ثم سألت على استحياء:
-ولكنْ ما الموضوع؟ مابها ريم؟..
قالت السيدة وهي تغالب نبرات صوتها المتهدج:
-هذه ابنتي الصغرى.. كانت شديدة التعلق بأبيها.. كان يشبهك كثيراً يا سبحان الله يا أخي.. يخلق من الشبه أربعون..
قلتُ، وقد غلبني الانفعال، واستكانت ريم فوق صدري حتى كأنها قد نامت:
-وأين أبوها الآن يا سيدتي؟
قالت السيدة وهي تغالب دموعها وتهدُّج صوتها:
-توفي من حوالي سنة في حادث سيارة.. أخفينا الأمر عن ريم، قلت لها إنه مسافر وسيعود.. حسبتُ إنها ستنساه.. ولكنها في كل يوم تسأل عنه: أين بابا؟.. متى سيعود؟ كانت شديدة التعلق به إلى حد الهوس..
ثم صمتتْ وصمتُّ. اعتراني تأثر لم أشعر به في حياتي. أما ريم فقد بدا أنها غفت فوق ذراعيّ فعلاً:
أكملت السيدة مغالبة دموعها وهي تمدّ ذراعيها لتأخذ ريم:
-ولما رأتك حسبتك هو.. سبحان الله.. كم تشبهه! حفظك الله يا أخي.. وأبعد عنك السوء.
أخذت المرأة ريم من بين ذراعي. لا أدري لم اعتراني فجأة إحساس غريب وهو أن شيئاً عزيزاً قد انتزع من بين جنبيّ، ثم تضخم هذا الإحساس حتى وجدتني فجأة وكأني على وشك أن أبكي لابتعاد هذه الصغيرة.
أهذا معقول؟.. كدت أسترجعها من بين ذراعيْ أمها، اعتراني شعور تدفق في أعماقي كشلال هادر: صعبٌ ألا ترى هذه الصغيرة مرة أخرى، لن تستطيع أن تنساها، أو تصبر على فقدها أبداً أبداً.
حفرتها تلك اللحظات التي حملتها فيها في أعماقي حفراً لا أستطيع أن أتخيل الآن أنه سوف يُمْحى.
هتفتُ من غير وعي.
-سيدتي.. أرجوك.. أنا محتاج إلى هذه الصغيرة مثلما هي محتاجة إليَّ..
نظرت إليّ المرأة باستغراب وارتياب، رأيتها لأول مرة، طالعتُ وجهها. كانت غاية في الحسن والبهاء والجاذبية والحشمة.
نظرتُ إلى أخت ريم.
-ما اسمك يا صغيرتي؟
همست الصغيرة ببراءة:
-لبنى..
التفت إلى أمها وأنا أتهدّج من الانفعال والنشوة.
-سيدتي.. هل أستطيع أن آخذ من لبنى رقم هاتفكم لأقوم بزيارتكم أنا ووالدتي زيارة عائلية؟..