ليلى المالح - طين.. قصة قصيرة


كانت السماء حمراء لم يتوقع العاملون في الأرصاد الجوية أن تكون كذلك فقد بشروا صباحاً بيوم لطيف قد تشوبه بعض زخات المطر المستحبة. نظرت عبر النافذة العريضة عرض الجدار ومدت بصرها ترقب العاصفة الرملية التي بدأت تغطي كل ما امتد على مرمى النظر. بدا المشهد كمقطع من فيلم سينمائي عن نهاية العالم، غبار أصفر محمر يلتهم كل ما حوله فتغيب في أعماقه أعتى المنازل وتتلاشى في طياته هامات الأبنية الشاهقة. اختفت حتى الشوارع المكتظة بالسيارات ولم يبن منها سوى بعض كتل كساها الطين تتحرك بتثاقل، كما لو تحرك أبو هول مصر من موقعه جاراً خلفه طرفيه الحجريين، ولايظهر منها سوى مواقع العينين الحمراوتين أضيئت لتتلمس الطريق.
كان اليوم عطلة وساءها أن يبدأ اليوم هكذا. أوصدت منافذ الهواء في البيت كي تحول دون نفاذ الغبار إلى الداخل فقد كانت عيناها قد اشتعلتا مسبقاً باحمرار الحساسية التي طالما أثبتت أنها أدق من تنبؤات الأرصاد ألف مرة. فهي تنبئها بقدوم العاصفة حتى قبل أن تتحرك إبرة ميزان الجو المعلق على الجدار.
لا بأس، ستستكين إذاً في ثياب النوم على الأريكة قبال التلفاز وتتلذذ ببداية يوم ليس عليها فيه أن تهرع إلى العمل وتوصيل الأطفال إلى مدارسهم وابتياع أغراض البيت و..و...و... لكل غيمة جانبها المشرق. ضحكت وهي تترجم التعبير الإنجليزي الشائع وتبحث في ذهنها عن مقابله العربي. تنقلت بين القنوات الفضائية تبحث عما يمكن أن يبعث فيها قليلاً من الفرح في يوم استحال نهاره ليلاً وأظلم منذ بدايته. أغمضت عينيها بسرعة تتفادى مشهد الجثث الممزقة التي كانت تعرضه "الجزيرة" وضغطت على زر القنوات فارّة من هول ما رأت. "أستغفر الله العظيم من هذا اليوم. من عند الصبح؟ طوز وموت وقتل وأشلاء." لم تسعفها القنوات الأخرى فلم تكن مشاهدها أكثر رحمة وكيف تكون هكذا وقد أصبح العالم أسير العنف والقتل المجاني. سمعت صوت الصحيفة اليومية وهي تنزلق داخل الصندوق قرب باب البيت وقد أحدث الغطاء في انغلاقه صريراً لم تكن لتلحظه في يوم آخر. أقفلت التلفاز وهرعت تدخل الصحيفة تعد نفسها بالتمتع بقراءة متمهلة لا تطاردها فيه عقارب الساعة. آه من الزمن! فكرت، متنهدة. يبقينا الوقت في قبضته نتحايل عليه نسرق منه الدقائق والساعات لمّا يكون لاهياً، لكنه يسرق منا العمر لمّا نكون نحن لاهين.
غطت مشاهد الدماء الصفحة الأولى. انتحاري يفجر نفسه في حي شعبي. أمهات يلطمن وجوههن وصدورهن لوعة وألماً، ألم الفراق وحزن الوداع وأسى المعرفة وجرح الغضب وذل الاستلاب وهوان الضعف ومذلة العجز. رجال بأعلام سود في كل مكان، ودم عربي يسيل لا بل يتدفق، يجري، يندفع، ينهمر، يهطل، يغمر، يغرق، يجرف. تنتهي اللغة ولا ينتهي. تطوي الجريدة بقليل من العناية وتسرح شاردة.
الرعد الصاخب يهز أرجاء البيت وينابيع السماء تفيض مفرغة ما عندها كأنها تهرع مسرعة لتنهي مهمة أخذتها على نفسها. لم يكن هناك تأنّ ولم يكن هناك تؤدة. كان هناك تعجيل بيّن عرفت أنه لن يطول. دقائق وتنتهي المهمة تفرغ فيها صهاريج السماء أينما اتفق كمثل ذاك القتل العشوائي. أينما اتفق. في ثوان تغرق الأرض ويغطيها البَرَد. تنظر إلى نباتاتها الجميلة على الشرفة وقد اقتلع أكثرها من أصيصها وتدافع في أرجاء المكان. غريبة هذه النباتات، فكرت في نفسها، الطويل منها انحنى والقصير بقي صامداً، والمتوسط اقتلعته الريح.
توقف المطر فجأة تماماً كما توقعت. وبمثل تلك العجالة انقشع الغيم وأشرقت شمس غاضبة محتجة على غيابها القسري خارج موعد دوامها. وكأنها أرادت أن تعوض ما فاتها من انسحاب وتوار فأشرعت أشعتها وراحت تلفح الأرض بكل همة. كانت سيول المطر قد غسلت الدروب وجرفت الطين الذي حملته الرياح والذي همد على السطوح والنوافذ وحتى الرموش.
منحها المطر شعوراَ بالنظافة بعد كل ذاك الغبار العاصف. اتجهت إلى المطبخ تعد لنفسها فنجاناً من قهوة جديدة ابتاعتها من "ستاربكس" رغم أنها كانت قد وعدت نفسها في السابق ألا تدخل ذاك المكان لما سمعت عن مناصرته لإسرائيل. لاحت منها نظرة إلى النافذة تتأمل هدوء ما بعد العاصفة. وفجأة خطر لها خاطر. كومة زرق الحمام التي تقبع في الزاوية بين الجدار والنافذة والتي راحت تتنامى حجماً وقذارة يوماً بعد يوم واستعصى عليها إزالتها وتنظيفها، فهي في ركن قصي لاتطاله يداها ولايمكّنها مزلاج النافذة من مناورتها. كانت تخشى انتقال انفلوانزا الطيور إلى أفراد عائلتها عن طريق تلك الكومة ورواسبها خاصة أن أحد طيور الحمام لا يفارقها كما يبدو فقد طاب له فيها المقام وربما يكون مصاباً بأنفلونزا الطيور فلا يقوى على الحركة. أفليس يوماً كهذا هو اليوم المناسب لإزالتها؟ لابد أن المطر الغزير قد ليّن عريكتها وأضعف تشبثها بإطار النافذة. ثم تستطيع في يوم كهذا أن تدلق بعض الماء عليها دون أن تسيء لشرفات الجوار التي لابد وأنها غرقت في شلالات المطر التي قذفت بها السماء ولن يضيرها المزيد.
دبت الحمية في ساعديها، علت سلماً قصيراً يمكّنها من مناورة الموقع من فوق. أمسكت بالمكنسة الطويلة الذراع وراحت تحف وتحف دون جدوى. انتزعت االذراع من المكنسة فصارت رمحاً طعنت به الكومة طعنات قصيرة متتالية إلى أن جزأتها كتلاً صغيرة قدرت على رميها تباعاً وأخذت ترقبها وهي تهوي على مدى التسع طوابق التي تفصلها عن الأرض. أحست بنشوة الانتصار. الكومة تلين وتطيع وتتفتت شيئاً فشيئاً لتكنسها للمرة الأخيرة وتصب ماء وماء وماء حتى لا يبين لها أثر. أحضرت زجاجة الكلور لتعقم المكان وتعلن المنطقة خالية من انفلونزا الطيور. انتشت سعادة لهذا النصر الصغير وقهقهت في داخلها. وقبل أن تفتح الزجاجة لحظت شيئاً بلون اللحم الباهت يتحرك بصعوبة حيث كان كوم زرق الحمام. أمعنت النظر ولم تصدق عينيها عندما بدأ الشيء الهلامي يتخذ شكله وتتضح معالمه: منقار صغير بالكاد يرى وأطراف ضعيفة تتخبط كالسمكة إذ أخرجت من الماء بيضة قد أفرغ قسراً ما بداخلها. بالقرب تحرك شكل مماثل وبالقرب أيضاً كانت تتأرجح بيضة صمدت هجوم النظافة فأبى من بداخلها أن يستجيب لغزو العالم الخارجي فاستكان في الداخل متشبثاً بأمل البقاء.
شلها ذهول الموقف عن الحركة فوقفت حزينة آسفة تتمتم بالاعتذار والندم. ليتها عرفت كسليمان لغة الطير لقدمت اعتذارها وشرحت سوء التفاهم هذا. ولكن المفاجأة عقدت لسانها بكل ما تعرفه من لغات. مالذي يمكنها أن تفعله؟ أتقدم دثاراً للّحم الغض الذي عرّته بتلك اليدين، أم طعاماً وهي لاتدري ما الذي يأكله من خرج من البيضة لتوه، هل يصمد الجنين الذي أقحم في العالم قبل أوانه إلى أن تبني له عشاً من جديد؟ لم تكن قادرة على الوصول إلى مكان "الأجنة" لانزوائه في ركن لا تطاله وهي في ذاك العلو الشاهق ولهذا لم يكن لها أن تُدخل اللحم الطريَ الخافقَ إلى الداخل لتعنى به.
ترقرق الدمع في عينيها. لم تقصد. والله لم تقصد. تذكرت مراقبة الحمام الذي كان يخطر أمام النافذة صباح مساء وكيف كانت تقهقه وهي ترقب مناورات الغزل المكشوف بين أزواجه. الأنثى تتمنع والذكر يخطر جيئة وذهاباً جيئة وذهاباً ولم يسعفها الحظ أن تراهما يوماً في فعل الحب. ابنتها شاهدت وأدلت بشهادتها لدهشتها. هل كانت تلك الأجنة التي انتزعتها من دفء عشها وقذفت بها في العراء "النظيف" ثمرة مناورات الحب على شباكها؟
نثرت القمح على حافة النافذة لتشجع الحمامة الأم على العودة إلى ما كان عشاً بنَته فضاع، تشجعها كي تعود لترعى صغارها فهي تعرف أكثر من أي آخر، ستعرف ما يجب القيام به لمساعدتهم على البقاء، هي تحكي لغتهم وستجعل من جناحيها عشاً يدفئهم يلوذون به من غزو العتاة.
جافاها النوم تلك الليلة. ذهبت إلى النافذة من جديد ووضعت على حافتها سنابل قمح كانت تستخدمها لزينة غرفة جلوسها. ستأكل الأم القمح، فكرت جادة، وستصنع لصغارها عشاً جديداً بالأعواد. كانت الأم مستكينة على الحافة وقد أغمضت عينيها حزناً؟ أسىً؟ لوعة؟ لفراق أم وداع أم استسلام؟
في الصباح كانت النافذة أول ما وقعت عليها عيناها، وكانت نظيفة تلمع. أما قلبها فلم يكن كذلك


الكويت، شتاء 2007 وربيع 2014 ولم يتغير شيء

د. ليلى المالح - طين.. قصة قصيرة


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...