قامت في فرنسا في القرن الماضي حركة سياسية سميت في تاريخ الفلسفة باسم L’anarchisme بزعامة Pierre Proudhon وتلخص سياسته هذه بالحرية المطلقة فلا جبر ولا إلزام على الأشخاص ولا دين ولا دولة؛ بل تهدف الفوضوية إلى القضاء على الخضوع للسلطة سوى سلطان العلم والعقل. ولكن لم يقدر لهذا المذهب السياسي أي نجاح فضلًا عن إهمال علماء السياسة لدراسته.
وفي فرنسا الآن حركة أدبية وأخلاقية واسعة هي المذهب الوجودي. ومن المعروف عن هذا المذهب أن كل إنسان يعمل ما يريد، وفي عمله يجب أن يكون بعيدًا عن الخيال، وقد قال سارتر: «إننا نعيش في المادة فيجب أن نخضع للطبيعة ونتركها تفعل ما تريد.»
ولشدة الشبه بين المذهب السياسي السابق والمذهب الأدبي الموجود الآن نسأل: هل هناك علاقة بين المذهبين؟ وهل يمكن اعتبار الوجودية امتدادًا للفوضوية ولكن في ثياب الأدب …
إدوارد فؤاد
طالب بآداب القاهرة
قسم التاريخ
أحسن الطالب الأديب أولًا في تسمية الفوضوية والوجودية بالحركة. لأن الحركة أليق بهما من اسم المذهب الذي ذكره بعد ذلك، وقد تكون الوجودية مناقضة للتمذهب بحكم قواعدها الأولى، وهي تجتمع كلها في التعويل على استقلال الفرد بآرائه وميوله، وينتمي إليها — أي إلى الوجودية — أكثر من عشرين مفكرًا لا يلتقي واحد منهم بالآخر إلا في عرض الطريق. فهي مذاهب كثيرة وليست بمذهب واحد.
وكذلك الفوضوية في تشعبها وكثرة مدارسها وأقاويلها، فإن برودون وباكونين وكروبتكين وأتباعهم من روسيا وإسبانيا يختلفون بالرأي كما يختلفون بالعمل، ولا بد من هذا الاختلاف بين القائمين بالحركة التي تهدم كثيرًا ولا تتفق على خطط البناء.
وأحسن الطالب أيضًا في التفرقة بين الحركتين، لأن إحداهما سياسية وهي الفوضوية، والأخرى أخلاقية أدبية وهي الوجودية، وما بينهما من التوافق العرضي فإنما هو من طريق المصادفة السلبية، حيث يتفق المنكرون للأسس القائمة في بعض الأمور وإن تفرقوا في الأسباب والأغراض.
بل تكاد الحركتان تتناقضان في مبدأ أصيل يميز كلا منهما ويرجع إليه الفارق الأكبر بينهما.
فالوجودية تعول على استقلال الفرد كل التعويل، ولا وجودية في رأي من الآراء بغير هذا الاستقلال.
والحركة الكبرى من حركات الفوضوية — وهي المعروفة بالفوضوية الشيوعية — تخرج الفرد من حسابها وتكاد تمحوه في سبيل الجماعة، ولم تنشأ الوجودية إلا بمثابة احتجاج الفرد على طغيان الجماعة وتهوينها من شأن الاستقلال الفردي في الحركات الاجتماعية، ولا استثناء في ذلك للديمقراطية ولا للاشتراكية المعتدلة ولا لدعوات التأميم والخطط المرسومة لتنظيم العمل والثروة.
فالوجودية في ناحية من نواحيها الهامة احتجاج على الفوضوية كلها واحتجاج على الفوضوية الشيوعية قبل غيرها، وما يتلاقيان فيه من إنكار التسلط فإنما هو مصادفة عرضية لا تلبث أن تبتدئ على اتفاق حتى تتشعب على شقاق ونضال. لأن إنكار التسلط في الحركة الفوضوية يحمل بين طواياه إنكار المزايا الفردية ورد الأمر كله إلى الجمهرة الغالبة بالعدد والكثرة دون القيمة والكفاية.
إلا أن الحركتين تتشابهان في خصلة واحدة وهي أنهما معًا غير مفهومتين على اتضاح وجلاء، لكثرة الشعب التي تتفرع عليهما وكثرة الأدعياء الذين يلصقون بهما وكثرة الآخذين منهما بالقشور دون اللباب.
الفوضوية لا تنكر النظام
فالذي يسبق إلى الذهن من اسم الفوضوية — ولا سيما اسمها باللغة العربية — أنها تبطل النظام وتلغيه وتدعو إلى مجتمع مطلق من الآداب لا نظام فيه.
وهذا غير صحيح.
لأن الفوضوية إنما تنكر «التسلط» كما قال الطالب النجيب في خطابه، ولكنها لا تنكر الهيئات التي تتولى الأعمال العامة بالمشاركة والمشاورة، ولا تلغي هيئة واحدة لازمة للتعليم أو لصيانة الصحة أو لإدارة المصانع أو لتوزيع المطالب والحاجات.
ودعوة برودون على الخصوص قائمة على لزوم هذه المصالح العامة واستغنائها عن «المتسلطين» الذين يعتمدون على القوة دون غيرها في تغليب مصلحتهم على سائر المصالح الاجتماعية.
وقد ألف كتابه: «ما هي الملكية؟» ليقول إنها هي السرقة، ويقول من ثم إن اغتصاب السارقين للثروة المشتركة يضطرهم إلى اغتصاب آخر لحفظ ما سرقوه في أيديهم وهو اغتصاب «السلطة» واحتكار الشريعة والقانون.
وعند برودون أن اغتصاب الملكية واغتصاب السلطة هما الباعث الأكبر على الجريمة والفساد، فحيث لا اغتصاب لا إجرام ولا فساد ولا حاجة إلى التسلط والمتسلطين.
وهذا الرأي قد بطل عند علماء السياسة وعلماء الاجتماع كما قال الطالب النجيب، لأن الدراسات النفسية والمقارنات الاجتماعية بين المجتمعات الأولى والمجتمعات الحديثة قد عرفت الناس ببواعث الجريمة ولم تحصرها في البواعث الاقتصادية.
ولا تدعو إلى القتل
ومن الشائع على الفوضوية أنها تدعو إلى القتل أو إلى الاغتيال السياسي لتحقيق برنامجها.
وهذا أيضًا من الإشاعات التي تصدق على نفر قليل من الفوضويين ولا تصدق على الحركة كلها، وقد بدأ الاغتيال السياسي قبل عصر برودون وعاش بعده ولم يكن موقف الدعاة الكبار منه موقف التأييد والتقرير إلا على سبيل الإغضاء والاضطرار.
والنفر القليل الذي يدين بالاغتيال السياسي بين الفوضويين يطلق على الاغتيال اسم «الدعاية بالفعل» أو الدعاية المثيرة، ويعتقد أن حوادث الاغتيال تنبه الأذهان إلى مقاصد الفوضوية فيتساءل عنها من يجهلها ولا يباليها ويفهمها الناس من طريق هذا التساؤل فيقبلون عليها.
وقد أنكر كروبتكين مبدأ الاغتيال السياسي في مقاله الذي استكتبته إياه دائرة المعارف البريطانية بطبعتها الحادية عشرة. وحاول أن يفسره بقوله إنه من قبيل القصاص ورد الفعل للتنكيل بأصحاب هذه الحركة. وإن المغتالين لا يعتدون على الناس جزافًا بغير تفرقة بينهم لمجرد التنبيه ولفت الأنظار. ولكنهم يعتدون على المعتدين ويجزونهم بما فعلوه في حماية السلطة والقانون.
ثم نشأت في روسيا طائفة فوضوية اشتراكية تنادي بمقت الاغتيال وترى أنه من معوقات الدعوة والمنفرات منها. ولكنها لم تكن تشتد في إدانة المغتالين ولم يكن بينها وبين الشيوعيين فارق كبير في الوجهة الأخيرة. فإنما كان الفارق الجوهري بين الفوضوية والشيوعية أن الشيوعية ترضى عن قيام السلطة أثناء فترة الانتقال لقمع العناصر الرجعية، وتمهل هذه السلطة الموقوتة أن تذبل على شجرتها فتسقط بغير جهد من المجتمع لانتهاء الحاجة إليها.
ولا تنكر الاعتقاد
وليس من الصحيح أن الفوضويين جميعًا ينكرون الاعتقاد، أو ينكرون الديانة في صورة من صورها التقليدية أو المبتدعة.
فإن الشعبة التي يقودها سوريل ويقترح فيها إقامة النقابات مقام الحكومات تبني دعوتها كلها على العقيدة التي تسميها اﻟ myth وتؤمن بضرورتها لكل حركة إنسانية.
وإنما ينكر الفوضويون الديانات التي يتخذها المتسلطون ذريعة للسيطرة على الضعفاء، وهي من قبيل المذاهب التي قال عنها أبو العلاء:
إنما هذه المذاهب أسباب
لجلب الدنيا إلى الرؤساء
وليس برودون مؤسسها
كذلك يقال دائمًا إن برودون هو أبو الفوضوية وصاحب الدعوة الأولى إليها.
وهو قول صحيح إذا أريد به تنسيق الفلسفة وتطبيقها على النظم العصرية. ولكنه مع ذلك غير صحيح على إطلاقه في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
فالفيلسوف الرواقي زينون الذي نشأ في القرن الرابع قبل الميلاد كان يؤمن بالمجتمع المتحرر من السلطة ويفخر بأن تلاميذه يتعلمون منه أن يصنعوا طوعًا ما يصنعه سائر الرعايا مكرهين أو مهددين.
والمفكر الإنجليزي وليام جدوين Godwin الذي ظهر في القرن الثامن عشر شرح في كتابه عن «العدل السياسي» وسائل الحكم الذي يتوزع بين الهيئات ولا ينحصر في سلطة مركزية تملك وسائل الإرهاب والإكراه.
ويمكن أن يقال إن فلسفة الحكم منذ وجدت كانت تشتمل في كل عصر على مدرستين متقابلتين: مدرسة التوسع في سلطان الحكومة لتنظيم المجتمع، ومدرسة التضييق من هذا السلطان والاكتفاء منه بأقل ما يستطاع لحماية الأبرياء، وليست الفوضوية إلا تطرفًا في هذه المدرسة إلى أقصى اليسار، يدعو إليه تطرف الاستبداد على النحو الذي كان عليه قبل الثورة الفرنسية.
الوجوديات
أما الوجودية فالاضطراب في قواعدها أشد من الاضطراب في قواعد الفوضوية؛ لأنها وجوديات كثيرة لا وجودية واحدة، وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد والبلد الواحد كما يتناقض الإيمان العميق والإلحاد السافر، أو كما يتناقض الزهد والإباحية، ولعل الكثيرين لا يفهمون منها إلا اللغط عن الإباحية الأخلاقية المنطلقة من جميع القيود، فيقبلون عليها لأنها سند فلسفي يسوغون به ضعفهم وانحلالهم، وهم يخجلون — أو ينبغي أن يخجلوا — من الضعف والانحلال بغير سند منسوب إلى الفكر والفلسفة.
والأساس الصحيح الذي تقوم عليه الوجوديات السليمة هو إنصاف ضمير الفرد من طغيان الجماعة على استقلاله، ولكن الاستقلال كالمال يلزم الإنسان لأغراض كثيرة، فمنه ما يلزمه للعصمة من الزلل، ومنه ما يلزمه للتورط في الزلل وتيسير الذرائع إليه.
وأسوأ الوجوديات الإباحية لا يسوغ الانطلاق من قيود الآداب بغير نظر إلى العواقب والضحايا، فإذا اختار الوجودي أن يستوفي كيانه الفردي بإشباع شهواته فهو حر في اختياره واحتمال جرائر هواه، وهو حقيق أن يوازن بين الخطر والإحجام على علم بما يصيبه من المتعة وما يصاب به من الأذى، وتلك هي قيمة «الاختيار» الملائم في عرف هؤلاء الوجوديين.
أما المسوغ الفلسفي الذي يستند إليه الوجوديون الإباحيون فهو أسخف الإسناد الفلسفية التي ظهرت في عالم الفكر والعقيدة.
إنهم يقولون إن الوجود الحقيقي هو وجود الفرد المعروف بشخصه وكيانه، وإنما النوع كلمة أو لفظة أو خيال لا جود له في غير التصور، وليست «الإنسانية» إلا كلمة خاوية لا توجد بمعزل عن هذا الفرد وذاك الفرد أو هذا الإنسان وذلك الإنسان.
ومن هنا اسم الوجودية الذي ينتسبون إليه ويحسبونه تصويرًا للواقع لا مراء فيه.
إلا أن الواقع الذي لا مراء فيه أن النوع موجود في تركيب كل إنسان وإنسانة، وأنه ما من خلية في بنية الفرد لم يتمثل فيها النوع تمثيلًا أوفى وأعمق من تمثيل الفرد ذاته بجميع خصائصه ومقوماته.
ولقد ثبت ثبوت اليقين أن قوام البنية مرتبط بالغدد الصماء وغير الصماء، وأن علاقة هذه الغدد بالخصائص النوعية وثيقة جدًّا في عملها المنفصل وأعمالها التي تتعاون عليها.
وإذا كان تمثيل النوع حيويًّا أو «بيولوجيًّا» حقيقة لا ريب فيها فالتمثيل النفساني أو السيكولوجي تضارعها ثبوتًا ويقينًا إن لم تكن أبرز منها للوعي والشعور.
وعلى هذا لا يمكن أن يقال إن الفرد موجود حقيقي وإن النوع وهم ليس له وجود؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل فردًا مجردًا من الخصائص النوعية في كل خصلة من خصاله وكل خلجة من خلجات وعيه وشعوره، ومن قال إنه ينطلق على هواه ويمضي على رأسه غير مبال بمصير النوع إلى الفناء فعليه قبل كل شيء أن يخرج من دعوى «الوجودية» إلى دعوى «العدمية»، لأن فلسفته تقوده إلى فناء الفرد وفناء الإنسانية، حين يزعم أنه يبالي بحاضره ولا يبالي بمصيره ولا بمصير الإنسانية جمعاء.
وبعد فهذه الوجودية كلها شيء والمدارس الفوضوية كلها شيء آخر.
إن الوجودية لا تسري على الجماعة ولا تتجه إليها إلا من طريق الاتجاه إلى استقلال الفرد على حدة.
أما الفوضوية فهي جماعية قبل كل شيء، وهي حركة سياسية لا تنظر إلى الأفراد متفرقين ولا تبالي بهم مستقلين، وكلهم سواء عندها في ظل النظام الذي لا سلطة للطغاة عليه، وإذا اتفق الوجوديون والفوضويون في كراهة التسلط فقد يتضارب الفريقان إذا كانت المسألة مسألة طغيان الجماعة لا مسألة الطغيان من أصحاب السلطان.
أنا وجودي
وكاتب هذه السطور «وجودي» إذا كان معنى الوجودية إنصاف الضمير الفردي وتقديس الإنسان المستقل بفكره وخلقه. وعندنا أن الجماعة المثلى هي الجماعة التي تهيئ للفرد غاية ما يستطاع من الكرامة والاستقلال، وأنها إذا توقف وجودها على فناء الفرد ومحو استقلاله جماعة جديرة بالفناء.
إلا أن الوجودية التي تؤمن بوجود الفرد لينسى واجبه، ولا يذكر غير هواه ليست في الحق إلا عدمية باسمها وفعلها، وهي من المفارقات والأغاليط بالنسبة إلى الآحاد وإلى الأنواع والجماعات.
.......
المصدر: كتاب "أفيون الشعوب"
وفي فرنسا الآن حركة أدبية وأخلاقية واسعة هي المذهب الوجودي. ومن المعروف عن هذا المذهب أن كل إنسان يعمل ما يريد، وفي عمله يجب أن يكون بعيدًا عن الخيال، وقد قال سارتر: «إننا نعيش في المادة فيجب أن نخضع للطبيعة ونتركها تفعل ما تريد.»
ولشدة الشبه بين المذهب السياسي السابق والمذهب الأدبي الموجود الآن نسأل: هل هناك علاقة بين المذهبين؟ وهل يمكن اعتبار الوجودية امتدادًا للفوضوية ولكن في ثياب الأدب …
إدوارد فؤاد
طالب بآداب القاهرة
قسم التاريخ
أحسن الطالب الأديب أولًا في تسمية الفوضوية والوجودية بالحركة. لأن الحركة أليق بهما من اسم المذهب الذي ذكره بعد ذلك، وقد تكون الوجودية مناقضة للتمذهب بحكم قواعدها الأولى، وهي تجتمع كلها في التعويل على استقلال الفرد بآرائه وميوله، وينتمي إليها — أي إلى الوجودية — أكثر من عشرين مفكرًا لا يلتقي واحد منهم بالآخر إلا في عرض الطريق. فهي مذاهب كثيرة وليست بمذهب واحد.
وكذلك الفوضوية في تشعبها وكثرة مدارسها وأقاويلها، فإن برودون وباكونين وكروبتكين وأتباعهم من روسيا وإسبانيا يختلفون بالرأي كما يختلفون بالعمل، ولا بد من هذا الاختلاف بين القائمين بالحركة التي تهدم كثيرًا ولا تتفق على خطط البناء.
وأحسن الطالب أيضًا في التفرقة بين الحركتين، لأن إحداهما سياسية وهي الفوضوية، والأخرى أخلاقية أدبية وهي الوجودية، وما بينهما من التوافق العرضي فإنما هو من طريق المصادفة السلبية، حيث يتفق المنكرون للأسس القائمة في بعض الأمور وإن تفرقوا في الأسباب والأغراض.
بل تكاد الحركتان تتناقضان في مبدأ أصيل يميز كلا منهما ويرجع إليه الفارق الأكبر بينهما.
فالوجودية تعول على استقلال الفرد كل التعويل، ولا وجودية في رأي من الآراء بغير هذا الاستقلال.
والحركة الكبرى من حركات الفوضوية — وهي المعروفة بالفوضوية الشيوعية — تخرج الفرد من حسابها وتكاد تمحوه في سبيل الجماعة، ولم تنشأ الوجودية إلا بمثابة احتجاج الفرد على طغيان الجماعة وتهوينها من شأن الاستقلال الفردي في الحركات الاجتماعية، ولا استثناء في ذلك للديمقراطية ولا للاشتراكية المعتدلة ولا لدعوات التأميم والخطط المرسومة لتنظيم العمل والثروة.
فالوجودية في ناحية من نواحيها الهامة احتجاج على الفوضوية كلها واحتجاج على الفوضوية الشيوعية قبل غيرها، وما يتلاقيان فيه من إنكار التسلط فإنما هو مصادفة عرضية لا تلبث أن تبتدئ على اتفاق حتى تتشعب على شقاق ونضال. لأن إنكار التسلط في الحركة الفوضوية يحمل بين طواياه إنكار المزايا الفردية ورد الأمر كله إلى الجمهرة الغالبة بالعدد والكثرة دون القيمة والكفاية.
إلا أن الحركتين تتشابهان في خصلة واحدة وهي أنهما معًا غير مفهومتين على اتضاح وجلاء، لكثرة الشعب التي تتفرع عليهما وكثرة الأدعياء الذين يلصقون بهما وكثرة الآخذين منهما بالقشور دون اللباب.
الفوضوية لا تنكر النظام
فالذي يسبق إلى الذهن من اسم الفوضوية — ولا سيما اسمها باللغة العربية — أنها تبطل النظام وتلغيه وتدعو إلى مجتمع مطلق من الآداب لا نظام فيه.
وهذا غير صحيح.
لأن الفوضوية إنما تنكر «التسلط» كما قال الطالب النجيب في خطابه، ولكنها لا تنكر الهيئات التي تتولى الأعمال العامة بالمشاركة والمشاورة، ولا تلغي هيئة واحدة لازمة للتعليم أو لصيانة الصحة أو لإدارة المصانع أو لتوزيع المطالب والحاجات.
ودعوة برودون على الخصوص قائمة على لزوم هذه المصالح العامة واستغنائها عن «المتسلطين» الذين يعتمدون على القوة دون غيرها في تغليب مصلحتهم على سائر المصالح الاجتماعية.
وقد ألف كتابه: «ما هي الملكية؟» ليقول إنها هي السرقة، ويقول من ثم إن اغتصاب السارقين للثروة المشتركة يضطرهم إلى اغتصاب آخر لحفظ ما سرقوه في أيديهم وهو اغتصاب «السلطة» واحتكار الشريعة والقانون.
وعند برودون أن اغتصاب الملكية واغتصاب السلطة هما الباعث الأكبر على الجريمة والفساد، فحيث لا اغتصاب لا إجرام ولا فساد ولا حاجة إلى التسلط والمتسلطين.
وهذا الرأي قد بطل عند علماء السياسة وعلماء الاجتماع كما قال الطالب النجيب، لأن الدراسات النفسية والمقارنات الاجتماعية بين المجتمعات الأولى والمجتمعات الحديثة قد عرفت الناس ببواعث الجريمة ولم تحصرها في البواعث الاقتصادية.
ولا تدعو إلى القتل
ومن الشائع على الفوضوية أنها تدعو إلى القتل أو إلى الاغتيال السياسي لتحقيق برنامجها.
وهذا أيضًا من الإشاعات التي تصدق على نفر قليل من الفوضويين ولا تصدق على الحركة كلها، وقد بدأ الاغتيال السياسي قبل عصر برودون وعاش بعده ولم يكن موقف الدعاة الكبار منه موقف التأييد والتقرير إلا على سبيل الإغضاء والاضطرار.
والنفر القليل الذي يدين بالاغتيال السياسي بين الفوضويين يطلق على الاغتيال اسم «الدعاية بالفعل» أو الدعاية المثيرة، ويعتقد أن حوادث الاغتيال تنبه الأذهان إلى مقاصد الفوضوية فيتساءل عنها من يجهلها ولا يباليها ويفهمها الناس من طريق هذا التساؤل فيقبلون عليها.
وقد أنكر كروبتكين مبدأ الاغتيال السياسي في مقاله الذي استكتبته إياه دائرة المعارف البريطانية بطبعتها الحادية عشرة. وحاول أن يفسره بقوله إنه من قبيل القصاص ورد الفعل للتنكيل بأصحاب هذه الحركة. وإن المغتالين لا يعتدون على الناس جزافًا بغير تفرقة بينهم لمجرد التنبيه ولفت الأنظار. ولكنهم يعتدون على المعتدين ويجزونهم بما فعلوه في حماية السلطة والقانون.
ثم نشأت في روسيا طائفة فوضوية اشتراكية تنادي بمقت الاغتيال وترى أنه من معوقات الدعوة والمنفرات منها. ولكنها لم تكن تشتد في إدانة المغتالين ولم يكن بينها وبين الشيوعيين فارق كبير في الوجهة الأخيرة. فإنما كان الفارق الجوهري بين الفوضوية والشيوعية أن الشيوعية ترضى عن قيام السلطة أثناء فترة الانتقال لقمع العناصر الرجعية، وتمهل هذه السلطة الموقوتة أن تذبل على شجرتها فتسقط بغير جهد من المجتمع لانتهاء الحاجة إليها.
ولا تنكر الاعتقاد
وليس من الصحيح أن الفوضويين جميعًا ينكرون الاعتقاد، أو ينكرون الديانة في صورة من صورها التقليدية أو المبتدعة.
فإن الشعبة التي يقودها سوريل ويقترح فيها إقامة النقابات مقام الحكومات تبني دعوتها كلها على العقيدة التي تسميها اﻟ myth وتؤمن بضرورتها لكل حركة إنسانية.
وإنما ينكر الفوضويون الديانات التي يتخذها المتسلطون ذريعة للسيطرة على الضعفاء، وهي من قبيل المذاهب التي قال عنها أبو العلاء:
إنما هذه المذاهب أسباب
لجلب الدنيا إلى الرؤساء
وليس برودون مؤسسها
كذلك يقال دائمًا إن برودون هو أبو الفوضوية وصاحب الدعوة الأولى إليها.
وهو قول صحيح إذا أريد به تنسيق الفلسفة وتطبيقها على النظم العصرية. ولكنه مع ذلك غير صحيح على إطلاقه في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
فالفيلسوف الرواقي زينون الذي نشأ في القرن الرابع قبل الميلاد كان يؤمن بالمجتمع المتحرر من السلطة ويفخر بأن تلاميذه يتعلمون منه أن يصنعوا طوعًا ما يصنعه سائر الرعايا مكرهين أو مهددين.
والمفكر الإنجليزي وليام جدوين Godwin الذي ظهر في القرن الثامن عشر شرح في كتابه عن «العدل السياسي» وسائل الحكم الذي يتوزع بين الهيئات ولا ينحصر في سلطة مركزية تملك وسائل الإرهاب والإكراه.
ويمكن أن يقال إن فلسفة الحكم منذ وجدت كانت تشتمل في كل عصر على مدرستين متقابلتين: مدرسة التوسع في سلطان الحكومة لتنظيم المجتمع، ومدرسة التضييق من هذا السلطان والاكتفاء منه بأقل ما يستطاع لحماية الأبرياء، وليست الفوضوية إلا تطرفًا في هذه المدرسة إلى أقصى اليسار، يدعو إليه تطرف الاستبداد على النحو الذي كان عليه قبل الثورة الفرنسية.
الوجوديات
أما الوجودية فالاضطراب في قواعدها أشد من الاضطراب في قواعد الفوضوية؛ لأنها وجوديات كثيرة لا وجودية واحدة، وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد والبلد الواحد كما يتناقض الإيمان العميق والإلحاد السافر، أو كما يتناقض الزهد والإباحية، ولعل الكثيرين لا يفهمون منها إلا اللغط عن الإباحية الأخلاقية المنطلقة من جميع القيود، فيقبلون عليها لأنها سند فلسفي يسوغون به ضعفهم وانحلالهم، وهم يخجلون — أو ينبغي أن يخجلوا — من الضعف والانحلال بغير سند منسوب إلى الفكر والفلسفة.
والأساس الصحيح الذي تقوم عليه الوجوديات السليمة هو إنصاف ضمير الفرد من طغيان الجماعة على استقلاله، ولكن الاستقلال كالمال يلزم الإنسان لأغراض كثيرة، فمنه ما يلزمه للعصمة من الزلل، ومنه ما يلزمه للتورط في الزلل وتيسير الذرائع إليه.
وأسوأ الوجوديات الإباحية لا يسوغ الانطلاق من قيود الآداب بغير نظر إلى العواقب والضحايا، فإذا اختار الوجودي أن يستوفي كيانه الفردي بإشباع شهواته فهو حر في اختياره واحتمال جرائر هواه، وهو حقيق أن يوازن بين الخطر والإحجام على علم بما يصيبه من المتعة وما يصاب به من الأذى، وتلك هي قيمة «الاختيار» الملائم في عرف هؤلاء الوجوديين.
أما المسوغ الفلسفي الذي يستند إليه الوجوديون الإباحيون فهو أسخف الإسناد الفلسفية التي ظهرت في عالم الفكر والعقيدة.
إنهم يقولون إن الوجود الحقيقي هو وجود الفرد المعروف بشخصه وكيانه، وإنما النوع كلمة أو لفظة أو خيال لا جود له في غير التصور، وليست «الإنسانية» إلا كلمة خاوية لا توجد بمعزل عن هذا الفرد وذاك الفرد أو هذا الإنسان وذلك الإنسان.
ومن هنا اسم الوجودية الذي ينتسبون إليه ويحسبونه تصويرًا للواقع لا مراء فيه.
إلا أن الواقع الذي لا مراء فيه أن النوع موجود في تركيب كل إنسان وإنسانة، وأنه ما من خلية في بنية الفرد لم يتمثل فيها النوع تمثيلًا أوفى وأعمق من تمثيل الفرد ذاته بجميع خصائصه ومقوماته.
ولقد ثبت ثبوت اليقين أن قوام البنية مرتبط بالغدد الصماء وغير الصماء، وأن علاقة هذه الغدد بالخصائص النوعية وثيقة جدًّا في عملها المنفصل وأعمالها التي تتعاون عليها.
وإذا كان تمثيل النوع حيويًّا أو «بيولوجيًّا» حقيقة لا ريب فيها فالتمثيل النفساني أو السيكولوجي تضارعها ثبوتًا ويقينًا إن لم تكن أبرز منها للوعي والشعور.
وعلى هذا لا يمكن أن يقال إن الفرد موجود حقيقي وإن النوع وهم ليس له وجود؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل فردًا مجردًا من الخصائص النوعية في كل خصلة من خصاله وكل خلجة من خلجات وعيه وشعوره، ومن قال إنه ينطلق على هواه ويمضي على رأسه غير مبال بمصير النوع إلى الفناء فعليه قبل كل شيء أن يخرج من دعوى «الوجودية» إلى دعوى «العدمية»، لأن فلسفته تقوده إلى فناء الفرد وفناء الإنسانية، حين يزعم أنه يبالي بحاضره ولا يبالي بمصيره ولا بمصير الإنسانية جمعاء.
وبعد فهذه الوجودية كلها شيء والمدارس الفوضوية كلها شيء آخر.
إن الوجودية لا تسري على الجماعة ولا تتجه إليها إلا من طريق الاتجاه إلى استقلال الفرد على حدة.
أما الفوضوية فهي جماعية قبل كل شيء، وهي حركة سياسية لا تنظر إلى الأفراد متفرقين ولا تبالي بهم مستقلين، وكلهم سواء عندها في ظل النظام الذي لا سلطة للطغاة عليه، وإذا اتفق الوجوديون والفوضويون في كراهة التسلط فقد يتضارب الفريقان إذا كانت المسألة مسألة طغيان الجماعة لا مسألة الطغيان من أصحاب السلطان.
أنا وجودي
وكاتب هذه السطور «وجودي» إذا كان معنى الوجودية إنصاف الضمير الفردي وتقديس الإنسان المستقل بفكره وخلقه. وعندنا أن الجماعة المثلى هي الجماعة التي تهيئ للفرد غاية ما يستطاع من الكرامة والاستقلال، وأنها إذا توقف وجودها على فناء الفرد ومحو استقلاله جماعة جديرة بالفناء.
إلا أن الوجودية التي تؤمن بوجود الفرد لينسى واجبه، ولا يذكر غير هواه ليست في الحق إلا عدمية باسمها وفعلها، وهي من المفارقات والأغاليط بالنسبة إلى الآحاد وإلى الأنواع والجماعات.
.......
المصدر: كتاب "أفيون الشعوب"