انتهت الحرب، وسُرِّحَ أبي بعد مدّة من الخدمة، المبلغ كان ينقصه القليل كي يتحرّر من الصّرّة، بعد أن انتعش شغل والدي قليلًا اكتمل المبلغ بسهولة، وزاد أيضًا عن المطلوب في انتظار إعلان حفل قريب، لكنّ كلّ الأخبار الواردة من "أمّ الدّنيا"...
في البرد أتذكّر أنفه الأحمر وقبّعته الّتي كانت رائجة بين مسنّي تلك الأيّام، والتي لم أعد أرى مثلها، بحثتُ طويلًا عن اسمها، صديقتي فاطمة قالت لي اسمها 'فيصليّة' ربّما. لماذا أجدادنا عجائز منذ صغرنا أمّا أجداد أولاد اليوم فيحملون الهواتف الذّكيّة، ولديهم أصدقاء افتراضيّون بفضل مواقع التّواصل الاجتماعيّ، ولا يضعون قبّعات ظريفة؟ على الرّغم من قضائي وقتًا طويلًا أتنقّل بين صور العائلة بالأبيض والأسود، لم أرَ له صورة واحدة مختلفة: الابتسامة ذاتها، الصّلعة ذاتها، الجسم الضّخم ذاته، القلب الطّفل ذاته، الأنف ذو العظمة المكسورة ذاته، الطّقم الرّسميّ ذاته، البيجاما المخطّطة ذاتها، النّظّارات السّميكة ذاتها. أغاني أمّ كلثوم ذاتها في الصّور أيضًا. أفكّر في أنّه ربّما تَعارَكَ في ما مضى مع الزّمن ثمّ أمسكه من رقبته بقبضته القويّة ولم يفلته.
كان ترتيب جدّي أبو أكرم الثّالث بين إخوته، أخوه الكبير، تركي، هاجر إلى البرازيل وصارت تصلهم منه رسالة كلّ سنتين، ومن ضمن أخباره الّتي نعرفها أنّه كان يملك حقول كاجو، لكنّ عددًا هائلًا من المشرّدين استوطن فيها ولم تعد تدرّ له الأموال. الأخت الثّانية، مريم، هاجرت مع أسرتها إلى الأرجنتين بحرًا، وظلّوا سنة وثمانية أشهر حتّى وصل خبر منهم. حين كنتُ طفلة زارتنا، لكنّها بعد أن سافرت انقطعت أخبارها لأسباب أجهلها. الأخت الصّغرى، نعيمة، تزوّجت مرّتين، لم تُرْزَق أولادًا، لكنّها رُزِقَت عاطفة جيشٍ من الأمّهات، وذاكرة ناصعة. في صِغَرِها ارتادت المدرسةَ مدّة شهرين، وبَقِيَتْ حتّى سنّ التّسعين تروي لنا أدقّ تفاصيل تلك المرحلة، وتُرَنْدِحُ لنا الأغاني والأشعار. كونها ترمّلت سريعًا في المرّتين، صارت بمثابة جدّة ثالثة لنا. جدّي كان يعمل نجّارًا وكان فنّانًا في مهنته، كلّ مفروشات العائلة من صنع يديه، وما زالت تحتفظ برونقها حتّى يومنا هذا. كان يعمل بتفانٍ مبالغ فيه، يضع أجود الأنواع ويأخذ وقته في صناعة القطعة بدقّة، مكتفيًا بالرّبح القليل، لذا كانت أحواله المادّيّة سيّئة.
زوجته – جدّتي - وأخته نعيمة كانتا تعملان في حياكة البُسُطِ المنقوشة على النّول اليدويّ القديم. أنا لم أرَ النّول ولم أكبر على ضجيجه، ما أذكره جيّدًا هي ماكينة الخياطة الـ 'سنجر' وقدمي جدّتي الحافيتين تصعدان وتهبطان محدثتين صوتًا يتردّد رجع صداه في فساتيني الصّغيرة، يدها المجعّدة تحرّك القماشة تحت الإبرة، المقصّ المعدنيّ المركون على خشبة الآلة، وكيف كان يثير الرّعب في قلب جدّتي إن تركناه مفتوحًا بالقدر ذاته الّذي تثيره فردة حذاء مقلوبة.
في تلك الأيّام، بناؤنا الحاليّ - المؤلّف من أربعة طوابق في كلّ منها شقّتان - كان عبارة عن بيت كبير بفسحة سماويّة تتوسّطها بحيرة، وفي القبو غرفة النّول. على مدار البيت تتوزّع الغرف الّتي يشغل إحداها جدّي وجدتي، الثّانية عمّتاي، والثّالثة أبي وأعمامي السّتّة! وغرفتان تتناوب عليهما عائلات مستأجِرة بأسعار زهيدة. ما تدرّه النّجارة والحياكة والآجار لم يكن كافيًا لتأمين حياة كريمة لأبي وإخوته الثّمانية، وتمكينهم من متابعة دراستهم. لذلك، ورغم تفوّقه، ترك أبي - الابن البكر - المدرسة حين كان عمره أحد عشر عامًا، وباشر حياته المهنيّة كأصغر ربّ عمل في العالم ربّما. وهذا ما جعله الأقرب إلى قلب جدّي، ورفيقه، علاوة على كونه بِكْرُه.
لدى العائلة، ورغم الحياة الصّعبة الّتي كانت تعاركها، شغف بالسّيّدة أمّ كلثوم، ما زال أبي يحتفظ حتّى اليوم بالفونوغراف وبالأسطوانات المؤرشفة بخطّ يده في دفتر ورقاته كبيرة ومقطّعة إلى مربّعات، حيث تجد تفاصيل كاملة تابعة لكلّ رقم موجود على الأسطوانة، من اسم الأغنية والكاتب والملحّن، سنة إصدارها، وفي أيّ استوديو كان التّسجيل أو في أيّ حفل، إضافة إلى ملخّصّ صغير حول القصّة الّتي تحملها الأغنية. يحتفظ أبي أيضًا برسائل كان يتبادلها مع عمّتي الكُبرى، أمل، حين كانت تدرس علم الأحياء في العاصمة، على الوجه الأوّل للرّسالة كانا يتبادلان الأخبار العائليّة في ظلّ صعوبة الاتّصالات الهاتفيّة في ذلك الوقت، وعلى الوجه الآخر كلمات أغنية جديدة للسّتّ.
فشل جدّي، بداية، بدفع أولاده بشكل محترف إلى الحيّز الطّربيّ الّذي يحبّه، فقط عمّتي أمل كانت تعزف بشكل متواضع على العود، وأبي خبير مقامات رفيع المستوى، تستطيع أن تقول إنّه مكتبة موسيقيّة تمشي على قدمين. من ثمّ فشل أبي أيضًا في زجّنا أنا وأخي داخل حلمه الموسيقيّ، أعتقد أنّ خطأه كان في اختياره آلة 'الميلوديكا' لي، فنَفَسي قصير جدًّا، ها أنا أنهزم قبل خطّ النّهاية دائمًا. بالإضافة إلى أنّني كنتُ طالبة كسولة، ويتجلّى ذلك اليوم عندما أقول عن كلّ ما أسمعه: مقامه 'صبا'. عدا ذلك، ألوم أبي وجدّي كثيرًا، فمن غير المعقول لطفلة صغيرة أن يكون مطربها المفضّل - من بعد السّتّ طبعًا - هو 'سيّد مكّاوي'! هل يعلمان المأزق الّذي وضعاها فيه عندما كَبُرَت وسط كلّ هذه الرّداءة؟!
كان كلّ الحيّ على علم بهوس هذه العائلة بـ 'كوكب الشّرق' ودورانها حولها كلّ مساء. الأصوات الوحيدة الّتي اعتاد الجيران سماعها من بيت العائلة كانت عبارة عن صيحات متصاعدة من قلب نشوة طربيّة: 'عظمة على عظمة يا ستّ'.
في سهرة من ليالي عام 1971، وحين كانت 'ثومة' – كما يحلو لهم أن ينادوها وكأنّها فرد من العائلة - تردّد: 'وسيبني أحلم سيبني،' رمى جدّي بقرار يشبه الأمر العسكريّ: سوف نجمع المال كي نذهب أنا وأكرم إلى مصر، ونحضر حفل أوّل خميس من الشّهر الّذي يلي اكتمال جمع المبلغ المطلوب للسّفر والحجوزات.
شرعت العائلة تطبّق قرار جدّي، ما رتّب عليه وعلى أكرم (والدي) زيادة عدد ساعات العمل، وعلى بقيّة الأفراد التّقنين في المصروف ما أمكن؛ أمّا جدّتي وعمّة أبي، نعيمة، فأَوْكَلَ إليهما مهمّة غريبة: حياكة مجموعة مناديل من أفخر أنواع القماش وبأبهى الألوان والنّقوش، كي يأخذها معه ويقدّمها هديّة لـ 'ثومة'. كلٌّ انخرط في إنجاز مهمّته، حتّى أعمامي صاروا يعملون خارج أوقات الدّراسة من أجل المساهمة في إنجاز ما سيكون حدثًا عظيمًا في حياة العائلة. رفض جدّي ما اقْتُرِحَ عليه من مراسلة أخيه وأخته في الخارج طلبًا للمساعدة. كان يقول إنّ أملاك أخيه ستجعله عاجزًا عن تقدير عظمة أمر بهذا الحجم والعمق، وبالنّسبة لأخته، فكان ينهي الموضوع وحسب، بالغموض ذاته الّذي صبغ انقطاع أخبارها. العمل استمرّ على مدى سنتين كانتا كافيتين ليقترب المبلغ المُدّخَر داخل صرّة في غرفة جدّي من الرّقم المطلوب.
فجأة، تغيّر كلّ شيء.
في ذلك الصّباح الغائم، كانت جدّتي تحضّر الزّاد لجدّي وأبي، بينما يستعدّان للخروج إلى العمل، وعمّتي تغلي القهوة، حين سمعوا قرعًا قويًّا على باب الدّار، خرج الجميع من غرفهم، حتّى المستأجرون. فتح عمّي الباب، فجاءهم صوت ثخين يقول: نريد التّكلّم مع أكرم، اتّجه أبي نحو الباب يرافقه جدّي، وعلى بعد خطوات منهما بقيّة العائلة تراقب بقلق، كان في الباب رجل يعرفونه تمامًا بشاربه الكثّ وطقمه السّفاري، إنّه مختار الحيّ، يرافقه رجل نحيل بلباس الشّرطة ويحمل في يده دفترًا. قال المختار: صباح الخير يا أبو أكرم... كيف حالك؟ لقد جاء قرار تجنيد ابنك أكرم للخدمة العسكريّة الإلزاميّة، وعليه أن يلتحق خلال أسبوع. أخرج الشّرطيّ النّحيل ورقة من الدّفتر وناولها لأبي سائلًا إيّاه سؤال العارف: أنت أكرم؟ وقّع على الدّفتر هنا. وسلّمه أمر التبليغ.
أغلق جدّي الباب خلف الرّجلين ودخل برفقة أبي والخبر الّذي جعل السّماء تبدو أكثر تغييمًا، مرّا بين نحيب النّساء والوجوه المتجهّمة الّتي عادت ولحقت بهما منتظرة ما سيقوله جدّي الّذي اكتفى بتوجيه الحديث إلى زوجته: أعطِنا الزّاد لقد تأخّرنا.
في سهرة ذلك اليوم، كان الكدر متربّعًا وسطهم، يستمع معهم إلى أمّ كلثوم الّتي بدا صوتها أكثر حزنًا. خاطبهم جدّي بصوت منخفض هذه المرّة: تعلمون أنّ التحاق أخيكم بالخدمة سيكون له تأثير سلبيّ على وضعنا الماليّ، لكن علينا ألاّ نقلق، فقد مررنا بظروف أصعب وتجاوزناها بالتّعاون مع بعضنا البعض، بالنّسبة لصرّة المال لن نأخذ منها ليرة واحدة مهما حصل، ستبقى على حالها في غرفتي إلى حين عودة أكرم، فأنا لن أحضر حفلًا للسّتّ من دونه مهما حصل. حاول أبي الاعتراض، لكنّ جدّي لم يسمح له.
توتّرت الأجواء داخل العائلة بسبب الضّيق المعنويّ والمادّيّ الّذي خلّفه رحيل أبي، بالإضافة إلى الأنباء المتتالية حول تأجيل وإلغاء الحفلات بسبب مرض 'ثومة'. وصول خبر حفلتها في الأيّام الأولى من عام 1973 ردّ التّفاؤل والعزيمة إلى العائلة الّتي عاودت إدارة دفّة حياتها نحو 'المحروسة'، مع وقف التّنفيذ طبعًا حتّى عودة أبي.
شهر أكتوبر كان الأشدّ قسوة على الإطلاق، اندلعت صفّارات الإنذار في المدينة، وطلى جدّي وأعمامي زجاج نوافذ الدّار والمصابيح باللّون الأزرق، بعد تزويد البيت بالمؤونة الكافية. بدأت في السّادس من هذا الشّهر حرب تشرين. كان أبي يقاتل على الجبهة السّوريّة، وصوت أمّ كلثوم على الجبهة المصريّة وفي صحن دار جدّي.
انتهت الحرب، وسُرِّحَ أبي بعد مدّة من الخدمة، المبلغ كان ينقصه القليل كي يتحرّر من الصّرّة، بعد أن انتعش شغل والدي قليلًا اكتمل المبلغ بسهولة، وزاد أيضًا عن المطلوب في انتظار إعلان حفل قريب، لكنّ كلّ الأخبار الواردة من 'أمّ الدّنيا' كانت تتحدّث عن الحالة الصّحّيّة الآخذة بالتّدهور لـ 'سيّدة الغناء العربيّ'.
استمرّت الأيّام تتعاقب على الانتظار المتنقّل بين وجوه أفراد العائلة وبين الصّحف والإذاعات، حتّى يوم 3 شباط 1975، عاد عمّي الأصغر من المدرسة راكضًا، دقّ باب الدّار بعنف شديد، فتحت له جدّتي مذعورة، قال لها وهو يلهث: يقولون إنّها ماتت، سمعت الرّجال الواقفين على زاوية الشّارع، يقولون اليوم رحلت، أمّ كلثوم رحلت، وانهار باكيًا هو وجدّتي. كان خبر رحيل 'كوكب الشّرق'، 'سيّدة الغناء العربيّ'، 'أمّ كلثوم'، 'السّتّ'، 'ثومة'، صفعة للعائلة وسهمًا اخترق قلب الانتظار. بعد الظّهر كان الكلّ حزينًا بعيون متورّمة تترقّب وصول جدّي وأبي، كانوا متأكّدين أنّهما علما بالخبر، وهذا ما جعل الخوف عليهما يستعر في القلوب. دخل جدّي كعادته برفقة والدي الّذي لا يمكنك إعطاء أيّ تفسير لملامحه، وكأنّه شخص آخر. وقف جدّي بقامته العالية وأنفه الأحمر ذي العظمة المكسورة وسط الدّار، عدّل قبّعته وأبلغهم بأعلى صوت قراره: غدًا سأسافر برفقة أكرم إلى مصر. نظر إلى جدّتي متابعًا: جهّزي لنا بقجة صغيرة تحتوي صرّة المال، والمناديل المطرّزة.
في اليوم التّالي غادرا، يودّعهما نشيج العائلة وصوت السّتّ يصدح: 'وكفاية أصحى على ابتسامتك بتقلّي عيش.'
في البرد أتذكّر أنفه الأحمر وقبّعته الّتي كانت رائجة بين مسنّي تلك الأيّام، والتي لم أعد أرى مثلها، بحثتُ طويلًا عن اسمها، صديقتي فاطمة قالت لي اسمها 'فيصليّة' ربّما. لماذا أجدادنا عجائز منذ صغرنا أمّا أجداد أولاد اليوم فيحملون الهواتف الذّكيّة، ولديهم أصدقاء افتراضيّون بفضل مواقع التّواصل الاجتماعيّ، ولا يضعون قبّعات ظريفة؟ على الرّغم من قضائي وقتًا طويلًا أتنقّل بين صور العائلة بالأبيض والأسود، لم أرَ له صورة واحدة مختلفة: الابتسامة ذاتها، الصّلعة ذاتها، الجسم الضّخم ذاته، القلب الطّفل ذاته، الأنف ذو العظمة المكسورة ذاته، الطّقم الرّسميّ ذاته، البيجاما المخطّطة ذاتها، النّظّارات السّميكة ذاتها. أغاني أمّ كلثوم ذاتها في الصّور أيضًا. أفكّر في أنّه ربّما تَعارَكَ في ما مضى مع الزّمن ثمّ أمسكه من رقبته بقبضته القويّة ولم يفلته.
كان ترتيب جدّي أبو أكرم الثّالث بين إخوته، أخوه الكبير، تركي، هاجر إلى البرازيل وصارت تصلهم منه رسالة كلّ سنتين، ومن ضمن أخباره الّتي نعرفها أنّه كان يملك حقول كاجو، لكنّ عددًا هائلًا من المشرّدين استوطن فيها ولم تعد تدرّ له الأموال. الأخت الثّانية، مريم، هاجرت مع أسرتها إلى الأرجنتين بحرًا، وظلّوا سنة وثمانية أشهر حتّى وصل خبر منهم. حين كنتُ طفلة زارتنا، لكنّها بعد أن سافرت انقطعت أخبارها لأسباب أجهلها. الأخت الصّغرى، نعيمة، تزوّجت مرّتين، لم تُرْزَق أولادًا، لكنّها رُزِقَت عاطفة جيشٍ من الأمّهات، وذاكرة ناصعة. في صِغَرِها ارتادت المدرسةَ مدّة شهرين، وبَقِيَتْ حتّى سنّ التّسعين تروي لنا أدقّ تفاصيل تلك المرحلة، وتُرَنْدِحُ لنا الأغاني والأشعار. كونها ترمّلت سريعًا في المرّتين، صارت بمثابة جدّة ثالثة لنا. جدّي كان يعمل نجّارًا وكان فنّانًا في مهنته، كلّ مفروشات العائلة من صنع يديه، وما زالت تحتفظ برونقها حتّى يومنا هذا. كان يعمل بتفانٍ مبالغ فيه، يضع أجود الأنواع ويأخذ وقته في صناعة القطعة بدقّة، مكتفيًا بالرّبح القليل، لذا كانت أحواله المادّيّة سيّئة.
زوجته – جدّتي - وأخته نعيمة كانتا تعملان في حياكة البُسُطِ المنقوشة على النّول اليدويّ القديم. أنا لم أرَ النّول ولم أكبر على ضجيجه، ما أذكره جيّدًا هي ماكينة الخياطة الـ 'سنجر' وقدمي جدّتي الحافيتين تصعدان وتهبطان محدثتين صوتًا يتردّد رجع صداه في فساتيني الصّغيرة، يدها المجعّدة تحرّك القماشة تحت الإبرة، المقصّ المعدنيّ المركون على خشبة الآلة، وكيف كان يثير الرّعب في قلب جدّتي إن تركناه مفتوحًا بالقدر ذاته الّذي تثيره فردة حذاء مقلوبة.
في تلك الأيّام، بناؤنا الحاليّ - المؤلّف من أربعة طوابق في كلّ منها شقّتان - كان عبارة عن بيت كبير بفسحة سماويّة تتوسّطها بحيرة، وفي القبو غرفة النّول. على مدار البيت تتوزّع الغرف الّتي يشغل إحداها جدّي وجدتي، الثّانية عمّتاي، والثّالثة أبي وأعمامي السّتّة! وغرفتان تتناوب عليهما عائلات مستأجِرة بأسعار زهيدة. ما تدرّه النّجارة والحياكة والآجار لم يكن كافيًا لتأمين حياة كريمة لأبي وإخوته الثّمانية، وتمكينهم من متابعة دراستهم. لذلك، ورغم تفوّقه، ترك أبي - الابن البكر - المدرسة حين كان عمره أحد عشر عامًا، وباشر حياته المهنيّة كأصغر ربّ عمل في العالم ربّما. وهذا ما جعله الأقرب إلى قلب جدّي، ورفيقه، علاوة على كونه بِكْرُه.
لدى العائلة، ورغم الحياة الصّعبة الّتي كانت تعاركها، شغف بالسّيّدة أمّ كلثوم، ما زال أبي يحتفظ حتّى اليوم بالفونوغراف وبالأسطوانات المؤرشفة بخطّ يده في دفتر ورقاته كبيرة ومقطّعة إلى مربّعات، حيث تجد تفاصيل كاملة تابعة لكلّ رقم موجود على الأسطوانة، من اسم الأغنية والكاتب والملحّن، سنة إصدارها، وفي أيّ استوديو كان التّسجيل أو في أيّ حفل، إضافة إلى ملخّصّ صغير حول القصّة الّتي تحملها الأغنية. يحتفظ أبي أيضًا برسائل كان يتبادلها مع عمّتي الكُبرى، أمل، حين كانت تدرس علم الأحياء في العاصمة، على الوجه الأوّل للرّسالة كانا يتبادلان الأخبار العائليّة في ظلّ صعوبة الاتّصالات الهاتفيّة في ذلك الوقت، وعلى الوجه الآخر كلمات أغنية جديدة للسّتّ.
فشل جدّي، بداية، بدفع أولاده بشكل محترف إلى الحيّز الطّربيّ الّذي يحبّه، فقط عمّتي أمل كانت تعزف بشكل متواضع على العود، وأبي خبير مقامات رفيع المستوى، تستطيع أن تقول إنّه مكتبة موسيقيّة تمشي على قدمين. من ثمّ فشل أبي أيضًا في زجّنا أنا وأخي داخل حلمه الموسيقيّ، أعتقد أنّ خطأه كان في اختياره آلة 'الميلوديكا' لي، فنَفَسي قصير جدًّا، ها أنا أنهزم قبل خطّ النّهاية دائمًا. بالإضافة إلى أنّني كنتُ طالبة كسولة، ويتجلّى ذلك اليوم عندما أقول عن كلّ ما أسمعه: مقامه 'صبا'. عدا ذلك، ألوم أبي وجدّي كثيرًا، فمن غير المعقول لطفلة صغيرة أن يكون مطربها المفضّل - من بعد السّتّ طبعًا - هو 'سيّد مكّاوي'! هل يعلمان المأزق الّذي وضعاها فيه عندما كَبُرَت وسط كلّ هذه الرّداءة؟!
كان كلّ الحيّ على علم بهوس هذه العائلة بـ 'كوكب الشّرق' ودورانها حولها كلّ مساء. الأصوات الوحيدة الّتي اعتاد الجيران سماعها من بيت العائلة كانت عبارة عن صيحات متصاعدة من قلب نشوة طربيّة: 'عظمة على عظمة يا ستّ'.
في سهرة من ليالي عام 1971، وحين كانت 'ثومة' – كما يحلو لهم أن ينادوها وكأنّها فرد من العائلة - تردّد: 'وسيبني أحلم سيبني،' رمى جدّي بقرار يشبه الأمر العسكريّ: سوف نجمع المال كي نذهب أنا وأكرم إلى مصر، ونحضر حفل أوّل خميس من الشّهر الّذي يلي اكتمال جمع المبلغ المطلوب للسّفر والحجوزات.
شرعت العائلة تطبّق قرار جدّي، ما رتّب عليه وعلى أكرم (والدي) زيادة عدد ساعات العمل، وعلى بقيّة الأفراد التّقنين في المصروف ما أمكن؛ أمّا جدّتي وعمّة أبي، نعيمة، فأَوْكَلَ إليهما مهمّة غريبة: حياكة مجموعة مناديل من أفخر أنواع القماش وبأبهى الألوان والنّقوش، كي يأخذها معه ويقدّمها هديّة لـ 'ثومة'. كلٌّ انخرط في إنجاز مهمّته، حتّى أعمامي صاروا يعملون خارج أوقات الدّراسة من أجل المساهمة في إنجاز ما سيكون حدثًا عظيمًا في حياة العائلة. رفض جدّي ما اقْتُرِحَ عليه من مراسلة أخيه وأخته في الخارج طلبًا للمساعدة. كان يقول إنّ أملاك أخيه ستجعله عاجزًا عن تقدير عظمة أمر بهذا الحجم والعمق، وبالنّسبة لأخته، فكان ينهي الموضوع وحسب، بالغموض ذاته الّذي صبغ انقطاع أخبارها. العمل استمرّ على مدى سنتين كانتا كافيتين ليقترب المبلغ المُدّخَر داخل صرّة في غرفة جدّي من الرّقم المطلوب.
فجأة، تغيّر كلّ شيء.
في ذلك الصّباح الغائم، كانت جدّتي تحضّر الزّاد لجدّي وأبي، بينما يستعدّان للخروج إلى العمل، وعمّتي تغلي القهوة، حين سمعوا قرعًا قويًّا على باب الدّار، خرج الجميع من غرفهم، حتّى المستأجرون. فتح عمّي الباب، فجاءهم صوت ثخين يقول: نريد التّكلّم مع أكرم، اتّجه أبي نحو الباب يرافقه جدّي، وعلى بعد خطوات منهما بقيّة العائلة تراقب بقلق، كان في الباب رجل يعرفونه تمامًا بشاربه الكثّ وطقمه السّفاري، إنّه مختار الحيّ، يرافقه رجل نحيل بلباس الشّرطة ويحمل في يده دفترًا. قال المختار: صباح الخير يا أبو أكرم... كيف حالك؟ لقد جاء قرار تجنيد ابنك أكرم للخدمة العسكريّة الإلزاميّة، وعليه أن يلتحق خلال أسبوع. أخرج الشّرطيّ النّحيل ورقة من الدّفتر وناولها لأبي سائلًا إيّاه سؤال العارف: أنت أكرم؟ وقّع على الدّفتر هنا. وسلّمه أمر التبليغ.
أغلق جدّي الباب خلف الرّجلين ودخل برفقة أبي والخبر الّذي جعل السّماء تبدو أكثر تغييمًا، مرّا بين نحيب النّساء والوجوه المتجهّمة الّتي عادت ولحقت بهما منتظرة ما سيقوله جدّي الّذي اكتفى بتوجيه الحديث إلى زوجته: أعطِنا الزّاد لقد تأخّرنا.
في سهرة ذلك اليوم، كان الكدر متربّعًا وسطهم، يستمع معهم إلى أمّ كلثوم الّتي بدا صوتها أكثر حزنًا. خاطبهم جدّي بصوت منخفض هذه المرّة: تعلمون أنّ التحاق أخيكم بالخدمة سيكون له تأثير سلبيّ على وضعنا الماليّ، لكن علينا ألاّ نقلق، فقد مررنا بظروف أصعب وتجاوزناها بالتّعاون مع بعضنا البعض، بالنّسبة لصرّة المال لن نأخذ منها ليرة واحدة مهما حصل، ستبقى على حالها في غرفتي إلى حين عودة أكرم، فأنا لن أحضر حفلًا للسّتّ من دونه مهما حصل. حاول أبي الاعتراض، لكنّ جدّي لم يسمح له.
توتّرت الأجواء داخل العائلة بسبب الضّيق المعنويّ والمادّيّ الّذي خلّفه رحيل أبي، بالإضافة إلى الأنباء المتتالية حول تأجيل وإلغاء الحفلات بسبب مرض 'ثومة'. وصول خبر حفلتها في الأيّام الأولى من عام 1973 ردّ التّفاؤل والعزيمة إلى العائلة الّتي عاودت إدارة دفّة حياتها نحو 'المحروسة'، مع وقف التّنفيذ طبعًا حتّى عودة أبي.
شهر أكتوبر كان الأشدّ قسوة على الإطلاق، اندلعت صفّارات الإنذار في المدينة، وطلى جدّي وأعمامي زجاج نوافذ الدّار والمصابيح باللّون الأزرق، بعد تزويد البيت بالمؤونة الكافية. بدأت في السّادس من هذا الشّهر حرب تشرين. كان أبي يقاتل على الجبهة السّوريّة، وصوت أمّ كلثوم على الجبهة المصريّة وفي صحن دار جدّي.
انتهت الحرب، وسُرِّحَ أبي بعد مدّة من الخدمة، المبلغ كان ينقصه القليل كي يتحرّر من الصّرّة، بعد أن انتعش شغل والدي قليلًا اكتمل المبلغ بسهولة، وزاد أيضًا عن المطلوب في انتظار إعلان حفل قريب، لكنّ كلّ الأخبار الواردة من 'أمّ الدّنيا' كانت تتحدّث عن الحالة الصّحّيّة الآخذة بالتّدهور لـ 'سيّدة الغناء العربيّ'.
استمرّت الأيّام تتعاقب على الانتظار المتنقّل بين وجوه أفراد العائلة وبين الصّحف والإذاعات، حتّى يوم 3 شباط 1975، عاد عمّي الأصغر من المدرسة راكضًا، دقّ باب الدّار بعنف شديد، فتحت له جدّتي مذعورة، قال لها وهو يلهث: يقولون إنّها ماتت، سمعت الرّجال الواقفين على زاوية الشّارع، يقولون اليوم رحلت، أمّ كلثوم رحلت، وانهار باكيًا هو وجدّتي. كان خبر رحيل 'كوكب الشّرق'، 'سيّدة الغناء العربيّ'، 'أمّ كلثوم'، 'السّتّ'، 'ثومة'، صفعة للعائلة وسهمًا اخترق قلب الانتظار. بعد الظّهر كان الكلّ حزينًا بعيون متورّمة تترقّب وصول جدّي وأبي، كانوا متأكّدين أنّهما علما بالخبر، وهذا ما جعل الخوف عليهما يستعر في القلوب. دخل جدّي كعادته برفقة والدي الّذي لا يمكنك إعطاء أيّ تفسير لملامحه، وكأنّه شخص آخر. وقف جدّي بقامته العالية وأنفه الأحمر ذي العظمة المكسورة وسط الدّار، عدّل قبّعته وأبلغهم بأعلى صوت قراره: غدًا سأسافر برفقة أكرم إلى مصر. نظر إلى جدّتي متابعًا: جهّزي لنا بقجة صغيرة تحتوي صرّة المال، والمناديل المطرّزة.
في اليوم التّالي غادرا، يودّعهما نشيج العائلة وصوت السّتّ يصدح: 'وكفاية أصحى على ابتسامتك بتقلّي عيش.'