..ستمائة وواحد وثلاثون..رقم ، أعادني إلى ذكرى..ليست بعيدة جدا، لم أكن قد نسيتها لكنني لم أتذكرها من قبل أيضا .. غير أنها – كما عرفت فيما بعد- هي مصدر الرقم (631) الذي تمحورت حياتي حوله وامتلأت بالشغف..! طوال أسابيع، وهي مدة طويلة بالنسبة لرقم..لا يحمل هو أيضا أي مغزى خاص !
قادني البحث إلى ضالتي وأطاح بالشغف..الذي أخرجني من حياتي الاعتيادية إلى حياة مضاعفة كادت تتجسد قبالتي وذلك قبل أن أعثر على الحقيقة التي بحثت عنها- أنا نفسي- فعدت إلى حياتي الرتيبة..
لدي ذاكرة قوية..فيما يتعلق بالمضامين، لكنها مليئة بالثغرات – يعرف أصدقائي هذا جيدا – عندما يتعلق الأمر بالأسماء والعناوين فأنا أنسى..حتى أسماء وعناوين الموضوعات التي أتذكرها وأحفظها غيبا..! طبعا لا أنسى أن (بيتهوفن) هو مؤلف السيمفونية التاسعة..ولا الفيلسوف الذي وقف في وادي (الانغادين ) و أحس بأنه وقف ألف مرة قبل ذلك ورأى المشهد نفسه ، وأنه في كل مرة أحس بأنه وقف ألف مرة سابقة...لايمكن أن أنسى اسمه...فقد يكون أنا..أو أي شخص غيري .. ولمرة واحدة من: ألف ضرب ألف .. مرة..! "على عمق ستة آلاف قدم.." أنه أمر يبعث على الدوار لكن الحياة الإنسانية تستحق..
(ريتا هيوارث) أو(غريتا غاربو) أو (إنغريد برغمان) .. لا أستطيع أن أطابق الأسماء مع الصور.. كلهن جميلات ومتشابهات ؟!! وقررت أن أدون الأسماء في مفكرة صغيرة.. للحالات الطارئة ، وماذا كانت النتيجة..؟ البلبلة والفوضى لي وللآخرين..
..في أحد الأيام ، خرجت أمشي مساء دون هدف في الزحام..وأضواء المحلات ..وبدأ رذاذ من المطر، حاذيت الواجهات المضاءة فوق الرصيف وازداد هطول المطر ، وقرأت عَرَضاً إعلانا عن محاضرة بتاريخ قادم (.....) يوافق- بالصدفة- اليوم نفسه..توجهت إلى المكان المعلن عنه وأنا أحتمي من المطر، كانت توقعاتي في محلها : الصالة دافئة ، الجمهور قليل العدد مبعثر في القاعة ، الرجل المشرف على المشهد خلف المنبر يلقي محاضرته ، أخذت مقعدا بعيدا وشيئا فشيئا رحت أنزلق في المقعد الوثير و.. شردت مع صوت المحاضر ولكن بعيدا عن المحاضرة في الوقت نفسه..ودخلت في حالة من الاسترخاء ، وفجأة ..أفضت بي الحالة إلى نوع من اليقظة رغم أنني لم أكن نائما .."على مسافة ستة آلاف قدم خلف حدود الزمان والمكان.."وبدأ صوت المحاضر يدخل مجالا في عقلي ونفسي غير مجال المحاضرة - والتي فاتني الجزء الأكبر منها أثناء شرودي- وذلك حين ذكر الرقم ستمائة وواحد وثلاثين ، كما لو أنني عشت هذه اللحظة في زمن آخر و.. مستسلما للحالة الغريبة دون مقاومة..وجدت نفسي منساقا إلى توقع ما سيقوله المحاضر كلمة..كلمة..حول : الحصار و المذبحة و.. الضحايا من المدنيين الذين يفترض أنهم محميين داخل المعسكر.. فكان صوته مثل صدى لأفكاري وتوقعاتي..
كانت تلك بداية ما أسميته (الشغف) لبضعة أسابيع ، خرجت مستثارا ومشيت على نفس الطريق ، وأعدت قراءة النسخ المكررة للإعلان على أعمدة الشارع: اسم المحاضر (....) وعنوان المحاضرة: (..الذكرى السنوية الأولى...) ولم أستطع النوم بسهولة تلك الليلة بسبب الهياج الداخلي:كيف عرفت معلومات لم يسبق لي أن سمعتها؟ هل عشت حياة أخرى ؟.. هل أحمل ذاكرة إنسان آخر ؟ رغم أننا عالقون في شبكة من التفاهة- مثل خيوط العنكبوت- شبكة واهية لا تمنعنا من السقوط في عمق الحياة عند أول اهتزاز.. لكنني سأحتفظ بالسر لنفسي...
وذات يوم ، بينما كنت أهم بالنوم ومضت في ذهني ذكرى كالحلم وأنا بين النوم واليقظة ، رأيت الرقم 631 مرتبطا بصديق ورأيت بيته الريفي و...في اليوم التالي بحثت عن رقم هاتفه..حين عدت للمفكرة المهجورة : (يا إلهي ..أرقام وأسماء.. لوكانوس..؟من هذا.. تواريخ وأرقام تليفونات.. سبتمبر.. وأخيرا وجدت الرقم و..) كان في منزله في المدينة ..في الطريق إليه تذكرت السنوات الماضية..كنا- نحن الوافدون إلى دمشق- نلتقي دوما، وفي تلك الحقبة اشترى صديقي هذا منزلا في ريف العاصمة، تحيطه حديقة مهملة وقد اصطحبني معه قبل أن يقيم فيه إقامة كاملة ولم يكن قد نقل كل احتياجاته إليه.. أمضينا يوما في المنزل الجديد، وحين قادني إلى الغرفة التي سأنام فيها ، وجدت كتابا قرب السرير – وهو أمر يناسبني تماما- لأنني أقرأ في أي كتاب بضعة صفحات قبل النوم..فتحت الكتاب من وسطه .. لكنني قرأت صفحات كثيرة فالحر والبعوض منعاني من النوم حتى الصباح ، وعندما استيقظت ، ضحك صديقي ما إن رآني كان وجهي ممتلئا بالبقع الحمراء من لسعات البعوض..وقال:"..لا تتوقع أن تمضي ليلة في ريف جميل دون ثمن .." فقلت :"..لكنه ثمن فادح ".. وباعدت ظروف الحياة بيننا ، سنوات ..ومع عودتي لأطرق باب صديقي ، فأنه رحب بي ..لكنه انتظر أن أدخل مباشرة في الموضوع الذي أعادني بعد انقطاع طويل.. ولم أكن مصرا على المجاملات..
..وحكيت له القصة ..وفي هذه الأثناء كانت ظنوني عن مصدر الرقم قد أضحت يقينا..وقال:
-"...وأنت لا تتذكر عنوان الكتاب..؟"- وأضاف هو مؤكدا :"..ولا تتذكر اسم المؤلف ..طبعا...؟"
-"...هل ستساعدني..؟" قلت..
-"...أساعدك ولكن ، لا تدخلني في متاهة..."
ووافقت،كما وافق أن نبدأ البحث فورا..واقترح، طالما أنه نقل مكتبته كلها للمنزل الريفي، فمن الأسهل أن نبدأ من المحاضرة التي لم يمض عليها سوى أسابيع ، قبل البحث بين مئات الكتب عن كتاب قرأته قبل سنين ..وسألني عن عنوان المحاضرة.. لم يكن سؤالا يخدم قضيتي... ، أنا الذي قرأت إعلانات المحاضرة في الذهاب والإياب لا أتذكر أي شيء عنها : ماعدا موضوعها ..لا عنوانها ولا أسم المحاضر..وقف صديقي – الذي كان جالسا- وكبت غيظه ..وقال لي أنني لا أعرف ما الذي أبحث عنه..؟! حاولت تهدئته..وأكدت له أنني لا أطلب سوى مجاراتي وسوف أصل لشيء... صحيح، أن الحياة الأخرى وذاكرة الرجل الآخر، بدأت تتبخر أي محتويات الشغف كلها لكن يبقى أمر غريب وغامض ، كيف تطابقت معلومات عن وقائع العام الماضي فقط بما قرأته قبل سنوات في كتاب مضت سنوات سابقة على تأليفه..؟ وافق ، دون اقتناع..على أن نذهب في الغد إلى الريف...
في اليوم التالي عدت متهللا..عندي جديد ..قلت لصديقي أن مساحة البحث قد ضاقت ، لأن العقل يحصل على المعلومات ويمحو آثار الطريق التي مشى عليها.. فالمعلومات في ذهني بالعربية ، لكنني - وهنا المفاجأة- تذكرت أنني قرأتها في كتاب أجنبي باللغة الإنكليزية..للحقيقة شعر صديقي بالرضا عن هذا التطور..والآن ليس علينا البحث إلا في بضعة كتب ألا تلاحظ ..؟ ما عدد الكتب الأجنبية في مكتبتك..؟ سوف أفتح الكتاب من وسطه وأبحث عن الرقم :631)) باللاتينية...مع أنها هي الأرقام العربية في الأصل..هذه عادة التاريخ ..يستبدل شيئا بشيء ويبقى نفسه... أيد أقوالي فيما يتعلق بالعدد المحدود من الكتب غير المترجمة في مكتبته مع اعتراض صغير :
-"...تقول علينا البحث ..مع أنك سوف تبحث وحدك..."
ولم أمانع فقد أحسست - على العكس منه- أن البحث لن يستغرق وقتا فأنا لا أشك بذاكرتي فيما يتعلق بالموضوعات..أقصد لب الموضوعات... وصلنا إلى البيت الريفي وكنا في الشتاء تقريبا..انشغل هو بإشعال الموقد بينما وقفت أمام المكتبة..وبدأتُ .. أعدَّ – هو- القهوة ، بينما أخذت بتقليب الكتب ..وأخذ صديقي يقرأ في كتاب حديث لكنه يحمل عنوانا قديما : ( إسماعيل ) ، انتزعه من المكتبة لكي يشغل نفسه عما أقوم به ، وهو ديوان شعر من تأليف شاعر معاصر لم أكن مضطرا لنسيان اسمه فهو يحمل اسما مستعارا ومشهورا ، وفي اللحظة صرخت على صديقي مستغربا... كنت قد وجدت الرقم باللاتينية..وعندما حاولت أن أقرأ...اكتشفت أنه كتاب بالفرنسية التي لا أعرفها بينما كان صديقي على إلمام بها:
-" عثرت على الرقم ولكن ..انظر.." ،
أخذ الكتاب وقرأ حول الرقم وهذا ما ترجمه لي: (في عام 1791 ..خسر الجيش الفدرالي 631 قتيلا في معركة مع الهنود الحمر في..little big horn) ورفع رأسه مذهولا بينما ضحكت أنا ..أليس أمرا غامضا..؟ وتركته تحت وقع المفاجأة..فهمنا معا أنه لا يمكن أن يكون الكتاب الذي أبحث عنه فأنا لا أتقن الفرنسية ومع ذلك تطابقت المعلومات..
أغلق الكتاب لكي يقرأ ما كتب على الغلاف:(claud julien:lerve et l histoire) ...ولم نعثر على ( مذبحة سبتمبر) ..تركته مندهشا وواصلت البحث مع مراعاة أن تكون الكتب بالإنكليزية..ووجدت مذبحة سبتمبر في : ( bury my heart at wounded knee / by : DEE BROWN )
ورحت أنا أترجم إلى العربية ما كتبه أحد الضباط البيض في صباح يوم مشمس ومنعش – على حد تعبير الكتاب- من أيام (سبتمبر ) عام ( 1861) : " ... كان النافاهو من رجال ونساء وأطفال يركضون في كل الاتجاهات وكانوا يرمون بالرصاص و يقتلون بالحراب ..ورأيت جنديا يغتال طفلين وامرأة . صرخت آمرا إياه بالتوقف ، فنظر إلي ولكنه لم يطع أمري . ركضت بأسرع ما أستطيع ولكني لم أستطع الوصول بالسرعة الكافية، حيث كان قد قتل الطفلين وجرح المرأة جرحا بليغا. أمرت بأن يجرد من سلاحه وأن يسجن...في هذه الأثناء كان الكولونيل قد أمر الضابط اليومي بإخراج المدافع (هاوتزر ) وفتحها على الهنود...وبعد المذبحة لم نر أي هنود حوالي الحصن، عدا بعض النساء..)..
كان صديقي قد أصبح أكثر انصياعا لطريقتي في البحث، أصغى باهتمام وقال: " لحظة.. أظن أنني اقتنيت العام الماضي نسخة مترجمة إلى العربية من الكتاب نفسه ".. دارت عيناه على رفوف الكتب ثم مد يده وانتزع كتابا.. أمسكناه معا وقرأنا ما كتب على الغلاف.. تركت صديقي يتوصل – بنفسه- إلى أن بحثنا تحول إلى نوع من البحث الروحي لا الأكاديمي ..وذلك دون أن أتفوه بكلمة، كانت نهاية المطاف...
ركبنا السيارة عائدين إلى دمشق ..كنت مزهوا وفارغا من الأفكار تقريبا، وبين الحين والآخر كنت أنظر إلى صديقي وهو صامت يفكر ..عندما نزلت من السيارة قرب منزلي صرخ بي :
-" انتظر..أنت لم تدون المعلومات؟"
-" ما حاجتي إليها..لن أدونها "
-"لكنك سوف تنساها.."
- " سوف أنساها بالتأكيد..لكن ..سوف تتذكرها أنت..إلى اللقاء"!
ضحكت وأنا أصعد سلم المبنى..وإذا لم تكن حالتي المختلطة، وليس: ( لوكانوس..) ، فمن هو قائل هذه العبارة التي طرقت ذهني بوضوح وأنا أدخل البيت : " الخوف...هو الشغف الوحيد في حياتي..!!" ليست ذاكرة صديقي سيئة..لقد تذكر اقتناءه للنسخة المترجمة ..التي كان عنوانها يختلف قليلا عن عنوان النسخة الإنكليزية ، وهذه هي المعلومات المدونة على غلاف النسخة العربية : (( تاريخ الهنود الحمر/ المؤلف: دي براون/ المترجم توفيق الأسدي : فلسطيني/ إصدار الترجمة: عام 1982..))..
* * *
- هامش: عدد قتلى الجيش الإسرائيلي في حرب بيروت هو 631.
قادني البحث إلى ضالتي وأطاح بالشغف..الذي أخرجني من حياتي الاعتيادية إلى حياة مضاعفة كادت تتجسد قبالتي وذلك قبل أن أعثر على الحقيقة التي بحثت عنها- أنا نفسي- فعدت إلى حياتي الرتيبة..
لدي ذاكرة قوية..فيما يتعلق بالمضامين، لكنها مليئة بالثغرات – يعرف أصدقائي هذا جيدا – عندما يتعلق الأمر بالأسماء والعناوين فأنا أنسى..حتى أسماء وعناوين الموضوعات التي أتذكرها وأحفظها غيبا..! طبعا لا أنسى أن (بيتهوفن) هو مؤلف السيمفونية التاسعة..ولا الفيلسوف الذي وقف في وادي (الانغادين ) و أحس بأنه وقف ألف مرة قبل ذلك ورأى المشهد نفسه ، وأنه في كل مرة أحس بأنه وقف ألف مرة سابقة...لايمكن أن أنسى اسمه...فقد يكون أنا..أو أي شخص غيري .. ولمرة واحدة من: ألف ضرب ألف .. مرة..! "على عمق ستة آلاف قدم.." أنه أمر يبعث على الدوار لكن الحياة الإنسانية تستحق..
(ريتا هيوارث) أو(غريتا غاربو) أو (إنغريد برغمان) .. لا أستطيع أن أطابق الأسماء مع الصور.. كلهن جميلات ومتشابهات ؟!! وقررت أن أدون الأسماء في مفكرة صغيرة.. للحالات الطارئة ، وماذا كانت النتيجة..؟ البلبلة والفوضى لي وللآخرين..
..في أحد الأيام ، خرجت أمشي مساء دون هدف في الزحام..وأضواء المحلات ..وبدأ رذاذ من المطر، حاذيت الواجهات المضاءة فوق الرصيف وازداد هطول المطر ، وقرأت عَرَضاً إعلانا عن محاضرة بتاريخ قادم (.....) يوافق- بالصدفة- اليوم نفسه..توجهت إلى المكان المعلن عنه وأنا أحتمي من المطر، كانت توقعاتي في محلها : الصالة دافئة ، الجمهور قليل العدد مبعثر في القاعة ، الرجل المشرف على المشهد خلف المنبر يلقي محاضرته ، أخذت مقعدا بعيدا وشيئا فشيئا رحت أنزلق في المقعد الوثير و.. شردت مع صوت المحاضر ولكن بعيدا عن المحاضرة في الوقت نفسه..ودخلت في حالة من الاسترخاء ، وفجأة ..أفضت بي الحالة إلى نوع من اليقظة رغم أنني لم أكن نائما .."على مسافة ستة آلاف قدم خلف حدود الزمان والمكان.."وبدأ صوت المحاضر يدخل مجالا في عقلي ونفسي غير مجال المحاضرة - والتي فاتني الجزء الأكبر منها أثناء شرودي- وذلك حين ذكر الرقم ستمائة وواحد وثلاثين ، كما لو أنني عشت هذه اللحظة في زمن آخر و.. مستسلما للحالة الغريبة دون مقاومة..وجدت نفسي منساقا إلى توقع ما سيقوله المحاضر كلمة..كلمة..حول : الحصار و المذبحة و.. الضحايا من المدنيين الذين يفترض أنهم محميين داخل المعسكر.. فكان صوته مثل صدى لأفكاري وتوقعاتي..
كانت تلك بداية ما أسميته (الشغف) لبضعة أسابيع ، خرجت مستثارا ومشيت على نفس الطريق ، وأعدت قراءة النسخ المكررة للإعلان على أعمدة الشارع: اسم المحاضر (....) وعنوان المحاضرة: (..الذكرى السنوية الأولى...) ولم أستطع النوم بسهولة تلك الليلة بسبب الهياج الداخلي:كيف عرفت معلومات لم يسبق لي أن سمعتها؟ هل عشت حياة أخرى ؟.. هل أحمل ذاكرة إنسان آخر ؟ رغم أننا عالقون في شبكة من التفاهة- مثل خيوط العنكبوت- شبكة واهية لا تمنعنا من السقوط في عمق الحياة عند أول اهتزاز.. لكنني سأحتفظ بالسر لنفسي...
وذات يوم ، بينما كنت أهم بالنوم ومضت في ذهني ذكرى كالحلم وأنا بين النوم واليقظة ، رأيت الرقم 631 مرتبطا بصديق ورأيت بيته الريفي و...في اليوم التالي بحثت عن رقم هاتفه..حين عدت للمفكرة المهجورة : (يا إلهي ..أرقام وأسماء.. لوكانوس..؟من هذا.. تواريخ وأرقام تليفونات.. سبتمبر.. وأخيرا وجدت الرقم و..) كان في منزله في المدينة ..في الطريق إليه تذكرت السنوات الماضية..كنا- نحن الوافدون إلى دمشق- نلتقي دوما، وفي تلك الحقبة اشترى صديقي هذا منزلا في ريف العاصمة، تحيطه حديقة مهملة وقد اصطحبني معه قبل أن يقيم فيه إقامة كاملة ولم يكن قد نقل كل احتياجاته إليه.. أمضينا يوما في المنزل الجديد، وحين قادني إلى الغرفة التي سأنام فيها ، وجدت كتابا قرب السرير – وهو أمر يناسبني تماما- لأنني أقرأ في أي كتاب بضعة صفحات قبل النوم..فتحت الكتاب من وسطه .. لكنني قرأت صفحات كثيرة فالحر والبعوض منعاني من النوم حتى الصباح ، وعندما استيقظت ، ضحك صديقي ما إن رآني كان وجهي ممتلئا بالبقع الحمراء من لسعات البعوض..وقال:"..لا تتوقع أن تمضي ليلة في ريف جميل دون ثمن .." فقلت :"..لكنه ثمن فادح ".. وباعدت ظروف الحياة بيننا ، سنوات ..ومع عودتي لأطرق باب صديقي ، فأنه رحب بي ..لكنه انتظر أن أدخل مباشرة في الموضوع الذي أعادني بعد انقطاع طويل.. ولم أكن مصرا على المجاملات..
..وحكيت له القصة ..وفي هذه الأثناء كانت ظنوني عن مصدر الرقم قد أضحت يقينا..وقال:
-"...وأنت لا تتذكر عنوان الكتاب..؟"- وأضاف هو مؤكدا :"..ولا تتذكر اسم المؤلف ..طبعا...؟"
-"...هل ستساعدني..؟" قلت..
-"...أساعدك ولكن ، لا تدخلني في متاهة..."
ووافقت،كما وافق أن نبدأ البحث فورا..واقترح، طالما أنه نقل مكتبته كلها للمنزل الريفي، فمن الأسهل أن نبدأ من المحاضرة التي لم يمض عليها سوى أسابيع ، قبل البحث بين مئات الكتب عن كتاب قرأته قبل سنين ..وسألني عن عنوان المحاضرة.. لم يكن سؤالا يخدم قضيتي... ، أنا الذي قرأت إعلانات المحاضرة في الذهاب والإياب لا أتذكر أي شيء عنها : ماعدا موضوعها ..لا عنوانها ولا أسم المحاضر..وقف صديقي – الذي كان جالسا- وكبت غيظه ..وقال لي أنني لا أعرف ما الذي أبحث عنه..؟! حاولت تهدئته..وأكدت له أنني لا أطلب سوى مجاراتي وسوف أصل لشيء... صحيح، أن الحياة الأخرى وذاكرة الرجل الآخر، بدأت تتبخر أي محتويات الشغف كلها لكن يبقى أمر غريب وغامض ، كيف تطابقت معلومات عن وقائع العام الماضي فقط بما قرأته قبل سنوات في كتاب مضت سنوات سابقة على تأليفه..؟ وافق ، دون اقتناع..على أن نذهب في الغد إلى الريف...
في اليوم التالي عدت متهللا..عندي جديد ..قلت لصديقي أن مساحة البحث قد ضاقت ، لأن العقل يحصل على المعلومات ويمحو آثار الطريق التي مشى عليها.. فالمعلومات في ذهني بالعربية ، لكنني - وهنا المفاجأة- تذكرت أنني قرأتها في كتاب أجنبي باللغة الإنكليزية..للحقيقة شعر صديقي بالرضا عن هذا التطور..والآن ليس علينا البحث إلا في بضعة كتب ألا تلاحظ ..؟ ما عدد الكتب الأجنبية في مكتبتك..؟ سوف أفتح الكتاب من وسطه وأبحث عن الرقم :631)) باللاتينية...مع أنها هي الأرقام العربية في الأصل..هذه عادة التاريخ ..يستبدل شيئا بشيء ويبقى نفسه... أيد أقوالي فيما يتعلق بالعدد المحدود من الكتب غير المترجمة في مكتبته مع اعتراض صغير :
-"...تقول علينا البحث ..مع أنك سوف تبحث وحدك..."
ولم أمانع فقد أحسست - على العكس منه- أن البحث لن يستغرق وقتا فأنا لا أشك بذاكرتي فيما يتعلق بالموضوعات..أقصد لب الموضوعات... وصلنا إلى البيت الريفي وكنا في الشتاء تقريبا..انشغل هو بإشعال الموقد بينما وقفت أمام المكتبة..وبدأتُ .. أعدَّ – هو- القهوة ، بينما أخذت بتقليب الكتب ..وأخذ صديقي يقرأ في كتاب حديث لكنه يحمل عنوانا قديما : ( إسماعيل ) ، انتزعه من المكتبة لكي يشغل نفسه عما أقوم به ، وهو ديوان شعر من تأليف شاعر معاصر لم أكن مضطرا لنسيان اسمه فهو يحمل اسما مستعارا ومشهورا ، وفي اللحظة صرخت على صديقي مستغربا... كنت قد وجدت الرقم باللاتينية..وعندما حاولت أن أقرأ...اكتشفت أنه كتاب بالفرنسية التي لا أعرفها بينما كان صديقي على إلمام بها:
-" عثرت على الرقم ولكن ..انظر.." ،
أخذ الكتاب وقرأ حول الرقم وهذا ما ترجمه لي: (في عام 1791 ..خسر الجيش الفدرالي 631 قتيلا في معركة مع الهنود الحمر في..little big horn) ورفع رأسه مذهولا بينما ضحكت أنا ..أليس أمرا غامضا..؟ وتركته تحت وقع المفاجأة..فهمنا معا أنه لا يمكن أن يكون الكتاب الذي أبحث عنه فأنا لا أتقن الفرنسية ومع ذلك تطابقت المعلومات..
أغلق الكتاب لكي يقرأ ما كتب على الغلاف:(claud julien:lerve et l histoire) ...ولم نعثر على ( مذبحة سبتمبر) ..تركته مندهشا وواصلت البحث مع مراعاة أن تكون الكتب بالإنكليزية..ووجدت مذبحة سبتمبر في : ( bury my heart at wounded knee / by : DEE BROWN )
ورحت أنا أترجم إلى العربية ما كتبه أحد الضباط البيض في صباح يوم مشمس ومنعش – على حد تعبير الكتاب- من أيام (سبتمبر ) عام ( 1861) : " ... كان النافاهو من رجال ونساء وأطفال يركضون في كل الاتجاهات وكانوا يرمون بالرصاص و يقتلون بالحراب ..ورأيت جنديا يغتال طفلين وامرأة . صرخت آمرا إياه بالتوقف ، فنظر إلي ولكنه لم يطع أمري . ركضت بأسرع ما أستطيع ولكني لم أستطع الوصول بالسرعة الكافية، حيث كان قد قتل الطفلين وجرح المرأة جرحا بليغا. أمرت بأن يجرد من سلاحه وأن يسجن...في هذه الأثناء كان الكولونيل قد أمر الضابط اليومي بإخراج المدافع (هاوتزر ) وفتحها على الهنود...وبعد المذبحة لم نر أي هنود حوالي الحصن، عدا بعض النساء..)..
كان صديقي قد أصبح أكثر انصياعا لطريقتي في البحث، أصغى باهتمام وقال: " لحظة.. أظن أنني اقتنيت العام الماضي نسخة مترجمة إلى العربية من الكتاب نفسه ".. دارت عيناه على رفوف الكتب ثم مد يده وانتزع كتابا.. أمسكناه معا وقرأنا ما كتب على الغلاف.. تركت صديقي يتوصل – بنفسه- إلى أن بحثنا تحول إلى نوع من البحث الروحي لا الأكاديمي ..وذلك دون أن أتفوه بكلمة، كانت نهاية المطاف...
ركبنا السيارة عائدين إلى دمشق ..كنت مزهوا وفارغا من الأفكار تقريبا، وبين الحين والآخر كنت أنظر إلى صديقي وهو صامت يفكر ..عندما نزلت من السيارة قرب منزلي صرخ بي :
-" انتظر..أنت لم تدون المعلومات؟"
-" ما حاجتي إليها..لن أدونها "
-"لكنك سوف تنساها.."
- " سوف أنساها بالتأكيد..لكن ..سوف تتذكرها أنت..إلى اللقاء"!
ضحكت وأنا أصعد سلم المبنى..وإذا لم تكن حالتي المختلطة، وليس: ( لوكانوس..) ، فمن هو قائل هذه العبارة التي طرقت ذهني بوضوح وأنا أدخل البيت : " الخوف...هو الشغف الوحيد في حياتي..!!" ليست ذاكرة صديقي سيئة..لقد تذكر اقتناءه للنسخة المترجمة ..التي كان عنوانها يختلف قليلا عن عنوان النسخة الإنكليزية ، وهذه هي المعلومات المدونة على غلاف النسخة العربية : (( تاريخ الهنود الحمر/ المؤلف: دي براون/ المترجم توفيق الأسدي : فلسطيني/ إصدار الترجمة: عام 1982..))..
* * *
- هامش: عدد قتلى الجيش الإسرائيلي في حرب بيروت هو 631.