في الباب
ملحق ثقافي
2012/2/14
قصة: غسان كامل ونوس:ارتجّ بعصبية.. هل دفعتَه بقوة تحدث كل هذا الصخب؟! أم انقاد من ثقله بعدما وجهتَه؟! أصداء انغلاقه المدويّة تتردّد في مسمعيك،
وتجتاح رأسك، حواسك كلها، فتزيد من قلقك.. الذي يتضاعف مع بحثك المحموم عن المفتاح في ثقوبك. كان مشيك متسارعاً آن وصلت.. ليست المرة الأولى، ليس المشوار الأول، رغم أنك لا تخرج كثيراً، ولا تغادر البيت إلا إلى أمر ملحّ، مع أن خروجك اليوم لم يكن ذا وجهة محددة أو غاية مباشرة، كما تذكر. وليست المرة الأولى التي تعود فيها إلى هذه الحالة، وقد تحوّل خطوك في الفصل الأخير منه إلى جري وقفز، قبل أن تصطدم أصداء لهاثك بالباب.. فدخلت. كيف تم ذلك؟! هل كان مفتوحاً، أم فتحته بنفسك؟! هل كان مغلقاً بإحكام، أم كان لقبضته التي هززتها بعنف القدرة على فصل التحامه؟!
أنت الآن في الداخل، والباب مغلق، وتريد أن تقفله. ما زلت تبحث عن المفتاح الذي يمكن أن يكون قد سقط من بين خطواتك اللاهثة، أو.. أن أحداً ما سرقه وسبقك إلى هنا، لهذا دخلتَ من دون مفتاح! ولكن لماذا لم يقم بقفله؟! هل هو غبيّ إلى هذه الدرجة، أم أن الحال فرضت تبعاتها، وتسرعه أنساه ذلك، أو تركه كي يسهل هربه منه بعد الانتهاء من فعلته؟!
«قد يكون ما يزال في الدار.. إذن. وإذا ما قمتُ بإقفال هذا الباب الخارجي، سيكون في انتظاري خلف الباب الآخر، أو خلف باب غرفة المعيشة أو النوم أو المطبخ أو.. الحمّام الذي سيختبئ فيه حين يسمع وقع خطواتي، أو صوت القفل؛ أي قفل، أين المفتاح الذي سأقفل به، وما تنفع الزلاجة التي أحكمتُ إغلاقها.. جهزتها في ما سبق خوف الخطر الذي يمكن أن يأتي من الخارج. أما إذا كان من يستهدفني في الداخل، فسيقوم بتحريرها بسهولة، بعد أن يقتص مني، وينتهي من مهمته؛ لا فائدة منها بعد الآن، ولا فائدة حتى من إقفال الباب بالنسخة الاحتياطية التي أخبئها في مكان يمكن الوصول إليه في كل وقت، لأن معه المفتاح الذي سرقه، ودخل بواسطته إلى البيت!».
توقف برهة، يفكر في تحرير الزلاجة: «إذا ما كان الخطر يكمن في الداخل، لماذا لا أخرج؟! ولماذا أقدم نفسي بنفسي إلى حتفها؟! لماذا أحصر مصيري بين الباب المغلق بإحكام، وكمينه الذي ينتظرني بلا أيّ شك وبلا أية صعوبة؟!».
حرك اللسان بهدوء كيلا يصدر صوتاً يلفت نظر الصياد الذي في الداخل.
«الحمد لله.. الباب ما يزال غير مقفل، كنت سأضطر إلى فتحه، وسيسمع طقطقة القفل المتكررة التي بالغت في عدّها احتياطاً وأماناً، فيعرف أنني خرجت، فيلاحقني.».
فَتحَ الباب بهدوء، وبلا أيّ صوت، أطلَّ برأسه، تلفت في الاتجاهات الثلاثة، وخطا خطوة واحدة، ما تزال إحدى قدميه في الداخل. وقبل أن يطلق العنان لخطوه المحموم، تذكر أنه كان منذ لحظات بالخطو المحموم ذاته، يهرع باتجاه البيت. مم يهرب؟! لا بد أن خطراً محدقاً كان يداهمه؛ هل أحد ما يلاحقه؟! كائن بشري أم حيواني، لا يتذكر أياً من ذلك. هل كائن مستتر ببردة الليل شديد السواد في هذا الخريف الواشي بالكثير من الأصداء والترددات.. تلك التي لا تخطئ سمعه الذي يشتهر بحدته. لا شكّ في أنها تختلف عن أصداء خطواته أو حفيف ثوبه أو أصوات لهاثه، وتختلف حتى عن نبضات قلبه التي ترتفع الآن، حتى كأن فؤاده سيقفز من صدره!
أين سيذهب؟! من كان يطارده لن يستسلم للفشل، ولن يقلع عن أمله في اصطياده، ربما كان ينتظر خروجه بعد خطوات من الباب أو البيت، أو يكمن على مسافة قريبة.. وإذا ما خرج سيقع في شبكته التي هيأها جيداً لصيده الثمين!
من قال إنه صيد ثمين؟! هل ما يزال هناك من يراه كذلك؟! فقد الأمل في هذا، حتى إنه كاد يفقد ثقته بنفسه وأفكاره ومبادئه.. بعد ما سمع وما رأى، ولاقى من المنغصات والحصار ما يودي بجبل! وصمد وما يزال، حتى أحس بالإهمال، ولم يعد لوجوده كبير معنى، ولا لشهادته أي تأثير في تحميله مسؤولية وتكليفه بعمل. وقد استكان للحالة بعد محاولات مستميتة لاستنهاض همم الزملاء، ولفت نظر القادرين، وعرض الملابسات، وتوضيح المواقف، حتى قيل له: راتبك لا ينقص منه شيء، والحوافز والإضافة والترفيعات بأعلى الدرجات.. ماذا تريد أكثر من ذلك؟! المهم أن تبيعنا سكوتك!
لم يبع أحداً شيئاً، لكن صوته بحّ، ولن يفيده استخدامه الآن في شيء، إذا كانوا لم يستمعوا إليه، ولم يعيروه أي اهتمام وهو بينهم، وفي وضح النهار؛ فهل سيهتمون به في مثل هذا الوقت، وفي هذا المكان الذي اختاره بعيداً عنهم؟!
«إذا كان الأمر كذلك، فلن يكون أحد ما في الداخل، لأنك كالصفر على الشمال لا تضر ولا تفيد، ورضيت بذلك بعد خيبات، ليكن! لكن هذا لا يعني أن أحداً لا يمكن أن يكون قد أراد النيل منك، لأن مجرد وجودك دليل على خسارته، ومجرد رفضك لما يفعلون، حتى لو كان صامتاً، يعني تشوهاً في الصورة التي يودون أن تسود، ومن مصلحة الكثيرين التخلص من ظلك.
لكن، هناك مواقع يمكن أن تكون أكثر مناسبة لذلك من البيت؛ فلماذا يعرضون أنفسهم للشبهات أو الخطر، ويكمنون في الداخل؟! أو يلاحقونك حتى هنا؟! صحيح أن تحركاتك قليلة، لكنك تذهب أحياناً إلى أطراف القرية؛ حيث الأشجار التي كنتم تلعبون في ظلالها، وتأكلون من ثمارها فجة وناضجة، تيناً ورماناً وعنباً.. أو تتمشى إلى ما كان عين ماء تؤمها الكائنات اللطيفة، حتى الجنّيّة منها؛ يمكن أن يقتصوا منك هناك، ويدّعوا أنها تلك الأشباح التي رآها عديدون في ما مضى، وسمع عنها الجميع، وقد عادت. لن يحتاج الأمر إلى الكثير من البراهين، وقد تسجل القضية بأسرع مما يظن ضد مجهول!
فلماذا يلاحقونك إلى هنا؟!».
نظر في الاتجاهات الممكنة بلا حذر، يتمنى أن يلاحظ هيكلاً، أو يسمع صدى يدل على أن كائناً ما يريده؛ فهذا أمر إيجابي، يشير إلى أن له قيمة ما تزال، ودوراً ما انفك يطالب به بلا جدوى..
«لكن.. ألم يكن هناك من يلاحقني، حتى كاد أن يلحق بي، لولا أنني تنبّهتُ إلى ذلك، وهرعت بأسرع ما يمكن؟!
وخروجي الآن يعني القضاء علي؛ فأين الإيجابية في ذلك؟! ولماذا ألقي بنفسي إلى التهلكة؟! لا لن أمكّنهم مني بهذه البساطة».
فكّر في نقل قدمه إلى الداخل من جديد وإغلاق الباب. لماذا يغلقه إذن أو يقفله، وما الحاجة إلى المفتاح الذي لم يجده إلى الآن؟!
سيغلقه، ذلك أكثر راحة، قد تدخل قطة أو تراود كلباً جائعاً شهوتُه في العبور إلى الداخل، إن كان الباب مفتوحاً، أو تدخل أفعى أو وحش أو أي كائن آخر، وقد يسوغ عدم إغلاقه بإحكام لمتسول أن يقتحم خلوته.
لا بأس سيغلقه، ويصعد إلى الموئل الذي أصر على ألا يكون أرضياً، إمعاناً في الحذر. سيصعد، ويتحرر من ثيابه وأوهامه، يأكل ويشرب، ويتفرج على التلفاز، ويستلقي على الصوفا العتيقة.. لينام، ويحلم؛ بل لينتفض من الكوابيس، ويقلق.. أوقات عديدة تمر على هذي الحال. ملّ القراءة، ترك الكتابة، وغفل عن هوايات أخرى عديدة، بعدما يئس من أي جدوى؛ فماذا يعني وجوده إذن؟! ولماذا يعيش؟! وما معنى بقائه على قيد الوجود؟! وحيداً كان، لا يزال وحيداً، فشل في إتمام علاقة عاطفية، والاقتناع بمن ستشاركه البيت والسرير والنَّفَس، لا يستطيع تحمل ذلك، ولم تتحمله من عايشته زمناً، ثم استراحت من نقائه المفرط ومبادئه المتزمّتة وزمنه البائد.. كما اشتكت!
«إذا كان هذا ما ينتظرني فوق، فلماذا أصعد إلى قلق متجدد دفعني إلى الخروج، وملل مضاعف فررت منه أو حاولت، وهدر مدان للوقت والعمر والفرص..؟!».
لا يأسف كثيراً على ولي العهد أو وليته، قد لا يجد أي منهما ما يشجع، ولا على ما مرّ من رفض لما يقومون به، وعزوف عن مشاركتهم في جرائرهم التي يشرعونها بحكم العُرف والشيوع، وعدم المحاسبة الجدية والحاجة إلى ما يؤمن المتطلبات التي لا تنتهي، وعدم كفاية الراتب..!
«لست نادماً على شيء؛ فليحدث ما يحدث، وليأت من يأتي، ولينتظر من ينتظر، وليفعلوا بي ما يشاؤون..»!
شدّ أشياءه إليه؛ ثيابه وأعضاءه وأدواته..
لن يفرّ خارجاً، ولن يصعد إلى فوق، ولن يغلق الباب بالمفتاح.. المفتاح المشدود إلى رقبته!
ملحق ثقافي
2012/2/14
قصة: غسان كامل ونوس:ارتجّ بعصبية.. هل دفعتَه بقوة تحدث كل هذا الصخب؟! أم انقاد من ثقله بعدما وجهتَه؟! أصداء انغلاقه المدويّة تتردّد في مسمعيك،
وتجتاح رأسك، حواسك كلها، فتزيد من قلقك.. الذي يتضاعف مع بحثك المحموم عن المفتاح في ثقوبك. كان مشيك متسارعاً آن وصلت.. ليست المرة الأولى، ليس المشوار الأول، رغم أنك لا تخرج كثيراً، ولا تغادر البيت إلا إلى أمر ملحّ، مع أن خروجك اليوم لم يكن ذا وجهة محددة أو غاية مباشرة، كما تذكر. وليست المرة الأولى التي تعود فيها إلى هذه الحالة، وقد تحوّل خطوك في الفصل الأخير منه إلى جري وقفز، قبل أن تصطدم أصداء لهاثك بالباب.. فدخلت. كيف تم ذلك؟! هل كان مفتوحاً، أم فتحته بنفسك؟! هل كان مغلقاً بإحكام، أم كان لقبضته التي هززتها بعنف القدرة على فصل التحامه؟!
أنت الآن في الداخل، والباب مغلق، وتريد أن تقفله. ما زلت تبحث عن المفتاح الذي يمكن أن يكون قد سقط من بين خطواتك اللاهثة، أو.. أن أحداً ما سرقه وسبقك إلى هنا، لهذا دخلتَ من دون مفتاح! ولكن لماذا لم يقم بقفله؟! هل هو غبيّ إلى هذه الدرجة، أم أن الحال فرضت تبعاتها، وتسرعه أنساه ذلك، أو تركه كي يسهل هربه منه بعد الانتهاء من فعلته؟!
«قد يكون ما يزال في الدار.. إذن. وإذا ما قمتُ بإقفال هذا الباب الخارجي، سيكون في انتظاري خلف الباب الآخر، أو خلف باب غرفة المعيشة أو النوم أو المطبخ أو.. الحمّام الذي سيختبئ فيه حين يسمع وقع خطواتي، أو صوت القفل؛ أي قفل، أين المفتاح الذي سأقفل به، وما تنفع الزلاجة التي أحكمتُ إغلاقها.. جهزتها في ما سبق خوف الخطر الذي يمكن أن يأتي من الخارج. أما إذا كان من يستهدفني في الداخل، فسيقوم بتحريرها بسهولة، بعد أن يقتص مني، وينتهي من مهمته؛ لا فائدة منها بعد الآن، ولا فائدة حتى من إقفال الباب بالنسخة الاحتياطية التي أخبئها في مكان يمكن الوصول إليه في كل وقت، لأن معه المفتاح الذي سرقه، ودخل بواسطته إلى البيت!».
توقف برهة، يفكر في تحرير الزلاجة: «إذا ما كان الخطر يكمن في الداخل، لماذا لا أخرج؟! ولماذا أقدم نفسي بنفسي إلى حتفها؟! لماذا أحصر مصيري بين الباب المغلق بإحكام، وكمينه الذي ينتظرني بلا أيّ شك وبلا أية صعوبة؟!».
حرك اللسان بهدوء كيلا يصدر صوتاً يلفت نظر الصياد الذي في الداخل.
«الحمد لله.. الباب ما يزال غير مقفل، كنت سأضطر إلى فتحه، وسيسمع طقطقة القفل المتكررة التي بالغت في عدّها احتياطاً وأماناً، فيعرف أنني خرجت، فيلاحقني.».
فَتحَ الباب بهدوء، وبلا أيّ صوت، أطلَّ برأسه، تلفت في الاتجاهات الثلاثة، وخطا خطوة واحدة، ما تزال إحدى قدميه في الداخل. وقبل أن يطلق العنان لخطوه المحموم، تذكر أنه كان منذ لحظات بالخطو المحموم ذاته، يهرع باتجاه البيت. مم يهرب؟! لا بد أن خطراً محدقاً كان يداهمه؛ هل أحد ما يلاحقه؟! كائن بشري أم حيواني، لا يتذكر أياً من ذلك. هل كائن مستتر ببردة الليل شديد السواد في هذا الخريف الواشي بالكثير من الأصداء والترددات.. تلك التي لا تخطئ سمعه الذي يشتهر بحدته. لا شكّ في أنها تختلف عن أصداء خطواته أو حفيف ثوبه أو أصوات لهاثه، وتختلف حتى عن نبضات قلبه التي ترتفع الآن، حتى كأن فؤاده سيقفز من صدره!
أين سيذهب؟! من كان يطارده لن يستسلم للفشل، ولن يقلع عن أمله في اصطياده، ربما كان ينتظر خروجه بعد خطوات من الباب أو البيت، أو يكمن على مسافة قريبة.. وإذا ما خرج سيقع في شبكته التي هيأها جيداً لصيده الثمين!
من قال إنه صيد ثمين؟! هل ما يزال هناك من يراه كذلك؟! فقد الأمل في هذا، حتى إنه كاد يفقد ثقته بنفسه وأفكاره ومبادئه.. بعد ما سمع وما رأى، ولاقى من المنغصات والحصار ما يودي بجبل! وصمد وما يزال، حتى أحس بالإهمال، ولم يعد لوجوده كبير معنى، ولا لشهادته أي تأثير في تحميله مسؤولية وتكليفه بعمل. وقد استكان للحالة بعد محاولات مستميتة لاستنهاض همم الزملاء، ولفت نظر القادرين، وعرض الملابسات، وتوضيح المواقف، حتى قيل له: راتبك لا ينقص منه شيء، والحوافز والإضافة والترفيعات بأعلى الدرجات.. ماذا تريد أكثر من ذلك؟! المهم أن تبيعنا سكوتك!
لم يبع أحداً شيئاً، لكن صوته بحّ، ولن يفيده استخدامه الآن في شيء، إذا كانوا لم يستمعوا إليه، ولم يعيروه أي اهتمام وهو بينهم، وفي وضح النهار؛ فهل سيهتمون به في مثل هذا الوقت، وفي هذا المكان الذي اختاره بعيداً عنهم؟!
«إذا كان الأمر كذلك، فلن يكون أحد ما في الداخل، لأنك كالصفر على الشمال لا تضر ولا تفيد، ورضيت بذلك بعد خيبات، ليكن! لكن هذا لا يعني أن أحداً لا يمكن أن يكون قد أراد النيل منك، لأن مجرد وجودك دليل على خسارته، ومجرد رفضك لما يفعلون، حتى لو كان صامتاً، يعني تشوهاً في الصورة التي يودون أن تسود، ومن مصلحة الكثيرين التخلص من ظلك.
لكن، هناك مواقع يمكن أن تكون أكثر مناسبة لذلك من البيت؛ فلماذا يعرضون أنفسهم للشبهات أو الخطر، ويكمنون في الداخل؟! أو يلاحقونك حتى هنا؟! صحيح أن تحركاتك قليلة، لكنك تذهب أحياناً إلى أطراف القرية؛ حيث الأشجار التي كنتم تلعبون في ظلالها، وتأكلون من ثمارها فجة وناضجة، تيناً ورماناً وعنباً.. أو تتمشى إلى ما كان عين ماء تؤمها الكائنات اللطيفة، حتى الجنّيّة منها؛ يمكن أن يقتصوا منك هناك، ويدّعوا أنها تلك الأشباح التي رآها عديدون في ما مضى، وسمع عنها الجميع، وقد عادت. لن يحتاج الأمر إلى الكثير من البراهين، وقد تسجل القضية بأسرع مما يظن ضد مجهول!
فلماذا يلاحقونك إلى هنا؟!».
نظر في الاتجاهات الممكنة بلا حذر، يتمنى أن يلاحظ هيكلاً، أو يسمع صدى يدل على أن كائناً ما يريده؛ فهذا أمر إيجابي، يشير إلى أن له قيمة ما تزال، ودوراً ما انفك يطالب به بلا جدوى..
«لكن.. ألم يكن هناك من يلاحقني، حتى كاد أن يلحق بي، لولا أنني تنبّهتُ إلى ذلك، وهرعت بأسرع ما يمكن؟!
وخروجي الآن يعني القضاء علي؛ فأين الإيجابية في ذلك؟! ولماذا ألقي بنفسي إلى التهلكة؟! لا لن أمكّنهم مني بهذه البساطة».
فكّر في نقل قدمه إلى الداخل من جديد وإغلاق الباب. لماذا يغلقه إذن أو يقفله، وما الحاجة إلى المفتاح الذي لم يجده إلى الآن؟!
سيغلقه، ذلك أكثر راحة، قد تدخل قطة أو تراود كلباً جائعاً شهوتُه في العبور إلى الداخل، إن كان الباب مفتوحاً، أو تدخل أفعى أو وحش أو أي كائن آخر، وقد يسوغ عدم إغلاقه بإحكام لمتسول أن يقتحم خلوته.
لا بأس سيغلقه، ويصعد إلى الموئل الذي أصر على ألا يكون أرضياً، إمعاناً في الحذر. سيصعد، ويتحرر من ثيابه وأوهامه، يأكل ويشرب، ويتفرج على التلفاز، ويستلقي على الصوفا العتيقة.. لينام، ويحلم؛ بل لينتفض من الكوابيس، ويقلق.. أوقات عديدة تمر على هذي الحال. ملّ القراءة، ترك الكتابة، وغفل عن هوايات أخرى عديدة، بعدما يئس من أي جدوى؛ فماذا يعني وجوده إذن؟! ولماذا يعيش؟! وما معنى بقائه على قيد الوجود؟! وحيداً كان، لا يزال وحيداً، فشل في إتمام علاقة عاطفية، والاقتناع بمن ستشاركه البيت والسرير والنَّفَس، لا يستطيع تحمل ذلك، ولم تتحمله من عايشته زمناً، ثم استراحت من نقائه المفرط ومبادئه المتزمّتة وزمنه البائد.. كما اشتكت!
«إذا كان هذا ما ينتظرني فوق، فلماذا أصعد إلى قلق متجدد دفعني إلى الخروج، وملل مضاعف فررت منه أو حاولت، وهدر مدان للوقت والعمر والفرص..؟!».
لا يأسف كثيراً على ولي العهد أو وليته، قد لا يجد أي منهما ما يشجع، ولا على ما مرّ من رفض لما يقومون به، وعزوف عن مشاركتهم في جرائرهم التي يشرعونها بحكم العُرف والشيوع، وعدم المحاسبة الجدية والحاجة إلى ما يؤمن المتطلبات التي لا تنتهي، وعدم كفاية الراتب..!
«لست نادماً على شيء؛ فليحدث ما يحدث، وليأت من يأتي، ولينتظر من ينتظر، وليفعلوا بي ما يشاؤون..»!
شدّ أشياءه إليه؛ ثيابه وأعضاءه وأدواته..
لن يفرّ خارجاً، ولن يصعد إلى فوق، ولن يغلق الباب بالمفتاح.. المفتاح المشدود إلى رقبته!