هل يمكن أن أعود خائباً هذه المرّة أيضاً؟!
صعب عليّ تحمّل ذلك؛ ماذا سيقولون عني؟!
ليقولوا ما يشاؤون! لم يقصّروا في التهم والألقاب، مذ كنت شابّاً، وتيتّمت باكراً. تغرّبت مراراً، وما طال بي الغياب؛ لأنّي أحبّ أرضي، أحبّ ضيعتي، ولا أستطيع الابتعاد عن ترابها.
حين دخلت عليهم في ذلك الركن المعتم، في العاصمة التي كانت شقيقة، كانوا مجتمعين، هلّلوا، وضحكوا، ولم يُخفوا سخريّتهم من منظري: (صوص تشرين، العجي الـْ قتلته زوجة أبيه...).
سألوني عن الضيعة، بتفاصيلها التي تسكنني، حتّى لو كان فيها شياطين؛ كما صرت أسمع، بعد متابعتي السياسة والاتّفاقيّات والمعاهدات... وهي التي دفعتني إلى العودة إليها كلّ مرّة، كما قالوا ليلتئذ، وهزئوا. لم أخطئهم، لم أنتظر حتّى أحصل على عمل ثابت. قبل ذلك، كنت قد احتججت على أجر، أو نوم، أو ظروف، يتقبّلونها بلا خجل أو تبرّم، ولا يعرف منتظروهم في الديار أيّ جحيم يعيشون، وأيّة ضغوط يتحمّلون. ولكن (شحّاد ومشارط!) قالوا لي ذلك أكثر من مرّة، ولعلّهم كانوا يسوّغون لأنفسهم، حتّى لا يعودوا إلى حياة الشقاء والتعب، والخوف من الشحّ والجوع!!
لم أمت من الفقر، ولا من الحرمان، ولا أريد أن أموت على فراشي، كما يموت البعير!
هناك ما هو أقسى من الموت، أفكّر في هذا أحياناً، وأستشعره. ربّما كان الأقسى. كانوا يردّدون أمامي قصداً أو جهلاً: (من خلّف ما مات!) بعد أن اقتنعتُ، إثر أكثر من زواج، وتأكّدوا شامتين ربّما، أنّه لن يكون لي خلَف، ولن (يحيى ذِكري!) حتّى بأنثى، على الرغم من أنّ هذا القول من مفرزات الذكورة، التي لا أحبّ هيمنتها؛ فلو كانت لي بنت، مع أخ أو من دونه، ما تردّدت لحظة في أن أترك أيّاً منهما يتطوّع؛ بل لكنت حفّزتها أو شجّعته، للالتحاق بأيّ موقع عسكريّ متقدّم أو متأخّر؛ لا فرق في ذلك، لم يعد فرق، وهذه صفة مميّزة لِما يجري في البلد، لعلّها الأخطر، والأعدل؛ فلا الجبهة محدّدة، ولا جهات الأمان دائمة، ولا الجبهات الساخنة محدودة!
لم يكن لي بنت، ولا ولد؛ تلك مشيئة أخرى أكبر من قدرتي وقدرة البشر.
*
لم يكن لكَ ولد، ولم يستجيبوا لإلحاحك أن تنخرط في مواجهة المعتدين على الأرض والعرض؛ سنّك وهيئتك، شيبتك، و... فماذا بمقدورك أن تفعل؟!
شكروا لك أريحيّتك، وحماستك، واندفاعك. وقالوا: لن يكون ذلك سهلاً عليك وعلينا؛ الظروف أقسى مما تتصوّر.
قلتَ لهم: "مرّت على رأسي ظروف أقسى، لم أعرف يوماً أبيض."، وتوسّلتَ: أستطيع تحمّل ما لا يخطر على بال من ضغوط وأهوال، لم يلينوا. قالوا: بما يشبه المزاح الفجّ: ستكون همّاً علينا، يكفينا ما فينا!
لم تتوقّف عن محاولات الوصول إلى الحال، التي تجعلك تحسّ بمعنى وجودك، ولو جاءت متأخّرة؛ لن تتأثّر بالإشارة إلى الراية البيضاء على رأسك، ما تبقّى منها. "لن أستسلم"، تقول بحزم؛ بل هذا ما يحفّزني أكثر إلى أن أحظى بحسن الختام! إذا لم يكن باستطعام الشهادة، فليكن باستحضار الذِّكر الطيّب سنوات. بتَّ تشتهي أن تكون من ذوي الشهداء! لكنّك "عاقر، عقيم، وحيد، بائس..." - تتحرّق في نفسك- "كيف يمكن أن أكون من أصحاب الكرامات، من أهل النبلاء الأوفياء العظماء؟!" ذلك عليك مستحيل، على الرغم من كثرة الضحايا وتوارد أخبارهم، والاستفسار عن جثامينهم؛ هل وجدتْ؟! متى تحضر؟! ومتى يتمّ الدفن...؟!
لم يحدث مثل هذا قبل الآن، لم تسمع بمثله حتّى قبل أن تكون. عاصرتَ معارك في بعض البلد، وشاهدتَ نتائجها وآثارها، قبل ربع قرن، وبعدها وقبلها في بلد مجاور؛ لم يحدث مثل ذلك: تعازٍ بلا تشييع، ودفن بعد مواساة... هناك من رفض أن يستقبل المعزّين، قبل أن يصله خبر رسميّ. آخرون قبلوا، وأنهوا الشعائر المعتادة، وما زالوا يأملون بعودتهم أحياء؛ بعض الوقائع يسوّغ لهم ذلك؛ فقد عاد عدد ممّن أكّد الرفاق وفاتهم، أو إصاباتهم القاتلة، في ميدان لا يسلم منه قادر؛ فكيف بمصاب وقع بين أنياب العصابات وأحقادهم، تلك التي تنتهك الأحياء والأموات، وتساوم على بقاياهم، وتستفزّ أهلهم، وتقهر، وتتجبّر؟!
ما زلتَ تنتظر مع المنتظرين منذ ساعات، في هذا المكان الذي يضيق بأوقاتهم، ويغصّ بنفثاتهم، وتترقّب نبأً أو ذِكراً، ولن تتردّد في المشاركة في طقوس جنازاتهم المميّزة، التي تعبر الطرق باحتفاء، وتتخلّل المفارق والساحات والحارات بمشهديّة لا تنسى، وحيويّة لا تفتر.
خطرت لكَ الفكرة، بعدما سمعتَ أنّ هناك جثامين مجهولة الاسم، وأشلاء لا تشي بأصحابها، في موقع احترق، أو بناء انهار، أو آليّة فجّرت. ومنهم من هو معروف، لكنّهم لا يستطيعون دفنه في المناطق، التي يستولي عليها المسلّحون؛ فيشيَّعون في جنازات جماعيّة، تدور في شوارع المدن، التي ما تزال آمنة، في طريقها إلى المقبرة المستحدثة؛ لتتزايد فيها الأركان المشغولة، وتتزاهى الزهور على حفر تتكاثر، وتتوارى ظلال الزائرين، وتتبدّل هياكلهم وقاماتهم.
*
هل سأعود هذه المرّة أيضاً بلا عزيز، أهتمّ بجنازته، وأرفع هامتي وأنا أتقبّل التعزية به.. والمواساة، تلك التي أتمنّاها؟! كنت أداوم في الشوادر والمبرّات، مثلما يفعل ذوو الشهداء؛ بل أكثر من بعضهم! هل ضاقت أعينهم، فقالوا: حتّى على موت أبنائنا/موتنا، لا نخلو من الحسد؟!
قلت، لأقنع نفسي أوّلاً، وأقول لهم، ولكلّ من يتساءل سرّاً أو علانية: لست حاسداً، وليس حسداً؛ حتّى مثل هذه الأمنية تستكثرونها عليّ؟! مستعدّ أن أدفع التكاليف، وأقيم جنازة لم تُقَم في هذه القرية، أمّ الشهداء!
قال بعضٌ بِنيّةِ معكّرة: نعرف أنّ من حُرم من الأولاد، قد يتبنّى ولداً أو بنتاً، ليعيش مشاعر الأبوّة، ويساعد من تخلّى عنه أهله، أو افتقد حنان الأحضان. لكن أن يُتبنّى شهيد؟! أليس الشهداء أبناءنا جميعاً؟!
"لو كنتُ مستقرّاً هنا في ما مضى، أو لو رضيتْ أيّ من الزوجات، ربّما فكّرت بذلك. لكن الوقت فات، لا أستطيع انتظار أن يكبر، ويلتحق بالجيش والمقاومين، وقد يُستشهد؛ عمري لم يعد يسمح، ولا الظروف يمكن أن تساعد في ذلك، إذا ما استمرّت الأمور على هذي الحال!"
أقول في سرّي؛ خشية أن أُتّهم بصفات وألقاب مَلَلْتُها، ولا أحبّ سماعها.
ولا أستطيع أن أنشغل بالردّ فيضيع الوقت، وتتعب الأعصاب؛ بدلاً من ذلك، أترقّب قوافل الشهداء، أو أتشهّى أخبارهم. أزور من لا يُزارون إلّا في المناسبات، وبحضور الإعلام. وأستمع إلى مرارات وزفرات. ولا يؤثّر هذا على حلمي، ولا على أملي في تحقّقه، مع أمنيات لا تخبو، بأن يعود الغائبون، كلّ الغائبين أحياء سالمين. لكنّ ذلك ما يزال بعيد المنال، وهذا ما يجعلني أعود إلى هنا، أنتظر، غير قانط من رحمة الله، التي قد تأتي بأيّ شكل ووقت وحال!!
*
مرّات عديدة، جئتَ إلى هذا المكان، تنتظم مع المحتشدين، وقبلهم، وبعدهم؛ لعلّ جثماناً يبقى بلا ولولة، أو زغرودة، أو حضن، أو سؤال؛ مؤمَّلاً أن يظلّ صندوق من عشرات تَنَزّلُ من الطائرة التي قد تتأخّر، أو تتبدّل مواعيدها التي تتقصّاها بلا كلل، لتحظى بشرف تسعى إلى نيله. لن "أيأس، ولن أتراجع!".
أحياناً تخجل من نفسك، ومن ردود أفعالك، التي قد تظهر من حركاتك، أو ملامحك؛ حين يقول المتحدّث، بأنّ هناك مجزرة ارتكبت بحقّ الذائدين عن الحمى!
فيدور في خلدك أمرٌ ما، وقد يخرج منعكَسٌ من ذلك إلى العلن؛ فيحسّه الحاضرون: هذه فرصتك، لتنال ما تتمنّى!
فيما تستشعر أحاسيس من لهم قريب في تلك المنطقة جمراتٍ وزفرات.
وقد تسأل بإلحاح حول ذلك، حتّى تحسّ بنفور وامتعاض؛ فتسكت محزوناً، وتكتم مشاعرك، وتخرج إلى خبر آخر في مكان آخر، لا يقلّ هولاً أو كارثيّة، وتستعدّ لمحاولة جديدة!
وقد تخجل أكثر، أو تغتبط، حين تفكّر في ما قد يجعلك تعود بغايتك، من دون أن يحسّ بفعلتك أحد، مغتنماً حال الازدحام الكبير والانفعال الأقصى!!
*
ماذا سيحدث لي الآن؟! وقد زادت القلقلة والترقّب، بعدما جرى فيض من الأسئلة والتساؤلات المصحوبة بأسى بادٍ، وغضب محتقن، عن سبب التأخّر في الوصول والهبوط؟!
هل أتقدّم المتحفّزين لاستقبال بقايا أحبابهم، أو أشلاء أعزّتهم، أم أنتبذ ركناً منسيّاً، ريثما تنتهي المراسم المؤسية؟!
لا، لم تعد لي قدرة على تحمّل الخيبات.
لا أستطيع تصوّر نفسي إلّا عائداً مظفّراً، مصطحباً صندوقاً مزيّناً بألوان الوطن، وأتقدّم الموكب مزهوّاً بالمراسم والشعائر، وأقف بين المشيّعين منتصب القامة مرفوع الهامة، أستمع إلى كلمات تخصّني، وأتقلّد الوسام الأعلى، وألتفّ بالعلم الأغلى، ويسجّل اسمي في سجلّ الخالدين!
***
صعب عليّ تحمّل ذلك؛ ماذا سيقولون عني؟!
ليقولوا ما يشاؤون! لم يقصّروا في التهم والألقاب، مذ كنت شابّاً، وتيتّمت باكراً. تغرّبت مراراً، وما طال بي الغياب؛ لأنّي أحبّ أرضي، أحبّ ضيعتي، ولا أستطيع الابتعاد عن ترابها.
حين دخلت عليهم في ذلك الركن المعتم، في العاصمة التي كانت شقيقة، كانوا مجتمعين، هلّلوا، وضحكوا، ولم يُخفوا سخريّتهم من منظري: (صوص تشرين، العجي الـْ قتلته زوجة أبيه...).
سألوني عن الضيعة، بتفاصيلها التي تسكنني، حتّى لو كان فيها شياطين؛ كما صرت أسمع، بعد متابعتي السياسة والاتّفاقيّات والمعاهدات... وهي التي دفعتني إلى العودة إليها كلّ مرّة، كما قالوا ليلتئذ، وهزئوا. لم أخطئهم، لم أنتظر حتّى أحصل على عمل ثابت. قبل ذلك، كنت قد احتججت على أجر، أو نوم، أو ظروف، يتقبّلونها بلا خجل أو تبرّم، ولا يعرف منتظروهم في الديار أيّ جحيم يعيشون، وأيّة ضغوط يتحمّلون. ولكن (شحّاد ومشارط!) قالوا لي ذلك أكثر من مرّة، ولعلّهم كانوا يسوّغون لأنفسهم، حتّى لا يعودوا إلى حياة الشقاء والتعب، والخوف من الشحّ والجوع!!
لم أمت من الفقر، ولا من الحرمان، ولا أريد أن أموت على فراشي، كما يموت البعير!
هناك ما هو أقسى من الموت، أفكّر في هذا أحياناً، وأستشعره. ربّما كان الأقسى. كانوا يردّدون أمامي قصداً أو جهلاً: (من خلّف ما مات!) بعد أن اقتنعتُ، إثر أكثر من زواج، وتأكّدوا شامتين ربّما، أنّه لن يكون لي خلَف، ولن (يحيى ذِكري!) حتّى بأنثى، على الرغم من أنّ هذا القول من مفرزات الذكورة، التي لا أحبّ هيمنتها؛ فلو كانت لي بنت، مع أخ أو من دونه، ما تردّدت لحظة في أن أترك أيّاً منهما يتطوّع؛ بل لكنت حفّزتها أو شجّعته، للالتحاق بأيّ موقع عسكريّ متقدّم أو متأخّر؛ لا فرق في ذلك، لم يعد فرق، وهذه صفة مميّزة لِما يجري في البلد، لعلّها الأخطر، والأعدل؛ فلا الجبهة محدّدة، ولا جهات الأمان دائمة، ولا الجبهات الساخنة محدودة!
لم يكن لي بنت، ولا ولد؛ تلك مشيئة أخرى أكبر من قدرتي وقدرة البشر.
*
لم يكن لكَ ولد، ولم يستجيبوا لإلحاحك أن تنخرط في مواجهة المعتدين على الأرض والعرض؛ سنّك وهيئتك، شيبتك، و... فماذا بمقدورك أن تفعل؟!
شكروا لك أريحيّتك، وحماستك، واندفاعك. وقالوا: لن يكون ذلك سهلاً عليك وعلينا؛ الظروف أقسى مما تتصوّر.
قلتَ لهم: "مرّت على رأسي ظروف أقسى، لم أعرف يوماً أبيض."، وتوسّلتَ: أستطيع تحمّل ما لا يخطر على بال من ضغوط وأهوال، لم يلينوا. قالوا: بما يشبه المزاح الفجّ: ستكون همّاً علينا، يكفينا ما فينا!
لم تتوقّف عن محاولات الوصول إلى الحال، التي تجعلك تحسّ بمعنى وجودك، ولو جاءت متأخّرة؛ لن تتأثّر بالإشارة إلى الراية البيضاء على رأسك، ما تبقّى منها. "لن أستسلم"، تقول بحزم؛ بل هذا ما يحفّزني أكثر إلى أن أحظى بحسن الختام! إذا لم يكن باستطعام الشهادة، فليكن باستحضار الذِّكر الطيّب سنوات. بتَّ تشتهي أن تكون من ذوي الشهداء! لكنّك "عاقر، عقيم، وحيد، بائس..." - تتحرّق في نفسك- "كيف يمكن أن أكون من أصحاب الكرامات، من أهل النبلاء الأوفياء العظماء؟!" ذلك عليك مستحيل، على الرغم من كثرة الضحايا وتوارد أخبارهم، والاستفسار عن جثامينهم؛ هل وجدتْ؟! متى تحضر؟! ومتى يتمّ الدفن...؟!
لم يحدث مثل هذا قبل الآن، لم تسمع بمثله حتّى قبل أن تكون. عاصرتَ معارك في بعض البلد، وشاهدتَ نتائجها وآثارها، قبل ربع قرن، وبعدها وقبلها في بلد مجاور؛ لم يحدث مثل ذلك: تعازٍ بلا تشييع، ودفن بعد مواساة... هناك من رفض أن يستقبل المعزّين، قبل أن يصله خبر رسميّ. آخرون قبلوا، وأنهوا الشعائر المعتادة، وما زالوا يأملون بعودتهم أحياء؛ بعض الوقائع يسوّغ لهم ذلك؛ فقد عاد عدد ممّن أكّد الرفاق وفاتهم، أو إصاباتهم القاتلة، في ميدان لا يسلم منه قادر؛ فكيف بمصاب وقع بين أنياب العصابات وأحقادهم، تلك التي تنتهك الأحياء والأموات، وتساوم على بقاياهم، وتستفزّ أهلهم، وتقهر، وتتجبّر؟!
ما زلتَ تنتظر مع المنتظرين منذ ساعات، في هذا المكان الذي يضيق بأوقاتهم، ويغصّ بنفثاتهم، وتترقّب نبأً أو ذِكراً، ولن تتردّد في المشاركة في طقوس جنازاتهم المميّزة، التي تعبر الطرق باحتفاء، وتتخلّل المفارق والساحات والحارات بمشهديّة لا تنسى، وحيويّة لا تفتر.
خطرت لكَ الفكرة، بعدما سمعتَ أنّ هناك جثامين مجهولة الاسم، وأشلاء لا تشي بأصحابها، في موقع احترق، أو بناء انهار، أو آليّة فجّرت. ومنهم من هو معروف، لكنّهم لا يستطيعون دفنه في المناطق، التي يستولي عليها المسلّحون؛ فيشيَّعون في جنازات جماعيّة، تدور في شوارع المدن، التي ما تزال آمنة، في طريقها إلى المقبرة المستحدثة؛ لتتزايد فيها الأركان المشغولة، وتتزاهى الزهور على حفر تتكاثر، وتتوارى ظلال الزائرين، وتتبدّل هياكلهم وقاماتهم.
*
هل سأعود هذه المرّة أيضاً بلا عزيز، أهتمّ بجنازته، وأرفع هامتي وأنا أتقبّل التعزية به.. والمواساة، تلك التي أتمنّاها؟! كنت أداوم في الشوادر والمبرّات، مثلما يفعل ذوو الشهداء؛ بل أكثر من بعضهم! هل ضاقت أعينهم، فقالوا: حتّى على موت أبنائنا/موتنا، لا نخلو من الحسد؟!
قلت، لأقنع نفسي أوّلاً، وأقول لهم، ولكلّ من يتساءل سرّاً أو علانية: لست حاسداً، وليس حسداً؛ حتّى مثل هذه الأمنية تستكثرونها عليّ؟! مستعدّ أن أدفع التكاليف، وأقيم جنازة لم تُقَم في هذه القرية، أمّ الشهداء!
قال بعضٌ بِنيّةِ معكّرة: نعرف أنّ من حُرم من الأولاد، قد يتبنّى ولداً أو بنتاً، ليعيش مشاعر الأبوّة، ويساعد من تخلّى عنه أهله، أو افتقد حنان الأحضان. لكن أن يُتبنّى شهيد؟! أليس الشهداء أبناءنا جميعاً؟!
"لو كنتُ مستقرّاً هنا في ما مضى، أو لو رضيتْ أيّ من الزوجات، ربّما فكّرت بذلك. لكن الوقت فات، لا أستطيع انتظار أن يكبر، ويلتحق بالجيش والمقاومين، وقد يُستشهد؛ عمري لم يعد يسمح، ولا الظروف يمكن أن تساعد في ذلك، إذا ما استمرّت الأمور على هذي الحال!"
أقول في سرّي؛ خشية أن أُتّهم بصفات وألقاب مَلَلْتُها، ولا أحبّ سماعها.
ولا أستطيع أن أنشغل بالردّ فيضيع الوقت، وتتعب الأعصاب؛ بدلاً من ذلك، أترقّب قوافل الشهداء، أو أتشهّى أخبارهم. أزور من لا يُزارون إلّا في المناسبات، وبحضور الإعلام. وأستمع إلى مرارات وزفرات. ولا يؤثّر هذا على حلمي، ولا على أملي في تحقّقه، مع أمنيات لا تخبو، بأن يعود الغائبون، كلّ الغائبين أحياء سالمين. لكنّ ذلك ما يزال بعيد المنال، وهذا ما يجعلني أعود إلى هنا، أنتظر، غير قانط من رحمة الله، التي قد تأتي بأيّ شكل ووقت وحال!!
*
مرّات عديدة، جئتَ إلى هذا المكان، تنتظم مع المحتشدين، وقبلهم، وبعدهم؛ لعلّ جثماناً يبقى بلا ولولة، أو زغرودة، أو حضن، أو سؤال؛ مؤمَّلاً أن يظلّ صندوق من عشرات تَنَزّلُ من الطائرة التي قد تتأخّر، أو تتبدّل مواعيدها التي تتقصّاها بلا كلل، لتحظى بشرف تسعى إلى نيله. لن "أيأس، ولن أتراجع!".
أحياناً تخجل من نفسك، ومن ردود أفعالك، التي قد تظهر من حركاتك، أو ملامحك؛ حين يقول المتحدّث، بأنّ هناك مجزرة ارتكبت بحقّ الذائدين عن الحمى!
فيدور في خلدك أمرٌ ما، وقد يخرج منعكَسٌ من ذلك إلى العلن؛ فيحسّه الحاضرون: هذه فرصتك، لتنال ما تتمنّى!
فيما تستشعر أحاسيس من لهم قريب في تلك المنطقة جمراتٍ وزفرات.
وقد تسأل بإلحاح حول ذلك، حتّى تحسّ بنفور وامتعاض؛ فتسكت محزوناً، وتكتم مشاعرك، وتخرج إلى خبر آخر في مكان آخر، لا يقلّ هولاً أو كارثيّة، وتستعدّ لمحاولة جديدة!
وقد تخجل أكثر، أو تغتبط، حين تفكّر في ما قد يجعلك تعود بغايتك، من دون أن يحسّ بفعلتك أحد، مغتنماً حال الازدحام الكبير والانفعال الأقصى!!
*
ماذا سيحدث لي الآن؟! وقد زادت القلقلة والترقّب، بعدما جرى فيض من الأسئلة والتساؤلات المصحوبة بأسى بادٍ، وغضب محتقن، عن سبب التأخّر في الوصول والهبوط؟!
هل أتقدّم المتحفّزين لاستقبال بقايا أحبابهم، أو أشلاء أعزّتهم، أم أنتبذ ركناً منسيّاً، ريثما تنتهي المراسم المؤسية؟!
لا، لم تعد لي قدرة على تحمّل الخيبات.
لا أستطيع تصوّر نفسي إلّا عائداً مظفّراً، مصطحباً صندوقاً مزيّناً بألوان الوطن، وأتقدّم الموكب مزهوّاً بالمراسم والشعائر، وأقف بين المشيّعين منتصب القامة مرفوع الهامة، أستمع إلى كلمات تخصّني، وأتقلّد الوسام الأعلى، وألتفّ بالعلم الأغلى، ويسجّل اسمي في سجلّ الخالدين!
***