دخل موفق العاني إلى المستشفى ، فجعلته جدرانها البيض يكتئب كأنّ لونها أسود، وسأل موظفة في قسم الاستعلامات عن صديقه المريض جمال بيدس الذي يرغب في زيارته، فنظرت إلى دفتر كبير مفتوح، وقالت له وهيّ تحملق إليه بعينين كبيرتين ماكرتين : كم ســــتدفع إذا أخبرتك برقـــم غرفته؟
قال موفق العاني : سأدفع ما تشائين.
فقالت الموظفة : مادمت كريماً إلى هذا الحد، فسأخبرك برقم غرفته مجاناً. ستجده في الطابق الثاني.. الغرفة رقم 17.
وهمّ موفق العاني بالمسير، فاستوقفته الموظفة متسائلة : وكم ستدفع إذا أخبرتك برقم غرفتي في الليل؟
قال موفق العاني : لست مليونيراً.
فقالت الموظفة وهيّ تضحــك : عدْ بعد أن تزور صـــديقك، وسنتفق ولن نختلف.
فصعد موفق العاني الدرج إلى الطابق الثاني، وسارفي دهاليز عريضة، كثيرة الغرف، وكلّ غرفة لها باب مطلي بلون أبيض، ثبت به رقم معدني .
وعثر موفق العاني على الغرفة رقم 17، ففتح بابها، ودخل إليها، فرأى ثلاثة رجال ذوي ثياب بيض يتزاحمون على امرأة مستلقية على ظهرها تضحك وتنصح الرجال بالقليل من الصبر والتقيّد بالنظام، فبهت موفق العاني، وتجمد في مكانه مفتوح الفم، فتنبه إليه أحــد الرجال، ودنا منه متجهم الوجه، وســأله بصوت فظّ : ماذا تريد؟
فتزايد ارتباك موفق العاني، وقال متسائلاً : أهنا الغرفة رقم 17؟
قال الرجل : هذه الغرفة خاصـــة بالأطباء، رقمــها 37 وليس 17، فكيف لم تره؟ أأنت أعمى؟
فتمتم موفق العاني بكلمات الاعتذار، وغادر الغرفة، وعاود السير في الدهاليز العريضة باحثاً عن الغرفة رقم 17، ولمّا وجدها لم يبادر إلى فتح بابها إلاّ بعد أن تأكّد مراراً من صحة الرقم .
وما إن دخل موفق العاني الغرفة رقم 17 حتّى رأى صديقه جمــال بيدس متمدداً على ســرير ضــيق، فصـــــافحه بحرارة، وســأله عن أحواله الصــحية، فقال جمال : أحوالي الصحية ممتازة، ولكنّي أحياناً أعاني بعض المتاعب بسبب عقلي ، فأخلعه وأعلّقه هناك.
وأشار جمال إلى مشجب خشبيّ مثبت بالحائط، ثم أردف قائلاً : وحين أرتاح وأشبع راحة أعيد عقلي إلى مكانه.
فقال موفق : بلا مزح ! هل العقل جورب تلبســـه متى تشـــاء وتخلعه متى تشــــاء؟
قال جمال : أنا لا أمزح، وأنت حرّ في أن تصدق كلامي أو لا تصدقه، ولكنّي أروي لك بصدق ما أفعل كلّ يوم، ففي ساعات الصباح يحلو لي أن أخلع عقلي وأعلّقه هناك على المشجب.
فقال موفــق وهو يضحــك : وعقلك الآن؟ أهوّ في رأســك أم معلّق على المشجب؟
قال جمال : ما هذا السؤال؟ ألا تراه؟ انظر إليه تره معلّقاً على المشجب.
فنظر موفق إلى المشجب، وقال لجمال : لا أرى أيّ شـــيء معلّق على المشجب.
فقال جمال بصــوت هازىء : ألا تعرف أنّ العقل لا يُرى؟ وإذا كان العقل لا يُرى، فكيف تريد أن تراه؟
فلم ينطق موفق العاني بكلمة، وظلّ ساكتاً ، فقال له جمال بيدس : لن تخسر شيئاً إذا حاولت تقليدي. جّرب مرة ولن تندم.
وظلّ جمال بيدس يتحدث عن فوائد اكتشافه حتّى نعس موفق العاني، فودع صديقه، وغادر المستشفى من غير أن تتنبه له موظفة الاستعلامات التي كانت منهمكة في التحدث إلى زميلة لها، وسار بسرعة في الشوارع الموصلة إلى بيته، فاسترعى انتباهه ضجيج رجال يتزاحمون لرؤية ما يتحلقون حوله، فاندسّ بينهم، فإذا هم يتفرجون على شابّ يغتصــب امرأة ألقاها على الأرض، والمرأة تبكي وتولول وتستغيث فلا يأبه لها أحد، وتحدّق إليها العيون كأنّها تتابع أحداث فيلم سينمائي مشوّق، فهرول موفق العاني عائداً إلى بيته، وما إن استلقى على سريره لاهثاً حتّى صار الشـــابَ الذي يغتصب المرأة غير مكترث لتوسلاتها، وصار المرأة التي تُغتصب وتطلق صيحات الاستغاثة غير المجديّة، وصار العيون المحملقة بتشفّ إلى الرجل المغتصِب والمرأة المغتصَـبة، وشعر بأنّ ما كان في داخل رأسه ويعتز به قد انسحب انسحاب الشوك من اللحم، ولم يجد مشجباً، وارتمى في سلّة مهملات ملأى بالجرائد الممزقة وأعقاب السجائر، فلم يحاول استعادته، وأغمض عينيه مستمتعاً براحة لم يعرفها من قبل، وفاقداً القدرة على أن يفكر ويحسّ ويغضب ويخجل، وناسيّاً الكتب التي قرأها والأفلام السينمائية التي شاهدها والأغاني التي استمع لها والمدن التي زارها والشوارع التي تسكع على أرصفتها والحفر التي وقع فيها والأمطار التي بللته والغيوم التي حلقت فوقه والمقاهي التي جلس فيها والطيور التي حلم بمطاردتها، وناسيّاً كلّ الأصدقاء وضحكات الأطفال والنساء ووجه أبيه ووجه أمّه ووجوه إخوته .
وما حدث لموفق العاني لم يبال به، ولكنّه كان واثقاً بأنه سيعاود في يوم قريب زيارة صديقه في المستشفى ليسخر من المشاجب منوّهاً بسلات المهملات وفوائدها .
* من كتاب " سنضحك " 1998
قال موفق العاني : سأدفع ما تشائين.
فقالت الموظفة : مادمت كريماً إلى هذا الحد، فسأخبرك برقم غرفته مجاناً. ستجده في الطابق الثاني.. الغرفة رقم 17.
وهمّ موفق العاني بالمسير، فاستوقفته الموظفة متسائلة : وكم ستدفع إذا أخبرتك برقم غرفتي في الليل؟
قال موفق العاني : لست مليونيراً.
فقالت الموظفة وهيّ تضحــك : عدْ بعد أن تزور صـــديقك، وسنتفق ولن نختلف.
فصعد موفق العاني الدرج إلى الطابق الثاني، وسارفي دهاليز عريضة، كثيرة الغرف، وكلّ غرفة لها باب مطلي بلون أبيض، ثبت به رقم معدني .
وعثر موفق العاني على الغرفة رقم 17، ففتح بابها، ودخل إليها، فرأى ثلاثة رجال ذوي ثياب بيض يتزاحمون على امرأة مستلقية على ظهرها تضحك وتنصح الرجال بالقليل من الصبر والتقيّد بالنظام، فبهت موفق العاني، وتجمد في مكانه مفتوح الفم، فتنبه إليه أحــد الرجال، ودنا منه متجهم الوجه، وســأله بصوت فظّ : ماذا تريد؟
فتزايد ارتباك موفق العاني، وقال متسائلاً : أهنا الغرفة رقم 17؟
قال الرجل : هذه الغرفة خاصـــة بالأطباء، رقمــها 37 وليس 17، فكيف لم تره؟ أأنت أعمى؟
فتمتم موفق العاني بكلمات الاعتذار، وغادر الغرفة، وعاود السير في الدهاليز العريضة باحثاً عن الغرفة رقم 17، ولمّا وجدها لم يبادر إلى فتح بابها إلاّ بعد أن تأكّد مراراً من صحة الرقم .
وما إن دخل موفق العاني الغرفة رقم 17 حتّى رأى صديقه جمــال بيدس متمدداً على ســرير ضــيق، فصـــــافحه بحرارة، وســأله عن أحواله الصــحية، فقال جمال : أحوالي الصحية ممتازة، ولكنّي أحياناً أعاني بعض المتاعب بسبب عقلي ، فأخلعه وأعلّقه هناك.
وأشار جمال إلى مشجب خشبيّ مثبت بالحائط، ثم أردف قائلاً : وحين أرتاح وأشبع راحة أعيد عقلي إلى مكانه.
فقال موفق : بلا مزح ! هل العقل جورب تلبســـه متى تشـــاء وتخلعه متى تشــــاء؟
قال جمال : أنا لا أمزح، وأنت حرّ في أن تصدق كلامي أو لا تصدقه، ولكنّي أروي لك بصدق ما أفعل كلّ يوم، ففي ساعات الصباح يحلو لي أن أخلع عقلي وأعلّقه هناك على المشجب.
فقال موفــق وهو يضحــك : وعقلك الآن؟ أهوّ في رأســك أم معلّق على المشجب؟
قال جمال : ما هذا السؤال؟ ألا تراه؟ انظر إليه تره معلّقاً على المشجب.
فنظر موفق إلى المشجب، وقال لجمال : لا أرى أيّ شـــيء معلّق على المشجب.
فقال جمال بصــوت هازىء : ألا تعرف أنّ العقل لا يُرى؟ وإذا كان العقل لا يُرى، فكيف تريد أن تراه؟
فلم ينطق موفق العاني بكلمة، وظلّ ساكتاً ، فقال له جمال بيدس : لن تخسر شيئاً إذا حاولت تقليدي. جّرب مرة ولن تندم.
وظلّ جمال بيدس يتحدث عن فوائد اكتشافه حتّى نعس موفق العاني، فودع صديقه، وغادر المستشفى من غير أن تتنبه له موظفة الاستعلامات التي كانت منهمكة في التحدث إلى زميلة لها، وسار بسرعة في الشوارع الموصلة إلى بيته، فاسترعى انتباهه ضجيج رجال يتزاحمون لرؤية ما يتحلقون حوله، فاندسّ بينهم، فإذا هم يتفرجون على شابّ يغتصــب امرأة ألقاها على الأرض، والمرأة تبكي وتولول وتستغيث فلا يأبه لها أحد، وتحدّق إليها العيون كأنّها تتابع أحداث فيلم سينمائي مشوّق، فهرول موفق العاني عائداً إلى بيته، وما إن استلقى على سريره لاهثاً حتّى صار الشـــابَ الذي يغتصب المرأة غير مكترث لتوسلاتها، وصار المرأة التي تُغتصب وتطلق صيحات الاستغاثة غير المجديّة، وصار العيون المحملقة بتشفّ إلى الرجل المغتصِب والمرأة المغتصَـبة، وشعر بأنّ ما كان في داخل رأسه ويعتز به قد انسحب انسحاب الشوك من اللحم، ولم يجد مشجباً، وارتمى في سلّة مهملات ملأى بالجرائد الممزقة وأعقاب السجائر، فلم يحاول استعادته، وأغمض عينيه مستمتعاً براحة لم يعرفها من قبل، وفاقداً القدرة على أن يفكر ويحسّ ويغضب ويخجل، وناسيّاً الكتب التي قرأها والأفلام السينمائية التي شاهدها والأغاني التي استمع لها والمدن التي زارها والشوارع التي تسكع على أرصفتها والحفر التي وقع فيها والأمطار التي بللته والغيوم التي حلقت فوقه والمقاهي التي جلس فيها والطيور التي حلم بمطاردتها، وناسيّاً كلّ الأصدقاء وضحكات الأطفال والنساء ووجه أبيه ووجه أمّه ووجوه إخوته .
وما حدث لموفق العاني لم يبال به، ولكنّه كان واثقاً بأنه سيعاود في يوم قريب زيارة صديقه في المستشفى ليسخر من المشاجب منوّهاً بسلات المهملات وفوائدها .
* من كتاب " سنضحك " 1998