هذه الليلة هادئة، كل شئ فيها هادئ. ستار من ضباب شفاف انزاح، لتشع النجوم على الأرض، وتلمع الكواكب في الملكوت البعيد. فجأة, يختفي كل شئ.تذوي النجوم ,تأفل الكواكب، حتى المزارع والسواقي تختفي، وتسمع من بعيد ضحكات رنانة, مبتهجة, أحيانا ساخرة، تضحك في أرجاء السماء، في أرجاء العالم٠في وثبة سريعة منزعجة، ينهض دوشكو من فراشه، يتخبط باحثا عن المصباح على طرف السرير، أضاءه، ٱنسحبت عيناه إلى السقف، حفيف الرياح يرعش أغصان الشجرة المحاذية لنافذة غرفته، لن يستطيع الإغفاء مرة أخرى.
حافي القدمين، يتوجه بخطى هاربة إلى الحمام، يسكب الماء البارد على وجهه، يضع كفيه على أذنيه، تنطلق شهقات باكية متشنجة، يحاول كتمها بقبضة يده يضغط بها على شفتيه المرتعدتين.يتمتم ..” سأجن..ياإلهي سأجن.”طيلة أيام تدور به الوساوس دورانا، إنه لشئ غريب حير عقله.في السابق، اعتقد أن طلاء السقف قد تأثر بالأمطار الشتوية التي هطلت بكثافة غير معهودة، فقام بتغيير الطلاء. صار البيت جديدا, ولم يبد أنه عانى من كارثة ما، لكن فرحته لم تدم طويلا، فسرعان ما أخذ الطلاء يتقشر شيئا فشيئا.
ظن أن الرطوبة كانت أشد مما يتصور، وأن السقف يحتاج إلى إصلاح جذري من أساسه، فقام بحفره ونزع كل مواده السابقة، وإعادة بنائه من جديد وإحكام سد الثغرات التي من الممكن أن الرطوبة تنفذ منها، كانت أشغال بناء السقف متينة، فقد حرص كل الحرص أن يشرف عليها بنفسه. لكن ظهور البقع مرة أخرى كاد أن يطيش بعقله، قرر أن يتجاهل الأمر،غير أن ذلك كان يؤرقه خصوصا عندما ازدادت كمية الطلاء المتساقط. سمع طرقا على الباب، فتحه، فظهر أيدين:- استيقظت باكرا هذا الصباح.- لم أنم قط.لاحت لأيدين ملامح التيه الشاحب على وجه صديقه:- لا تقل لي مرة أخرى أنه السقف.- مرة أخرى.- إذن، لم لا تتركه يتلاشى هذا الطلاء، فقد أتعبك كثيرا هذا السقف.يبدو على دوشكو شيئا من الترنح بالرغم من هيأته المتماسكة تلك، عاتبه أيدين بلطف :- لم تتغير أبدا مع خمرة الصباح.- إنها خمرة عتيقة وغالية من ستولاتش٠٠خذ٠مده بكأس، ٱبتسم أيدين لمزحة صديقه الذي هز كتفيه لامباليا:ـ “كما تحب”٠٠لوح بيده المرتخية٠٠”ههه٠٠أنت بكامل وعيك، أنا٠٠أريد فقدان وعيي٠تجشأ، ثم مد يده بتثاقل ليفتح علبة السجائر، سقطت منه، حدق فيها وهي على الأرض ولم يكرر المحاولة٠ قال أيدين متفحصا هيأة دوشكو المرثية:
– صرت تثمل يوما بعد يوم، يجب أن تنتبه لنفسك.
– لا عليك، لن يضرني ذلك.
جلس أيدين على الكرسي المقابل وهو يجول بعينيه على السقف الذي انتشرت فيه بقع تتمدد يوما بعد يوم، فعلا غريب، لكنه أراد أن يرفع من معنويات صديقه:
– ماذا ينقصك، أنت لم تفقد أحدا، وبيتك في مكانه، لديك كل شئ لتكون سعيدا.حملق دوشكو في وجه صديقه وهو ليس متأكدا من أنه يدر حقيقة ما يقوله:
– هممم٠٠ أجل، بيتي في مكانه، لكن كم وددت لو طار هذا السقف مع قذيفة ما.
صمت برهة من الزمن قبل أن يتساءل بصوت متردد حانق:
– ألم تسمع شيئا هذه الليلة؟
– مثل ماذا؟
– ضحكات عالية.. أعلى من أي ضحكات قد تكون سمعتها في حياتك.
– لا، لم أسمع.
– لأنك جاري الأقرب، خلتك سمعت ذلك، ولكن كيف لم تسمع، إنها مجلجلة، قد تسمعها القرية بأكملها.
انسابت بوادر شكوك إلى أيدين الذي شعر بجدية مخاوف دوشكو، رفع رأسه مرة أخرى إلى السقف، أيمكن أن تكون لعنة ما اختمرت في هذا البيت ردحا من الزمن قبل أن تقرر الإعلان عن نفسها، أم هي مجرد أوهام صديقه الثمل، لكنه يعترف في قرارة نفسه، أن دوشكو لم يكن يشرب لهذا الحد في ما مضى، وقد صار مضطربا هذه الأيام، ولن يكون ذلك بدون سبب، ففعلا، كانت البقع مقلقة، وأكثر ما يقلق فيها أنها تتمدد بطيئة وبإحكام دقيق وكأن ريشة ما ترسمها .أمام صمت صديقه الشارد في السقف، تكلم دوشكو وقد هز كتفيه مستهزئا من الفكرة التي خطرت فجأة على باله:
– تظنني مجنونا..هه..تظنني كذلك.!
– أظن أن عليك أن تتخلص من هذه الكأس.
نظر بأسف إلى فوضى القنينات على المائدة، قال بنبرة معاتبة:
– لقد جعلت من بيتك حانة ..هيا، لنخرج ونتجول قليلا.أقفل دوشكو باب بيته في تلك اللحظة التي أطلت عين من السقف.على مشارف حقول جرابافتشي، مروج تغري بالإستلقاء، لكنهما لم يتوقفا، وصلا إلى السياج الخشبي الذي يفصل مزرعتيهما، اتكآ عليه، السياج قديم ذو هيأة شائخة، لسعته الشمس لسعا حتى شحب لونه، غير بعيد ظهر ذخان يتصاعد من مذخنة بيت أيدين، وعلى حافة المزارع المحاذية، سراب الأفق متموج مع شذرات الشمس السليطة، تمتم أيدين وهو يحجب بيده الشمس عن عينيه:- كم هو حار هذا اليوم.!راح دوشكو يمسح العرق من على جبينه، سأل بلسان بطيئ متلعثم :
– كيف هم الأصدقاء في زڤورنيك ؟
– أن نظل نحن الأصدقاء نعيش، لم يهلك أحد منا، ما رأيك؟.أومأ دوشكو برأسه بحركات شاردة، ثم قال صادقا:- إنها أعجوبة.هز أيدين كتفيه مستسلما:
– كانت كل رصاصة تحمل إسم صاحبها.قال دوشكو مستغربا:
– لم تحمل أسماءنا نحن.ثم انفجر ضاحكا، انفجاره طال للحظات التفت خلالها أيدين، لا، لا يبدو أنه بخير، صار متأكدا الآن أن خمرة ستولاتش العتيقة لم تكن السبب. نظر إلى السماء، ثمة غيوم شفافة لكنها مختنقة بالقيظ، غالبا ما تتبعها رياح مطرية مفاجئة، كما يحدث كل صيف. الآن، توقف دوشكو عن الضحك، يظهر أنه لم يأت من القلب، كما لو كان يضحك متعمدا، كما لوأراد أن يمزق شيئا، كما لو يتحمل نفسه٠ تلك التكشيرة قاسية على شفتيه، تمتم وعينيه ذابلتين في التخوم المشتعلة:- لا أريد أن أعود إلى زڤورنيك.
– وماذا ستفعل حتى وإن عدت إلى هناك، لا يوجد عمل.قال دون اكتراث:
– قد أطلي الجدران.
انفجر مرة أخرى ضاحكا قبل أن يضيف في امتعاض: ”..تبا، أنا بئيس.”
أعماقه تصرخ في صمت، كان أيدين يزيده ارتباكا، أيدين الذي يجهل تلك الأشياء المختفية في جوف دوشكو، يجب أن يتجرأ ويقولها، ليصرخ الآن في وجه أيدين، ليخبره عن صديقه دوشكو، أنا دوشكو.. كنت أضع اللثام لكي لا يتعرف علي أحدكم، كنت أخفي عنكم وجهي، أراكم ولا ترونني، أعرفكم ولا تعرفونني..هيا دوشكو..لتلق أشياءك ولينته الأمر. لكن الصرخة تنحبس في حلقه، لم يستطع التفوه بكلمة حتى أمام مرآة، لم يقلها لنفسه بصوت عال أبدا، حتى أصدقاءه الذين كانوا يعلمون انتهووا جميعا، منهم زوج إيڤانا، كم كان يخاف أن يفشي سره، وكم سعد بخبر مقتله في إحدى الكمائن، تمتم في نفسه..”ذاك الكلب المتهور الشديد على النساء”.“وأنت يا دوشكو..من أنت!؟ .”نظر إلى جانبه٠٠إلى الأعلى٠٠من أين أتى الصوت!؟، أجفل ثم صرخ كما لو يطرد تلك الهلوسات بصوت مختنق متثاقل:- كفى، أريد أن أنام.- وهل تعتقد نفسك مستيقظا!؟.مد أيدين بصره إلى الأفق المتماوج مع خيوط الشمس، مفكرا في هذه الهوة التي يغرق فيها دوشكو بألم بئيس، غير مدرك أن تلك الهوة كانت عميقة لدرجة أن صوته بدا على مسامع دوشكو بعيدا كما لو ينقض هابطا من السماء:
– إسمع..لا تكن مأساويا، تحتاج إلى زوجة، صدقني سترى إن لم تتغير حالك.
– ومن ستصلح لي من نساء القرية، هل هي إليزابيتا ذات الصدر الضخم، أم هي إيڤانا الفواحة برائحة الحظيرة.
– لا تمزح! إيڤانا هي زوجة صديقك الهالك، لم لا تتزوجها فهي وحيدة مثلك تماما.- أبدا..أبدا..لن أفكر في ذلك.
– حسن، حسن، لا تغضب، ذلك من شأنك.كيف خطرت مثل هذه الفكرة الغريبة على ذهن صديقه، يا إلهي، آخر شئ قد يفكر فيه، بل لن تخطر على باله حتى ولو في الحلم، راح يشتم في خاطره
..”ذاك الكلب المتهور الشديد على النساء”.“وأنت يا دوشكو..من أنت!؟ .
”يتردد الصدى في أرجاء السماء، في أرجاء العالم …” وأنت يا دوشكو ..من أنت!؟..وأنت يا دوشكو.. من أنت!؟ .”…ضرب بيده في الهواء، كأنه يبعد ذاك الصوت المتردد في أرجاء السماء، في أرجاء العالم.. ابتعد بغتة عن ظهر السياج:- سأعود إلى البيت.- طيب.وهما يمشيان، إذ يلتقيان بمجموعة من المزارعين على حصادة في طريقها إلى البيدر، لوح أحدهم بيده نحوهما:
ـ أهلا أيدين، كيف الحال.
ـ بخير.
ـ وأنت يا دوشكو، فقدناك لمدة طويلة، اعتقدناك هالكا، أين كنت كل ذاك الوقت؟.- كنت أحتمي.- بيتك محظوظ، قليلة البيوت التي لم تدمر.
– أجل.. محظوظ..مثل بيتك يا عزيزي زوهديا، وبيتك يا إيبرو .
– جيد أنك أنهيت بناء السقف، سيجف ويتماسك بسرعة تحت هذه الحرارة.قال أيدين دون أن يحس بأنه يفشي سرا:- إلا أن سقف البيت يعاني من مشكلة، لا نعلم هل هي رطوبة أم طلاء غير جيد، ليس على ما يرام ذاك السقف.قال أحد المزارعين:- أتمزح!..إنه أجود أنواع الآجر والإسمنت والحديد.- ومع هذا فهو مليئ بالبقع الداكنة.أضاف آخر وهو يثب من فوق الحصادة.- لنلق نظرة إذن، ونرى ماهي المشكلة.سار الجميع نحو البيت، فتح دوشكو الباب، ولم يحتاجوا للتوغل أكثر إلى الذاخل، فقد توقفت نظراتهم على سقف الفناء الواسع، تمتم أحدهم في ذهول:- ما ذاك الشئ؟.!الصورة منقوشة على الجدار، قطع الطلاء الأبيض متناثرة على أرضية البيت، لم تكن هذا الصباح سوى بقعا متمددة بشكل مقلق، لكنها الآن اكتسحت كل السقف لتظهرصورة امرأة وشعرها متناثر بتموج ساحرعلى السقف يكاد يكون حقيقيا، لم يكن ذهولهم أكبر من ذهول دوشكو، لكن لا أحد منهم كان يسمع تلك القهقهة الساخرة المنبعثة من الصورة المنقوشة، لا أحد يسمع صدى الكلمات الرنانة المدمرة لكل ذرة تحمل لدى دوشكو… ” وأنت يا دوشكو..من أنت!؟..وأنت يا دوشكو ..من أنت!؟ .”..صرخ: – ألا تسمعون؟.مأخوذين بالسقف المنقوش بالصورة الغريبة، وجه المرأة محايد، يكاد يبتسم دون أن ينوي ذلك فعلا، وجه المرأة غامض.لم يأبه أحد بصراخ دوشكو، أو لم يسمعوا، صرخ مرة أخرى حانقا، يكاد يسقط، يكاد يصطدم بالحائط، يكاد يشتم: – تبا ألا تسمعون.ردوا بعد برهة دون أن يلتفتوا إليه:- لا نسمع شيئا، لكننا نرى الوجه على السقف، هذا لغز غريب.أمسك دوشكو برأسه الذي يتمزق صداعا، ترنح هذه المرة ترنحا، الصوت ذو النواقيس مجلجل في رأسه، بدا وجهه مسعورا وقد ابيضت عيناه. خرج مسرعا يطوي الأرض من تحت قدميه، يطأ على ظله الممتد إلى حدود المنحدرات، ينزلق ظله على المنحدرات، يطأ دوشكو ظله المنزلق بين المنحدرات، الهارب تحت شمس الظهيرة المكشرة. جرى أيدين والمزارعين وراءه منادين:- دوشكو.. دوشكو..توقف، عد يا دوشكو..لكن دوشكو لم يكن يسمع، كان يصرخ عاليا ممسكا برأسه، يعلو صراخه ليختفي وراء التلة المحتشدة بأشجار القبقب.انتشر الخبر سريعا في القرية، هرع الناس محتشدين صغارا وكبارا إلى بيت دوشكو. ينظرون إلى السقف، تكاد تلك الرموش ترف، وتلك الخصلات تنسدل، مرت سيدة عجوز ذات رداء أسود، اتكأت على عكازها، قالت:- إن الأرواح تقطن هذا البيت، كان على دوشكو أن يأتي بقسيس ليطردها، كما أني أعرف دوشكو جيدا، إنه لم يتل صلوات القديسين، أكيد لم يفعل.انتشر خبر السقف في كل أرجاء البلاد، دب سريعا في أرجاء السماء، في أرجاء العالم. انتشر لغزه بين جهابذة السحرة و وسطاء الأرواح، لم يعرف أكثر القساوسة حكمة له حلا… لكن پيروياتش* تعرف٠
* پيروياتش: أكبر مقبرة للإبادة الجماعية في أوروبا، ٱكتشفت سنة 2010، ضمت 2000 جثة من ضحايا إبادة سكان سريبرنتسا٠
- من مجموعة «أيام بوسنية» الفائزة بجائزة الطيب صالح
* منقولة عن:
sadazakera.wordpress.com
حافي القدمين، يتوجه بخطى هاربة إلى الحمام، يسكب الماء البارد على وجهه، يضع كفيه على أذنيه، تنطلق شهقات باكية متشنجة، يحاول كتمها بقبضة يده يضغط بها على شفتيه المرتعدتين.يتمتم ..” سأجن..ياإلهي سأجن.”طيلة أيام تدور به الوساوس دورانا، إنه لشئ غريب حير عقله.في السابق، اعتقد أن طلاء السقف قد تأثر بالأمطار الشتوية التي هطلت بكثافة غير معهودة، فقام بتغيير الطلاء. صار البيت جديدا, ولم يبد أنه عانى من كارثة ما، لكن فرحته لم تدم طويلا، فسرعان ما أخذ الطلاء يتقشر شيئا فشيئا.
ظن أن الرطوبة كانت أشد مما يتصور، وأن السقف يحتاج إلى إصلاح جذري من أساسه، فقام بحفره ونزع كل مواده السابقة، وإعادة بنائه من جديد وإحكام سد الثغرات التي من الممكن أن الرطوبة تنفذ منها، كانت أشغال بناء السقف متينة، فقد حرص كل الحرص أن يشرف عليها بنفسه. لكن ظهور البقع مرة أخرى كاد أن يطيش بعقله، قرر أن يتجاهل الأمر،غير أن ذلك كان يؤرقه خصوصا عندما ازدادت كمية الطلاء المتساقط. سمع طرقا على الباب، فتحه، فظهر أيدين:- استيقظت باكرا هذا الصباح.- لم أنم قط.لاحت لأيدين ملامح التيه الشاحب على وجه صديقه:- لا تقل لي مرة أخرى أنه السقف.- مرة أخرى.- إذن، لم لا تتركه يتلاشى هذا الطلاء، فقد أتعبك كثيرا هذا السقف.يبدو على دوشكو شيئا من الترنح بالرغم من هيأته المتماسكة تلك، عاتبه أيدين بلطف :- لم تتغير أبدا مع خمرة الصباح.- إنها خمرة عتيقة وغالية من ستولاتش٠٠خذ٠مده بكأس، ٱبتسم أيدين لمزحة صديقه الذي هز كتفيه لامباليا:ـ “كما تحب”٠٠لوح بيده المرتخية٠٠”ههه٠٠أنت بكامل وعيك، أنا٠٠أريد فقدان وعيي٠تجشأ، ثم مد يده بتثاقل ليفتح علبة السجائر، سقطت منه، حدق فيها وهي على الأرض ولم يكرر المحاولة٠ قال أيدين متفحصا هيأة دوشكو المرثية:
– صرت تثمل يوما بعد يوم، يجب أن تنتبه لنفسك.
– لا عليك، لن يضرني ذلك.
جلس أيدين على الكرسي المقابل وهو يجول بعينيه على السقف الذي انتشرت فيه بقع تتمدد يوما بعد يوم، فعلا غريب، لكنه أراد أن يرفع من معنويات صديقه:
– ماذا ينقصك، أنت لم تفقد أحدا، وبيتك في مكانه، لديك كل شئ لتكون سعيدا.حملق دوشكو في وجه صديقه وهو ليس متأكدا من أنه يدر حقيقة ما يقوله:
– هممم٠٠ أجل، بيتي في مكانه، لكن كم وددت لو طار هذا السقف مع قذيفة ما.
صمت برهة من الزمن قبل أن يتساءل بصوت متردد حانق:
– ألم تسمع شيئا هذه الليلة؟
– مثل ماذا؟
– ضحكات عالية.. أعلى من أي ضحكات قد تكون سمعتها في حياتك.
– لا، لم أسمع.
– لأنك جاري الأقرب، خلتك سمعت ذلك، ولكن كيف لم تسمع، إنها مجلجلة، قد تسمعها القرية بأكملها.
انسابت بوادر شكوك إلى أيدين الذي شعر بجدية مخاوف دوشكو، رفع رأسه مرة أخرى إلى السقف، أيمكن أن تكون لعنة ما اختمرت في هذا البيت ردحا من الزمن قبل أن تقرر الإعلان عن نفسها، أم هي مجرد أوهام صديقه الثمل، لكنه يعترف في قرارة نفسه، أن دوشكو لم يكن يشرب لهذا الحد في ما مضى، وقد صار مضطربا هذه الأيام، ولن يكون ذلك بدون سبب، ففعلا، كانت البقع مقلقة، وأكثر ما يقلق فيها أنها تتمدد بطيئة وبإحكام دقيق وكأن ريشة ما ترسمها .أمام صمت صديقه الشارد في السقف، تكلم دوشكو وقد هز كتفيه مستهزئا من الفكرة التي خطرت فجأة على باله:
– تظنني مجنونا..هه..تظنني كذلك.!
– أظن أن عليك أن تتخلص من هذه الكأس.
نظر بأسف إلى فوضى القنينات على المائدة، قال بنبرة معاتبة:
– لقد جعلت من بيتك حانة ..هيا، لنخرج ونتجول قليلا.أقفل دوشكو باب بيته في تلك اللحظة التي أطلت عين من السقف.على مشارف حقول جرابافتشي، مروج تغري بالإستلقاء، لكنهما لم يتوقفا، وصلا إلى السياج الخشبي الذي يفصل مزرعتيهما، اتكآ عليه، السياج قديم ذو هيأة شائخة، لسعته الشمس لسعا حتى شحب لونه، غير بعيد ظهر ذخان يتصاعد من مذخنة بيت أيدين، وعلى حافة المزارع المحاذية، سراب الأفق متموج مع شذرات الشمس السليطة، تمتم أيدين وهو يحجب بيده الشمس عن عينيه:- كم هو حار هذا اليوم.!راح دوشكو يمسح العرق من على جبينه، سأل بلسان بطيئ متلعثم :
– كيف هم الأصدقاء في زڤورنيك ؟
– أن نظل نحن الأصدقاء نعيش، لم يهلك أحد منا، ما رأيك؟.أومأ دوشكو برأسه بحركات شاردة، ثم قال صادقا:- إنها أعجوبة.هز أيدين كتفيه مستسلما:
– كانت كل رصاصة تحمل إسم صاحبها.قال دوشكو مستغربا:
– لم تحمل أسماءنا نحن.ثم انفجر ضاحكا، انفجاره طال للحظات التفت خلالها أيدين، لا، لا يبدو أنه بخير، صار متأكدا الآن أن خمرة ستولاتش العتيقة لم تكن السبب. نظر إلى السماء، ثمة غيوم شفافة لكنها مختنقة بالقيظ، غالبا ما تتبعها رياح مطرية مفاجئة، كما يحدث كل صيف. الآن، توقف دوشكو عن الضحك، يظهر أنه لم يأت من القلب، كما لو كان يضحك متعمدا، كما لوأراد أن يمزق شيئا، كما لو يتحمل نفسه٠ تلك التكشيرة قاسية على شفتيه، تمتم وعينيه ذابلتين في التخوم المشتعلة:- لا أريد أن أعود إلى زڤورنيك.
– وماذا ستفعل حتى وإن عدت إلى هناك، لا يوجد عمل.قال دون اكتراث:
– قد أطلي الجدران.
انفجر مرة أخرى ضاحكا قبل أن يضيف في امتعاض: ”..تبا، أنا بئيس.”
أعماقه تصرخ في صمت، كان أيدين يزيده ارتباكا، أيدين الذي يجهل تلك الأشياء المختفية في جوف دوشكو، يجب أن يتجرأ ويقولها، ليصرخ الآن في وجه أيدين، ليخبره عن صديقه دوشكو، أنا دوشكو.. كنت أضع اللثام لكي لا يتعرف علي أحدكم، كنت أخفي عنكم وجهي، أراكم ولا ترونني، أعرفكم ولا تعرفونني..هيا دوشكو..لتلق أشياءك ولينته الأمر. لكن الصرخة تنحبس في حلقه، لم يستطع التفوه بكلمة حتى أمام مرآة، لم يقلها لنفسه بصوت عال أبدا، حتى أصدقاءه الذين كانوا يعلمون انتهووا جميعا، منهم زوج إيڤانا، كم كان يخاف أن يفشي سره، وكم سعد بخبر مقتله في إحدى الكمائن، تمتم في نفسه..”ذاك الكلب المتهور الشديد على النساء”.“وأنت يا دوشكو..من أنت!؟ .”نظر إلى جانبه٠٠إلى الأعلى٠٠من أين أتى الصوت!؟، أجفل ثم صرخ كما لو يطرد تلك الهلوسات بصوت مختنق متثاقل:- كفى، أريد أن أنام.- وهل تعتقد نفسك مستيقظا!؟.مد أيدين بصره إلى الأفق المتماوج مع خيوط الشمس، مفكرا في هذه الهوة التي يغرق فيها دوشكو بألم بئيس، غير مدرك أن تلك الهوة كانت عميقة لدرجة أن صوته بدا على مسامع دوشكو بعيدا كما لو ينقض هابطا من السماء:
– إسمع..لا تكن مأساويا، تحتاج إلى زوجة، صدقني سترى إن لم تتغير حالك.
– ومن ستصلح لي من نساء القرية، هل هي إليزابيتا ذات الصدر الضخم، أم هي إيڤانا الفواحة برائحة الحظيرة.
– لا تمزح! إيڤانا هي زوجة صديقك الهالك، لم لا تتزوجها فهي وحيدة مثلك تماما.- أبدا..أبدا..لن أفكر في ذلك.
– حسن، حسن، لا تغضب، ذلك من شأنك.كيف خطرت مثل هذه الفكرة الغريبة على ذهن صديقه، يا إلهي، آخر شئ قد يفكر فيه، بل لن تخطر على باله حتى ولو في الحلم، راح يشتم في خاطره
..”ذاك الكلب المتهور الشديد على النساء”.“وأنت يا دوشكو..من أنت!؟ .
”يتردد الصدى في أرجاء السماء، في أرجاء العالم …” وأنت يا دوشكو ..من أنت!؟..وأنت يا دوشكو.. من أنت!؟ .”…ضرب بيده في الهواء، كأنه يبعد ذاك الصوت المتردد في أرجاء السماء، في أرجاء العالم.. ابتعد بغتة عن ظهر السياج:- سأعود إلى البيت.- طيب.وهما يمشيان، إذ يلتقيان بمجموعة من المزارعين على حصادة في طريقها إلى البيدر، لوح أحدهم بيده نحوهما:
ـ أهلا أيدين، كيف الحال.
ـ بخير.
ـ وأنت يا دوشكو، فقدناك لمدة طويلة، اعتقدناك هالكا، أين كنت كل ذاك الوقت؟.- كنت أحتمي.- بيتك محظوظ، قليلة البيوت التي لم تدمر.
– أجل.. محظوظ..مثل بيتك يا عزيزي زوهديا، وبيتك يا إيبرو .
– جيد أنك أنهيت بناء السقف، سيجف ويتماسك بسرعة تحت هذه الحرارة.قال أيدين دون أن يحس بأنه يفشي سرا:- إلا أن سقف البيت يعاني من مشكلة، لا نعلم هل هي رطوبة أم طلاء غير جيد، ليس على ما يرام ذاك السقف.قال أحد المزارعين:- أتمزح!..إنه أجود أنواع الآجر والإسمنت والحديد.- ومع هذا فهو مليئ بالبقع الداكنة.أضاف آخر وهو يثب من فوق الحصادة.- لنلق نظرة إذن، ونرى ماهي المشكلة.سار الجميع نحو البيت، فتح دوشكو الباب، ولم يحتاجوا للتوغل أكثر إلى الذاخل، فقد توقفت نظراتهم على سقف الفناء الواسع، تمتم أحدهم في ذهول:- ما ذاك الشئ؟.!الصورة منقوشة على الجدار، قطع الطلاء الأبيض متناثرة على أرضية البيت، لم تكن هذا الصباح سوى بقعا متمددة بشكل مقلق، لكنها الآن اكتسحت كل السقف لتظهرصورة امرأة وشعرها متناثر بتموج ساحرعلى السقف يكاد يكون حقيقيا، لم يكن ذهولهم أكبر من ذهول دوشكو، لكن لا أحد منهم كان يسمع تلك القهقهة الساخرة المنبعثة من الصورة المنقوشة، لا أحد يسمع صدى الكلمات الرنانة المدمرة لكل ذرة تحمل لدى دوشكو… ” وأنت يا دوشكو..من أنت!؟..وأنت يا دوشكو ..من أنت!؟ .”..صرخ: – ألا تسمعون؟.مأخوذين بالسقف المنقوش بالصورة الغريبة، وجه المرأة محايد، يكاد يبتسم دون أن ينوي ذلك فعلا، وجه المرأة غامض.لم يأبه أحد بصراخ دوشكو، أو لم يسمعوا، صرخ مرة أخرى حانقا، يكاد يسقط، يكاد يصطدم بالحائط، يكاد يشتم: – تبا ألا تسمعون.ردوا بعد برهة دون أن يلتفتوا إليه:- لا نسمع شيئا، لكننا نرى الوجه على السقف، هذا لغز غريب.أمسك دوشكو برأسه الذي يتمزق صداعا، ترنح هذه المرة ترنحا، الصوت ذو النواقيس مجلجل في رأسه، بدا وجهه مسعورا وقد ابيضت عيناه. خرج مسرعا يطوي الأرض من تحت قدميه، يطأ على ظله الممتد إلى حدود المنحدرات، ينزلق ظله على المنحدرات، يطأ دوشكو ظله المنزلق بين المنحدرات، الهارب تحت شمس الظهيرة المكشرة. جرى أيدين والمزارعين وراءه منادين:- دوشكو.. دوشكو..توقف، عد يا دوشكو..لكن دوشكو لم يكن يسمع، كان يصرخ عاليا ممسكا برأسه، يعلو صراخه ليختفي وراء التلة المحتشدة بأشجار القبقب.انتشر الخبر سريعا في القرية، هرع الناس محتشدين صغارا وكبارا إلى بيت دوشكو. ينظرون إلى السقف، تكاد تلك الرموش ترف، وتلك الخصلات تنسدل، مرت سيدة عجوز ذات رداء أسود، اتكأت على عكازها، قالت:- إن الأرواح تقطن هذا البيت، كان على دوشكو أن يأتي بقسيس ليطردها، كما أني أعرف دوشكو جيدا، إنه لم يتل صلوات القديسين، أكيد لم يفعل.انتشر خبر السقف في كل أرجاء البلاد، دب سريعا في أرجاء السماء، في أرجاء العالم. انتشر لغزه بين جهابذة السحرة و وسطاء الأرواح، لم يعرف أكثر القساوسة حكمة له حلا… لكن پيروياتش* تعرف٠
* پيروياتش: أكبر مقبرة للإبادة الجماعية في أوروبا، ٱكتشفت سنة 2010، ضمت 2000 جثة من ضحايا إبادة سكان سريبرنتسا٠
- من مجموعة «أيام بوسنية» الفائزة بجائزة الطيب صالح
* منقولة عن:
خديجة يكن: سقف بيت دوشكو
خديجة يكن – المغربمن مجموعة «أيام بوسنية» الفائزة بجائزة الطيب صالح هذه الليلة هادئة، كل شئ فيها هادئ. ستار من ضباب شفاف انزاح، لتشع النجوم على الأرض، وتلمع الكواكب في الملكوت البعيد. فجأة,…