رعد طاهر كوران - ايوب.. بين النص القرآني والنص الروائي/ قراءة في رواية أيوب ل هشام توفيق الركابي

كثيراً ما يُعتمد النص القرآني مرجعاً في بناء النص الروائي لدى بعض الكتاب ففي رواية ( أيوب )، لـ هشام توفيق الركابي نجد ان الروائي يستقري الأحداث الواردة في النص القرآني من خلال تناولها لقصة النبي أيوب (ع) وصراعه مع المرض، ذلك الصراع المقرون بالصبر الذي مبعثه الإيمان المطلق بالله.واندماج الروح بالجسد :
" ويشق المجذاف صفحة الماء حتى يدب في روحي نشاط عجيب ، مناقض تماماً لحالة جسدي الواهن"( الرواية : 10 ) .
والنصوص القرآنية / المرجع ، هي :
" وأيوب إذ نادى ربه إني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا مابه من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين"(الانبياء:83–84)، و"واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه اني مسني الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب * وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث انا وجدناه صابراً نعم العبد انه اوَّاب"(سورة ص 41 وما بعدها).
ابتداءً يسعى الكاتب إلى القيام بنوع من القلب، فنجده يؤكد جملة ( وأظلع راكضاً ) في مقابل النص القرآني " اركض برجلك " ، والفرق كبير بين دلالة ( الظلع ) و( الركض )، على الرغم من ان المصدرين يشيان بالحركة. ودلالة ( الظلع ) في المتن الروائي تفشي لنا سرَّاً أكبر، هو : قلب منطق المرجع / النص القرآني، الذي أنهى القصة بالشفاء وعودة النبي أيوب ( ع ) الى أهله . في حين ان نهاية البطل في المتن الروائي، هي الموت مجهولاً، وان كان ذلك بعد تحسن حالته الصحية وتماثله للشفاء الذي جاء بعد صبر طويل جداً.
ومن الإشارات التي تحيل الى المرجع، حديث الراوي بلسان المجموع، وكأن الكاتب أراد بـ ( الجمع ) قوم النبي أيوب ( ع ) : " لم نكن حينها نعلم … أثبتت لنا كل الوقائع … الأخبار التي أخذنا نستقيها عنه "( الرواية : 14 ) .
مضيفاً الى تلك الإشارات، ما يشير الى ان الربط بين الديني والسياسي سببه الصراع مع السلطة، فالبطل :
" لم يعد يمارس أي نشاط سياسي " . وانه " يتوضأ ثم يصلي في طرف الجامع"(الرواية:19) . أي انه لا علاقة له بالسياسة، انما هو ملتزم دينياً . وتتكرر لفظة (النهر) كمعادل موضوعي لـ (المغتسل/الماء البارد) في النص القرآني.
اما الثيمة الرئيسة التي يستمدها الكاتب من النص المرجع ، فتكمن في (الصبر) المقرون بالإيمان، الذي يتحول في المتن الروائي الى ( متوالية الصبر مع العذاب ) . فأيوب -في الرواية- يسجن عشر سنوات بسبب اتهامه بالقيام بنشاط سياسي محظور، ويلاقي في أثناء سجنه أشكالاً من العذاب، يصبر إزاءها صبراً مرَّاً حتى يقضي مدة حكمه ويعود الى قريته ليفاجأ بعد أيام باعتقاله مجدداً بعد ان قام (السيد) – العنوان المتنفذ في القرية - بتلفيق تهمة قتل أيوب لصديقه عذاب. (وهنا إشارة دلالية أخرى إلى أن الصبر يقتل العذاب ويشفي النفس) ويحكم عليه بالسجن لمدة اثني عشر عاماً مع الأشغال الشاقة. و( الشاقة ) تحديداً تجعل المتلقي يفكر بحجم الصبر الذي يحتاج إليه أيوب لمواجهة محنته الجديدة. وبعد انقضاء مدة السجن وبطريقة أخرى مدبرة تقوم السلطات الصحية باعتقاله،لإصابته بمرض( الجذام )، وينفى بعيداً عن أهله في محتجزٍ للمرضى المجذومين. ويتجدد صبره هنا في صراعه مع المرض . ويقضي ما يقارب الخمسة عشر عاماً في ذلك المحتجز النائي .
ثم يأخذ القص شكل التداعيات التي لاتفارقها ( متوالية الصبر والعذاب )، فأيوب ابنٌ لرجل ريفي فقير، يكمل دراسته الإعدادية، ويحمِّل أسرته عبء الالتحاق بالدراسة الجامعية، وما تتطلبه من مال طوال سنواتها الأربع، حتى يحصل على الشهادة الكبيرة في الزراعة.
" كنت عائداً الى القرية بعد غربة أربع سنوات، حاملاً الشهادة الكبيرة في الزراعة"(الرواية:56).
وقبل التحاقة بالدراسة كانت ثمة علاقة حب نسجت خيوطها بينه وبين ( نجلاء ) ابنة (السيد). وان عدم التكافؤ الطبقي بين الطرفين، والخلاف الكبير بين أسرة أيوب و (السيد)، جعل منها علاقة عليلة، احتاج معها أيوب إلى الكثير من الصبر. فضلاً عن العذابات ( الحسيَّة ) التي تعرض لها جراء علاقته بنجلاء، فهو يعاني من القيد الذي كبلته فيه نجلاء ، باشتراطها عليه عدم الاقتراب منها ومس جسدها في مقابل حبها له. على الرغم من لجوئها المستمر الى سلسلة من الإثارات التي جعلته يفقد توازنه :
" – الجو ساخن
وحررت الزر الثاني وانحنت بتعمد نحو الأرض، فاندلق نهدان كعنقودين من أجمل ما خلق الله، ثم استقامت قائلة : ولهذا تراني لا أرتدي مشدات الصدر. دمدمت وقد استحال تنفسي لهاثاً متصاعداً… "( الرواية : 64 ). " وحررت بقية الأزرار . وانتصبت بشموخ. كان سعار الرغبة قد ارتفع في رأسي لدرجة بدا معها وقوفي أمامها كما تريد محالاً. فاستدرت بوجهي صوب الباب أتلقف الهواء وأنا أكاد اختنق " ( الرواية : 65 ).
ويستمر التداعي بتسلسل الأحداث المعكوس ، كما هو الحال في السينما الحديثة التي تقدم خواتم الأعمال السينمائية في بداية الفيلم، ثم تعود – بواسطة التداعي – إلى قص الأحداث من خلال السرد الصوري والحواري. فيقدم الكاتب إلى القارئ، المشاهد المرتبطة ببداية تعرف أيوب بنجلاء، ومعاناة البوح بحبه إليها :
" تعددت رؤيتي لنجلاء اثر ذلك. بيد ان سنة أخرى مضت دون أن تثمر كل تلك اللقاءات السرية عن فرصة واحدة تمكنني من ان أبثها بعضاً مما أعانيه أو اهمس في أذنها كلمة حب … " ( الرواية : 98 ) .
ولم تتوقف تلك المتوالية عند هذا الحد، بل تعدتها لتدخل في باب السياسة، وما أفرزته الفئات المستعمرة (المحتلة)، وأذنابها من سموم فتكت بأبناء الشعب، وما يلاقيه أيوب الشاب المثقف الواعي جراء هذا العذاب الجديد الذي يضاف الى عذاباته الأخرى، بل يختلط معها :
" الغرب يتجسد في صورة امرأة، النظام الاستعماري الشره لالتهام خيرات الشعوب واستغلالها ابشع استغلال لمصالحه الخاصة "( الرواية : 126 – 127 ) .
إلى أن تبرز متوالية الصبر إلى حيز الخطاب المكتوب بلسان الشخصية، وفي لغتها، من خلال المحاورة التي تجرى بين أيوب وبين الطبيب الذي يشرف على علاجه في المشفى/المنفى:
" انت تعرف كم تقدم الطب في زماننا ، ولكن كل ما تحتاجه هو شيء من الصبر ..
* " بل الكثير منه يا دكتور .. "( الرواية :194 ). ومثلما ألمحنا قبل قليل ، فان (أيوب/الرواية) يبقى بعيداً عن أهله، وحيداً، فيموت، ويختلف الناس حتى في موته، فأيوب هو أيوب، وأيوب ليس بأيوب :
" بيد ان القرية اثر ذلك غرقت في تكهنات وظنون لا آخر لها تتعلق بحقيقة الرجل الذي تم اكتشاف جثته في الكوخ . أكانت تلك الجثة المشوهة المتآكلة لأيوب أم لا ؟….. وان لم تكن، فمن هو "( الرواية : 201 ).
لقد رفض أيوب الحياة بملء إرادته، سرَّت إلينا بذلك مجموعة الأوراق " التي تم العثور عليها في كيس من ( النايلون )، أوراق لا بداية لها ولا نهاية، وبلا تسلسل زمني واضح، وليس فيها ما يومئ إلى تاريخ معين باستثناء عبارة في أول صفحة تقول :
" أخيراً ، وبعد مضي خمسة عشر عاماً وثلاثة أشهر ، أصبح بإمكاني مغادرة هذا المنفى الآسن النائي، والى الأبد .. "( الرواية : 205 ).
ويبدو للقارئ ان قصدية الكاتب في التعمية التي نشرها حول شخصية أيوب، أراد بها تعميم الحالة وإظهار معاناة الناس وصبرهم إزاء الظلم المحيق بهم ، وان العبارة الأخيرة المنطوقة بلسان الشخصية، تشي بان ( المنفى ) هو الحياة التي يعيشها أبناء البلد ، وليس المحتجز الخاص بالمجذومين، بدليل عدم تحديد الزمان والمكان والخلط بين الأوراق التي عثر عليها والتي ليس لها بداية ولا نهاية كما ألمح النص.



د. رعد طاهر كوران
شاعر وأكاديمي من العراق





ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...