أجلس في صالة بيتي تغيرت ملامحها بعد أن نقلنا المكتب و"الكنبة" ، والمنضدة المغطاة بلوحة من الرخام الأسود الجميل إلى المطبخ، فأصبحت شبه خالية، بعد أن أسدلنا ستارة زرقاء كثيفة على نافذة الشرفة، وبعد أن تبدلت الأماكن التي كانت تُوضع فيها صور الأسرة على رفوف المكتبة الكبيرة الداكنة ذات الحشوات العربية، فأصبحت صورة والدتي تنتصب إلى جوار صورة "نوال" بينما كانت في السابق معلقة على الجدار فوق سريري، وبعد أن رُفعت الكليمات الحمراء التي ابتعناها أثناء رحلة إلى "العريش" ، فصار البلاط الأبيض عارياً يلمع في ضوء الكشافات، وامتدت فوقه الأسلاك والكابلات الكهربائية تُشبه الثعابين لتُغذي أجهزة تسجيل الصوت و"المونيتور"، وكاميرات "الديجيتال" الحديثة.
أجلس على أحد المقعدين المتبقيين في الصالة. أمامي على المقعد الثاني يجلس المذيع طويل القامة، أنيق، تطل عيناه السوداوان الهادئتين من وجهه الأبيض الخالي من التجاعيد فأشعر أنه جاء من عالم غير العالم الذي أنا فيه. لكني حتى أتسلل إلى عالمه تركت نفسي لأصابع "الماكيير" الشاب، ذي الشعر الطويل، والصوت الأنثوي قليلاً. تركتها تمر على وجهي كالفراشات أكاد لا أُحس بها، تقص شعرة هنا وشعرة هناك، وتلمس جبهتي بفرشاة عليها "الكومباكت" الأرجواني اللون. خضعت له بعد أن وعدني بألا يُخفي التجاعيد، ألا يُغير ملامحي حتى أصبح شاباً، وأبدو وسيماً، رغم أنه في لحظة كان في داخلي صوت همس إليّ "وما الضرر في أن تبدو وسيماً؟"، قبل أن يهمس في اللحظة التي تليها "أُتريد أن تُخفي مرور السنين ؟"
حتى أتسلل إلى عالم صديقي المذيع ارتديت قميصاً قرمزي اللون، وبنطالاً أسود أنيقاً نادراً ما أرتديه. حرصت أن يكون ما تبقى من شعري ممشطاً بعناية، وأن يكون ذقني ناعماً لا تظهر فيه الشعيرات الشائبة القصيرة، ثم تركته يصفني أثناء الحوار الذي دار بيننا بالكاتب الروائي الذي لم ينل ما يستحقه من تقدير، أن يسألني عن أبي، وأمي، و"نوال"، وعن زوجتي السابقة، وعلاقاتي بهم، عن تجارب عشتها في السجن، والأحاسيس التي مررت بها وأنا فيه، وهل ينتابني شعور بالندم بعد الطريق الذي سلكته في حياتي وجعلني أخسر الكثير مما يسعى إليه الآخرون. تركته يقول أنني مناضل خضت المعارك وواجهت التحديات التي يشخى أن يُواجهها أناس كثيرين.
جلست أمامه مستغرقاً في الحوار، راضياً عن الدور الذي أٌقوم به، عن الكاميرات المسلطة عليّ، عن لحظات من النجومية أعيشها، عن نيل قدر من الشهرة والتقدير لم أتعود الحصول عليهما. لكن في الوقت نفسه أحسست أن في قمة رأسي عين صغيرة ساهرة تسخر مني ، وتتساءل إن كنت فعلاً الشخص الذي يتحدث عنه، والشخصية التي ستظهر بعد أيام أو أسابيع على الشاشة التليفزيونية لتتسلل إلى المقاهي والبيوت، إلى الجالسين أمامها يتفرجون عليّ في أماكن كثيرة. أم أنني في هذه اللحظات أتقمص دوراً تعلمت أن أُتقن تمثيله .
قبل اليوم المحدد للتسجيل اقترح معد البرنامج أن نقضي بعض الوقت في بلدتي ليقوم بتصويري فيها. لم أكن سافرت إليها منذ شهور فوافقت. هكذا في ذلك الصباح وجدت نفسي هابطاً على المدك الترابي الذي يقود بين الحقول إلى عزبة "الكوادي". عند شجرة للجميز يعود عمرها إلى أكثر من قرن كان ينتظرنا عدد من الفلاحين تعرفت عليهم منذ سنين، منذ أن كانوا أطفالاً يجمعون القطن من الحقول في موسم الصيف، وأصبحوا الآن في العقد السادس أو السابع من العمر.
بعد تبادل التحيات توجهنا معهم إلى غيط أكبرهم سناً، فلاح يُدعى "سويكر أبو جبل". جلسنا على أجولة من الخيش خلف "عريشة" وقفت تحتها جاموستان تمضغان في كوم من البرسيم. كان الجو صافياً بعد يومين سقط فيهما المطر فلمعت حقول البرسيم والقمح والفول في أشعات الشمس الذهبية الدافئة. جلست مقرفصاً على الأرض تاركاً الهواء النقي يملأ رئتي، شاعراً بالسكينة تتسلل إليّ، بينما انشغل معد البرنامج بتسجيل بعض اللقطات، وقام فلاح يُدعى "شعبان" ليُشعل "راكية" نار وضع عليها براداً من الصاج صب فيه من "باكو" للشاي. بعد قليل دارت علينا الأكواب ملأها بالسائل الداكن اللون تصعد منه رائحة الحطب المحروق لتُعيدني إلى أيام بعيدة كنت أقضيها معهم في الغيط. ومع الشاي دار الحديث حول الموضوعات الأثيرة لديهم : " أرض الطمي بتسبب ندوة للمحاصيل عشان الميه بقت ملوثة" .. " تجاوي البطاطس عمناول كانت مضروبة" .. "محافظ الجيزة بيحتكر الحجن بتاعة أنفلونزا الطيور".. " الإيجار السنة وصل أربعتلاف ومتين جنيه".. "أسعار الطجاوي، والكيماوي، والمجاومة بتزيد".. "الرز مجابش غير تلاتة طن بدل أربعة ونص".
أجلس بينهم وأستمع إليهم، إلى تعليقات حول ظروفهم فيها سخرية، إلى ضحكات تنطلق بسهولة تلقائية. أتأمل الوجوه الخشنة المعروقة حفرت فيها حياة قضوها، كما يقولون، في "الشقا ". سألت كل منهم عن سنه وبعد أن أجابوني قلت لهم : "دا أنتم كلكم شباب بالنسبة لي" فضحكوا في سرور، وقال "محمود النفياوي" : "يا دكطور العمر بيد الله، وربنا يديك الصحة." فسألته: " يعني ما نقدرش نطول فيه؟" فقالوا في صوت واحد : " لا ده مكتوب من جبل الواحد ما يتولد"، وأضاف "محمود" : " فيه حاجتين مكتوبين ما يتغيروش العمر، والرزج." قلت:" يبقى فاضل إيه يا "محمود" ، مفيهومش إستئناف ولا نقد ؟ " فعلت الضحكات. قال "عبد الجواد": "هيبجي فيه استئناف ولا نجد إزاي إذا كان مكتوب؟" قلت : "إفرضوا إن الواحد منا كان كويس، ما بيظلمش حد ، ولا بيعمل حاجة وحشة، ربنا ما يأجلش موته شوية ؟ " ترددت الضحكات في صخب وبعد أن هدأت علق "الصاوي بدر" قائلاً : "ربنا يعوضه بجا في الجنة." قلت : " لا ياجماعة ، كل حاجة ممكن تتغير، وربنا جايز يغير النصيب. مش بتقولوا لما الحال يبقى وحش ربنا يعدلها " ، فسرحت العيون وبدا عليهم التفكير.
انتهت الجلسة وسرنا حتى المكان الذي أوقف فيه السائق "حسين" السيارة. بعد أن ودعناهم قاد السيارة فوق الكيلو مترات الأربع التي تفصل بلدتي " القضابة" عن عزبة "الكوادي"، وهناك خطر في بالي أن نزور "الجبانة " حتى أرى ما وصلت إليه، فسرنا على الأقدام حتى الحارة التي تُوجد فيها . نادينا على الفلاح الذي يحتفظ بمفتاحها الصديء الكبير. فتحنا البوابة ودخلنا إلى "الجبانة" نما فيها بوص كثير من نشع المياه الجوفية في أرضها . خضنا فيه إلى ركنها البعيد حيث كانت تعلو المقبرة الخاصة بي والمبنية بالطوب الأحمر الذي لم يتم طلاؤه بعد. وقفت أمامها . خطر في بالي أنها قبيحة، أنها تُوحي بعهود الإقطاع القديمة، أنني لا أريد أن أُدفن فيها، أنها تحدثني عن الموت الذي ينتظرني فشعرت بعبث الحياة ، وتفاهة أشياء كثيرة كنت أفكر فيها وأسعى إليها.
أجلس على أحد المقعدين المتبقيين في الصالة. أمامي على المقعد الثاني يجلس المذيع طويل القامة، أنيق، تطل عيناه السوداوان الهادئتين من وجهه الأبيض الخالي من التجاعيد فأشعر أنه جاء من عالم غير العالم الذي أنا فيه. لكني حتى أتسلل إلى عالمه تركت نفسي لأصابع "الماكيير" الشاب، ذي الشعر الطويل، والصوت الأنثوي قليلاً. تركتها تمر على وجهي كالفراشات أكاد لا أُحس بها، تقص شعرة هنا وشعرة هناك، وتلمس جبهتي بفرشاة عليها "الكومباكت" الأرجواني اللون. خضعت له بعد أن وعدني بألا يُخفي التجاعيد، ألا يُغير ملامحي حتى أصبح شاباً، وأبدو وسيماً، رغم أنه في لحظة كان في داخلي صوت همس إليّ "وما الضرر في أن تبدو وسيماً؟"، قبل أن يهمس في اللحظة التي تليها "أُتريد أن تُخفي مرور السنين ؟"
حتى أتسلل إلى عالم صديقي المذيع ارتديت قميصاً قرمزي اللون، وبنطالاً أسود أنيقاً نادراً ما أرتديه. حرصت أن يكون ما تبقى من شعري ممشطاً بعناية، وأن يكون ذقني ناعماً لا تظهر فيه الشعيرات الشائبة القصيرة، ثم تركته يصفني أثناء الحوار الذي دار بيننا بالكاتب الروائي الذي لم ينل ما يستحقه من تقدير، أن يسألني عن أبي، وأمي، و"نوال"، وعن زوجتي السابقة، وعلاقاتي بهم، عن تجارب عشتها في السجن، والأحاسيس التي مررت بها وأنا فيه، وهل ينتابني شعور بالندم بعد الطريق الذي سلكته في حياتي وجعلني أخسر الكثير مما يسعى إليه الآخرون. تركته يقول أنني مناضل خضت المعارك وواجهت التحديات التي يشخى أن يُواجهها أناس كثيرين.
جلست أمامه مستغرقاً في الحوار، راضياً عن الدور الذي أٌقوم به، عن الكاميرات المسلطة عليّ، عن لحظات من النجومية أعيشها، عن نيل قدر من الشهرة والتقدير لم أتعود الحصول عليهما. لكن في الوقت نفسه أحسست أن في قمة رأسي عين صغيرة ساهرة تسخر مني ، وتتساءل إن كنت فعلاً الشخص الذي يتحدث عنه، والشخصية التي ستظهر بعد أيام أو أسابيع على الشاشة التليفزيونية لتتسلل إلى المقاهي والبيوت، إلى الجالسين أمامها يتفرجون عليّ في أماكن كثيرة. أم أنني في هذه اللحظات أتقمص دوراً تعلمت أن أُتقن تمثيله .
قبل اليوم المحدد للتسجيل اقترح معد البرنامج أن نقضي بعض الوقت في بلدتي ليقوم بتصويري فيها. لم أكن سافرت إليها منذ شهور فوافقت. هكذا في ذلك الصباح وجدت نفسي هابطاً على المدك الترابي الذي يقود بين الحقول إلى عزبة "الكوادي". عند شجرة للجميز يعود عمرها إلى أكثر من قرن كان ينتظرنا عدد من الفلاحين تعرفت عليهم منذ سنين، منذ أن كانوا أطفالاً يجمعون القطن من الحقول في موسم الصيف، وأصبحوا الآن في العقد السادس أو السابع من العمر.
بعد تبادل التحيات توجهنا معهم إلى غيط أكبرهم سناً، فلاح يُدعى "سويكر أبو جبل". جلسنا على أجولة من الخيش خلف "عريشة" وقفت تحتها جاموستان تمضغان في كوم من البرسيم. كان الجو صافياً بعد يومين سقط فيهما المطر فلمعت حقول البرسيم والقمح والفول في أشعات الشمس الذهبية الدافئة. جلست مقرفصاً على الأرض تاركاً الهواء النقي يملأ رئتي، شاعراً بالسكينة تتسلل إليّ، بينما انشغل معد البرنامج بتسجيل بعض اللقطات، وقام فلاح يُدعى "شعبان" ليُشعل "راكية" نار وضع عليها براداً من الصاج صب فيه من "باكو" للشاي. بعد قليل دارت علينا الأكواب ملأها بالسائل الداكن اللون تصعد منه رائحة الحطب المحروق لتُعيدني إلى أيام بعيدة كنت أقضيها معهم في الغيط. ومع الشاي دار الحديث حول الموضوعات الأثيرة لديهم : " أرض الطمي بتسبب ندوة للمحاصيل عشان الميه بقت ملوثة" .. " تجاوي البطاطس عمناول كانت مضروبة" .. "محافظ الجيزة بيحتكر الحجن بتاعة أنفلونزا الطيور".. " الإيجار السنة وصل أربعتلاف ومتين جنيه".. "أسعار الطجاوي، والكيماوي، والمجاومة بتزيد".. "الرز مجابش غير تلاتة طن بدل أربعة ونص".
أجلس بينهم وأستمع إليهم، إلى تعليقات حول ظروفهم فيها سخرية، إلى ضحكات تنطلق بسهولة تلقائية. أتأمل الوجوه الخشنة المعروقة حفرت فيها حياة قضوها، كما يقولون، في "الشقا ". سألت كل منهم عن سنه وبعد أن أجابوني قلت لهم : "دا أنتم كلكم شباب بالنسبة لي" فضحكوا في سرور، وقال "محمود النفياوي" : "يا دكطور العمر بيد الله، وربنا يديك الصحة." فسألته: " يعني ما نقدرش نطول فيه؟" فقالوا في صوت واحد : " لا ده مكتوب من جبل الواحد ما يتولد"، وأضاف "محمود" : " فيه حاجتين مكتوبين ما يتغيروش العمر، والرزج." قلت:" يبقى فاضل إيه يا "محمود" ، مفيهومش إستئناف ولا نقد ؟ " فعلت الضحكات. قال "عبد الجواد": "هيبجي فيه استئناف ولا نجد إزاي إذا كان مكتوب؟" قلت : "إفرضوا إن الواحد منا كان كويس، ما بيظلمش حد ، ولا بيعمل حاجة وحشة، ربنا ما يأجلش موته شوية ؟ " ترددت الضحكات في صخب وبعد أن هدأت علق "الصاوي بدر" قائلاً : "ربنا يعوضه بجا في الجنة." قلت : " لا ياجماعة ، كل حاجة ممكن تتغير، وربنا جايز يغير النصيب. مش بتقولوا لما الحال يبقى وحش ربنا يعدلها " ، فسرحت العيون وبدا عليهم التفكير.
انتهت الجلسة وسرنا حتى المكان الذي أوقف فيه السائق "حسين" السيارة. بعد أن ودعناهم قاد السيارة فوق الكيلو مترات الأربع التي تفصل بلدتي " القضابة" عن عزبة "الكوادي"، وهناك خطر في بالي أن نزور "الجبانة " حتى أرى ما وصلت إليه، فسرنا على الأقدام حتى الحارة التي تُوجد فيها . نادينا على الفلاح الذي يحتفظ بمفتاحها الصديء الكبير. فتحنا البوابة ودخلنا إلى "الجبانة" نما فيها بوص كثير من نشع المياه الجوفية في أرضها . خضنا فيه إلى ركنها البعيد حيث كانت تعلو المقبرة الخاصة بي والمبنية بالطوب الأحمر الذي لم يتم طلاؤه بعد. وقفت أمامها . خطر في بالي أنها قبيحة، أنها تُوحي بعهود الإقطاع القديمة، أنني لا أريد أن أُدفن فيها، أنها تحدثني عن الموت الذي ينتظرني فشعرت بعبث الحياة ، وتفاهة أشياء كثيرة كنت أفكر فيها وأسعى إليها.