في السنة الماضية، أكملت حركة التوحيد والإصلاح 20 سنة من عمرها التنظيمي، وإن كان ميلادها الفكري والسياسي والإيديولوجي يرجع إلى أكثر من 45 سنة، هو تاريخ الحركة الإسلامية المغربية التي جاءت تعبيرا عن «صحوة دينية»، بتعبير أهلها، وجاءت رد فعل على قسوة الاستبداد وصعود اليسار، وميلاد جيل ضائع بين ثقافتي الشرق والغرب… الحركة مقبلة على مؤتمر جديد مطلع مارس، وهي فرصة لمناقشة هذا التيار من تيارات الإسلام السياسي في اختياراته، ونظرته إلى المجتمع والدولة، وعلاقته بالسياسة والعمل الحزبي.
الإسلاميون في المغرب مذاهب ونحل، جماعات وتيارات، وأفكار ومشاريع تلتقي كلها عند الدعوة إلى الرجوع إلى النبع الصافي (الكتاب وسنة وسيرة السلف الصالح)، بعدها يختلف الإسلاميون في كل شيء، في قراءة النص، وفي تنزيل مقاصده، وفي فهم الواقع المعقد حولهم، فمنهم من فارق مجتمعه، وابتعد عنه بدعوى أنه جاهلي (المرجعية القطبية)، واتجه إلى شحذ العواطف لمقاومة الظلم وإزالة الشرعية عن الحاكم والمحكوم على السواء، ومنهم من رفع راية الإصلاح وسط جماعة المسلمين «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت»، ومنهم من أحيى التراث الصوفي بنزعة سياسية، محاولا أن يجعل من التربية العرفانية مفتاحا لتغيير الفرد والجماعة.
عاش الإسلاميون في المغرب، كما عاش نظراؤهم في المشرق، مسلسل تحولات ومراجعات وتغييرات كبيرة انتهت اليوم إلى ميلاد ثلاثة تيارات رئيسة وهي: حركة التوحيد والإصلاح، وهي حركة إصلاحية محافظة، وجماعة العدل والإحسان، وهي حركة صوفية تربويا راديكالية سياسيا، والسلفيون، وهم ينقسمون إلى قسمين؛ تيار سلفي إحيائي جله مرتبط بالوهابية فكرا ومنهجا، وهو يروج لـ«تدين نفعي» يتمسك بالطقوس ويسكت عن الجوهر حتى لا يصطدم بالسلطة، وتيار جهادي مرتبط فكريا وتنظيميا بالقاعدة أو داعش، أو ما تفرع أو سيتفرع عنهما من تعبيرات راديكالية غاضبة توسلت بالإرهاب طريقة لتثبيت نفوذها، وبث الفوضى في عالم لا تملك الأدوات لفهمه، فما بالك بتغييره.
في ما يخص حركة التوحيد والإصلاح، التي انبثقت عن اجتماع تيارين داخلها (حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي) قبل 20 سنة.. هذه الحركة هي اليوم الأكثر تأثيرا في المشهد الديني والسياسي في المغرب، رغم أنها ليست الأكبر عددا وتنظيما، لكن «مرونة قادتها»، وتوجههم المبكر إلى تأسيس ذراع سياسي تحت غطاء حزب عبد الكريم الخطيب، جعل من الحركة رقما مهما في الساحة السياسية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه ألقى بتحديات ومخاطر جديدة على فكرتها وبنيتها ومشاركتها في الشأن العام… وهنا نبدي جملة ملاحظات نقدية على المسار العام لهذه الحركة الإسلامية:
أولا: مطلوب من الحركة اليوم، في ظل التحولات الجارية، أن تعيد تعريف هويتها ووظيفتها ومناهج اشتغالها، فهل هي حركة إسلامية على شاكلة الحركات الإسلامية المشرقية (الإخوان المسلمون مثلا)، التي تحمل مشروعا دينيا لتغيير طبيعة مجتمعاتها وعقيدة دولتها، فتسعى إلى الإمساك بالسلطة مقدمة للإمساك بالمجتمع، وإعادة تربيته على مقتضى فهمها للشريعة الإسلامية ومقاصد الدين في ظل «دولة الخلافة»، المستحيلة التحقق اليوم، بالنظر إلى الفهم الحديث والمعاصر للدولة وللاقتصاد وللعلاقات الدولية، أم إن حركة التوحيد والإصلاح هي مجرد حركة إصلاحية تشتغل في الحقل المدني، كما باقي تنظيمات المجتمع المدني، لا تسعى إلى السلطة من منطلق تفويض إلهي، ولا ترمي إلى أكثر من الإسهام في إدخال البعد الروحي إلى السياسات العمومية، والدفاع عن قيم العدل والمساواة والإنصاف والإحسان والتسامح والغفران، مصداقا لقوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ». العدل هو الهدف الأسمى للدين، الذي يعتبر رأسمالا رمزيا مشتركا بين جميع المغاربة، ولا يعطي أحدا امتياز احتكاره أو تأسيس مشروعية سياسية عليه… نعم، الحركة تعلن تشبثها ببعض عناصر الجواب الثاني، لكنها لم تؤسس بعد هذا الخيار فكريا وفلسفيا بما يكفي حتى تخرج الحركة الإسلامية المغربية من الطابع الأصولي إلى الطابع المحافظ.
ثانيا: ترفع الحركة شعار ترشيد التدين في بيئة محافظة، وهو هدف كبير وضروري اليوم مع زيادة الطلب على التدين بكل أنماطه، في مناخ يسود فيه الإحباط النفسي والسياسي، جراء فشل مشاريع التنمية وازدياد الفقر والتهميش والحرمان وعدم المساواة، والظلم السياسي والاجتماعي، فيصير التدين هنا ليس مجرد منزع روحي لتهذيب السلوك، وتصحيح المفاهيم، والسعي بالخير بين الناس، بل يصير الطلب على التدين، أو نمط منه على الأقل، تعبيرا عن الغضب من السلطة والمجتمع، ورغبة في الانتقام من الدولة، والتمرد على النظام الدولي الذي يراه الفرد المقهور ظالما في حقه، وفي حق ما يراه قضايا عادلة. هنا يصبح التدين بمثابة «ديناميت» معبأ في نفوس ضيقة، ترى أن الحل هو الجهاد، والمفاصلة والتكفير، ومجاهدة العدو القريب قبل البعيد، وما في معنى هذه المفاهيم التي ترجع إلى الفقه القديم للحرب (الباحث الفرنسي أوليفيي روا لا يرى في الداعشي شخصا متدينا ورعا متشددا استقطبته داعش على أسس إيديولوجية، بل يرى في الداعشي شخصا متمردا، وهو يعيش عزلتين؛ الأولى عن تدين آبائه، والثانية عن ثقافة مجتمعه، وهو ثانيا شخص منحرف جرب السجن والخمر وحياة الليل وأصبح مطاردا ذا سوابق، وهو، ثالثا، راديكالي وجد في الإسلام الداعشي سلاحا فعالا لنشر الرعب في مجتمع لم يعد يقبل به).
الجهادي اليوم ليس إسلاميا متطرفا، بل هو شخص عنيف يسعى إلى أسلمة تطرفه لانطلاقه مما يوجد في سوق «الراديكالية اليوم». إنه إسلام القطيعة: القطيعة الجيلية، القطيعة الثقافية، وأخيرا القطيعة السياسية. السؤال اليوم مطروح على الحركة صاحبة مشروع ترشيد التدين: هل ستكتفي بالوعظ والإرشاد والخطابة، وترديد نشيد الإسلام الوسطي المعتدل، كما تفعل وزارة الأوقاف، أم إنه من الضروري أن تسعى إلى تفكيك بنية التطرف سوسيولوجيا وإيديولوجيا وسياسيا، قبل الوصول إلى تفكيك المقولات التي يشحن بها الشباب الغاضب والضائع؟ وهذا ما أرى أنه غير موجود بالشكل المطلوب في مشاريع حركة الشيخي وخطابها وتفكيرها المشغول بالسياسة اليومية وبمجريات ويوميات حزب العدالة والتنمية.
غدا نقف عند علاقة السياسي بالدعوي، وعند إشكالية الإسلام المغربي في كتاب التوحيد والإصلاح.
الإسلاميون في المغرب مذاهب ونحل، جماعات وتيارات، وأفكار ومشاريع تلتقي كلها عند الدعوة إلى الرجوع إلى النبع الصافي (الكتاب وسنة وسيرة السلف الصالح)، بعدها يختلف الإسلاميون في كل شيء، في قراءة النص، وفي تنزيل مقاصده، وفي فهم الواقع المعقد حولهم، فمنهم من فارق مجتمعه، وابتعد عنه بدعوى أنه جاهلي (المرجعية القطبية)، واتجه إلى شحذ العواطف لمقاومة الظلم وإزالة الشرعية عن الحاكم والمحكوم على السواء، ومنهم من رفع راية الإصلاح وسط جماعة المسلمين «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت»، ومنهم من أحيى التراث الصوفي بنزعة سياسية، محاولا أن يجعل من التربية العرفانية مفتاحا لتغيير الفرد والجماعة.
عاش الإسلاميون في المغرب، كما عاش نظراؤهم في المشرق، مسلسل تحولات ومراجعات وتغييرات كبيرة انتهت اليوم إلى ميلاد ثلاثة تيارات رئيسة وهي: حركة التوحيد والإصلاح، وهي حركة إصلاحية محافظة، وجماعة العدل والإحسان، وهي حركة صوفية تربويا راديكالية سياسيا، والسلفيون، وهم ينقسمون إلى قسمين؛ تيار سلفي إحيائي جله مرتبط بالوهابية فكرا ومنهجا، وهو يروج لـ«تدين نفعي» يتمسك بالطقوس ويسكت عن الجوهر حتى لا يصطدم بالسلطة، وتيار جهادي مرتبط فكريا وتنظيميا بالقاعدة أو داعش، أو ما تفرع أو سيتفرع عنهما من تعبيرات راديكالية غاضبة توسلت بالإرهاب طريقة لتثبيت نفوذها، وبث الفوضى في عالم لا تملك الأدوات لفهمه، فما بالك بتغييره.
في ما يخص حركة التوحيد والإصلاح، التي انبثقت عن اجتماع تيارين داخلها (حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي) قبل 20 سنة.. هذه الحركة هي اليوم الأكثر تأثيرا في المشهد الديني والسياسي في المغرب، رغم أنها ليست الأكبر عددا وتنظيما، لكن «مرونة قادتها»، وتوجههم المبكر إلى تأسيس ذراع سياسي تحت غطاء حزب عبد الكريم الخطيب، جعل من الحركة رقما مهما في الساحة السياسية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه ألقى بتحديات ومخاطر جديدة على فكرتها وبنيتها ومشاركتها في الشأن العام… وهنا نبدي جملة ملاحظات نقدية على المسار العام لهذه الحركة الإسلامية:
أولا: مطلوب من الحركة اليوم، في ظل التحولات الجارية، أن تعيد تعريف هويتها ووظيفتها ومناهج اشتغالها، فهل هي حركة إسلامية على شاكلة الحركات الإسلامية المشرقية (الإخوان المسلمون مثلا)، التي تحمل مشروعا دينيا لتغيير طبيعة مجتمعاتها وعقيدة دولتها، فتسعى إلى الإمساك بالسلطة مقدمة للإمساك بالمجتمع، وإعادة تربيته على مقتضى فهمها للشريعة الإسلامية ومقاصد الدين في ظل «دولة الخلافة»، المستحيلة التحقق اليوم، بالنظر إلى الفهم الحديث والمعاصر للدولة وللاقتصاد وللعلاقات الدولية، أم إن حركة التوحيد والإصلاح هي مجرد حركة إصلاحية تشتغل في الحقل المدني، كما باقي تنظيمات المجتمع المدني، لا تسعى إلى السلطة من منطلق تفويض إلهي، ولا ترمي إلى أكثر من الإسهام في إدخال البعد الروحي إلى السياسات العمومية، والدفاع عن قيم العدل والمساواة والإنصاف والإحسان والتسامح والغفران، مصداقا لقوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ». العدل هو الهدف الأسمى للدين، الذي يعتبر رأسمالا رمزيا مشتركا بين جميع المغاربة، ولا يعطي أحدا امتياز احتكاره أو تأسيس مشروعية سياسية عليه… نعم، الحركة تعلن تشبثها ببعض عناصر الجواب الثاني، لكنها لم تؤسس بعد هذا الخيار فكريا وفلسفيا بما يكفي حتى تخرج الحركة الإسلامية المغربية من الطابع الأصولي إلى الطابع المحافظ.
ثانيا: ترفع الحركة شعار ترشيد التدين في بيئة محافظة، وهو هدف كبير وضروري اليوم مع زيادة الطلب على التدين بكل أنماطه، في مناخ يسود فيه الإحباط النفسي والسياسي، جراء فشل مشاريع التنمية وازدياد الفقر والتهميش والحرمان وعدم المساواة، والظلم السياسي والاجتماعي، فيصير التدين هنا ليس مجرد منزع روحي لتهذيب السلوك، وتصحيح المفاهيم، والسعي بالخير بين الناس، بل يصير الطلب على التدين، أو نمط منه على الأقل، تعبيرا عن الغضب من السلطة والمجتمع، ورغبة في الانتقام من الدولة، والتمرد على النظام الدولي الذي يراه الفرد المقهور ظالما في حقه، وفي حق ما يراه قضايا عادلة. هنا يصبح التدين بمثابة «ديناميت» معبأ في نفوس ضيقة، ترى أن الحل هو الجهاد، والمفاصلة والتكفير، ومجاهدة العدو القريب قبل البعيد، وما في معنى هذه المفاهيم التي ترجع إلى الفقه القديم للحرب (الباحث الفرنسي أوليفيي روا لا يرى في الداعشي شخصا متدينا ورعا متشددا استقطبته داعش على أسس إيديولوجية، بل يرى في الداعشي شخصا متمردا، وهو يعيش عزلتين؛ الأولى عن تدين آبائه، والثانية عن ثقافة مجتمعه، وهو ثانيا شخص منحرف جرب السجن والخمر وحياة الليل وأصبح مطاردا ذا سوابق، وهو، ثالثا، راديكالي وجد في الإسلام الداعشي سلاحا فعالا لنشر الرعب في مجتمع لم يعد يقبل به).
الجهادي اليوم ليس إسلاميا متطرفا، بل هو شخص عنيف يسعى إلى أسلمة تطرفه لانطلاقه مما يوجد في سوق «الراديكالية اليوم». إنه إسلام القطيعة: القطيعة الجيلية، القطيعة الثقافية، وأخيرا القطيعة السياسية. السؤال اليوم مطروح على الحركة صاحبة مشروع ترشيد التدين: هل ستكتفي بالوعظ والإرشاد والخطابة، وترديد نشيد الإسلام الوسطي المعتدل، كما تفعل وزارة الأوقاف، أم إنه من الضروري أن تسعى إلى تفكيك بنية التطرف سوسيولوجيا وإيديولوجيا وسياسيا، قبل الوصول إلى تفكيك المقولات التي يشحن بها الشباب الغاضب والضائع؟ وهذا ما أرى أنه غير موجود بالشكل المطلوب في مشاريع حركة الشيخي وخطابها وتفكيرها المشغول بالسياسة اليومية وبمجريات ويوميات حزب العدالة والتنمية.
غدا نقف عند علاقة السياسي بالدعوي، وعند إشكالية الإسلام المغربي في كتاب التوحيد والإصلاح.