قبل سنوات وقعت في يدي مجموعة قصصية لكاتب تركي ، دبج المترجم تمجيدا وقداسة لمؤلفها دفعتني إلى قراءة قصصه تلك. وكم فوجئت بسخافة تلك القصص وسطحيتها ، ومن ضمنها قصة الحمار الذي كان يسير في الغابة ، فلمح من البعيد أسدا ، تبادل الحمار والأسد النظرات فالتفت عنه الحمار وقال:
- هذا ليس أسد.. ليس أسد..انه مجرد وهم.
حينما رأى الأسد غفلة الحمار تقدم ببطء وزأر فالتفت نحوه الحمار وحدجه بنظرة فاحصة ثم غمغم بعد تنهيقة عالية:
- هذا ليس أسد.ليس أسد..
وظل الحمار يردد ذلك حتى التهمه الأسد.
لقد أحسست حينئذ بأنني تورطت في قراءة ذلك الكاتب التركي من شدة سذاجة تلك القصة.
غير أنني بعد سنوات العمر الطويلة والبائسة ؛ حيث تأملت أنسال البشر تخبط في أقدارها ، وتتكأكأ على مدارج الوجود والفناء ، الحزن والفرح ، الجوع والشبع ، الروى والعطش ، الفقر والغنى ، الحروب وهدنته المتبعثرة. أدركت معنى قصة ذلك التركي.
فالبشر حقا يمارسون ذات ما فعله الحمار ، إنهم يتجاهلون الحقيقة. بل ويضعون أصابعهم في آذانهم خشية الحقيقة. فالموت أرحم وأرحب من الحقيقة.
والمرء مستعد للقتل وإزهاق روح من يحاول كشف الحقيقة أمام عينيه.
كان بعض الهنود المسلمين يقلون بقرة على شاحنة صغيرة ، متجهين بها نحو مذبح بعيد ، غير أن حظهم العاثر أوقعهم أمام جمع من الهندوس ، فقبضوا على المسلمين ونحروا أحدهم انتقاما من إهانة البقرة المقدسة وتركوا الآخرين يلوذوا بالفرار ليكونوا عبرة لغيرهم.
والحق أن هذا ليس شأن الهندوس وحدهم ، فلكل إنسان بقرته المقدسة. قد تكون حيوانا أو انسانا أو صنما أو آيدولوجيا أو حتى روحا غير متجسدة إلا داخل تلافيف مخه ، لكنه لا يفتأ يستل سكينه من غمدها ليزهق بها كل من يقترب منها.
وعلى إثر تلك الأبقار المقدسة ، تنشب الحروب وتنهار الحضارات وتنموا الحضارات المنتصرة على أنقاض الأخرى المنهزمة. فكأنما لتلك الأبقار بالفعل قداسة تؤهلها لمنح بركتها من أجل تحقيق النصر لطرف دون طرف.
وعندما تنشب الحروب حتى بين فئتين عابدتين لذات البقرة فإن المنتصر يحقق حكم البقرة المقدسة على خصمه المنهزم. بل ولو تتبعنا أقل من ذلك مرتبة ومأساوية كالمنافسات الرياضية لوجدنا للأبقار حظوة الدعاء من أكف ضارعة للمتنافسين.
ولا يميل المرء غالبا لسماع ما يهدد صورة بقرته في عينيه بل يشمئز وتنسحب روحه وينقبض صدره عند ذلك فإما نأى وأعرض عن محدثه أو حتى قتله وهو حانق كل الحنق ، يبرر حنقه دماء غيره في يده.
ولو كان البشر يتجردون عن انكباب أفئدتهم على أبقارهم لما كان لهم من حوجة لحكومات ومؤسسات قضاء وشرطة وخلافه ؛ غير أنهم لا ينفكون عن مصاحبة خيالهم لمراتع أبقارهم أنى ولت فيولوا وجوههم شطرها وأعينهم تفيض من الدمع.
وتبين لي أن التركي ذاك الذي كتب قصة الحمار والأسد لم يكن ساذجا بقدر ما كان يلخص مسيرة الحيوان البشري منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا وما هو آت.
- هذا ليس أسد.. ليس أسد..انه مجرد وهم.
حينما رأى الأسد غفلة الحمار تقدم ببطء وزأر فالتفت نحوه الحمار وحدجه بنظرة فاحصة ثم غمغم بعد تنهيقة عالية:
- هذا ليس أسد.ليس أسد..
وظل الحمار يردد ذلك حتى التهمه الأسد.
لقد أحسست حينئذ بأنني تورطت في قراءة ذلك الكاتب التركي من شدة سذاجة تلك القصة.
غير أنني بعد سنوات العمر الطويلة والبائسة ؛ حيث تأملت أنسال البشر تخبط في أقدارها ، وتتكأكأ على مدارج الوجود والفناء ، الحزن والفرح ، الجوع والشبع ، الروى والعطش ، الفقر والغنى ، الحروب وهدنته المتبعثرة. أدركت معنى قصة ذلك التركي.
فالبشر حقا يمارسون ذات ما فعله الحمار ، إنهم يتجاهلون الحقيقة. بل ويضعون أصابعهم في آذانهم خشية الحقيقة. فالموت أرحم وأرحب من الحقيقة.
والمرء مستعد للقتل وإزهاق روح من يحاول كشف الحقيقة أمام عينيه.
كان بعض الهنود المسلمين يقلون بقرة على شاحنة صغيرة ، متجهين بها نحو مذبح بعيد ، غير أن حظهم العاثر أوقعهم أمام جمع من الهندوس ، فقبضوا على المسلمين ونحروا أحدهم انتقاما من إهانة البقرة المقدسة وتركوا الآخرين يلوذوا بالفرار ليكونوا عبرة لغيرهم.
والحق أن هذا ليس شأن الهندوس وحدهم ، فلكل إنسان بقرته المقدسة. قد تكون حيوانا أو انسانا أو صنما أو آيدولوجيا أو حتى روحا غير متجسدة إلا داخل تلافيف مخه ، لكنه لا يفتأ يستل سكينه من غمدها ليزهق بها كل من يقترب منها.
وعلى إثر تلك الأبقار المقدسة ، تنشب الحروب وتنهار الحضارات وتنموا الحضارات المنتصرة على أنقاض الأخرى المنهزمة. فكأنما لتلك الأبقار بالفعل قداسة تؤهلها لمنح بركتها من أجل تحقيق النصر لطرف دون طرف.
وعندما تنشب الحروب حتى بين فئتين عابدتين لذات البقرة فإن المنتصر يحقق حكم البقرة المقدسة على خصمه المنهزم. بل ولو تتبعنا أقل من ذلك مرتبة ومأساوية كالمنافسات الرياضية لوجدنا للأبقار حظوة الدعاء من أكف ضارعة للمتنافسين.
ولا يميل المرء غالبا لسماع ما يهدد صورة بقرته في عينيه بل يشمئز وتنسحب روحه وينقبض صدره عند ذلك فإما نأى وأعرض عن محدثه أو حتى قتله وهو حانق كل الحنق ، يبرر حنقه دماء غيره في يده.
ولو كان البشر يتجردون عن انكباب أفئدتهم على أبقارهم لما كان لهم من حوجة لحكومات ومؤسسات قضاء وشرطة وخلافه ؛ غير أنهم لا ينفكون عن مصاحبة خيالهم لمراتع أبقارهم أنى ولت فيولوا وجوههم شطرها وأعينهم تفيض من الدمع.
وتبين لي أن التركي ذاك الذي كتب قصة الحمار والأسد لم يكن ساذجا بقدر ما كان يلخص مسيرة الحيوان البشري منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا وما هو آت.