طه حسين، عباس محمود العقاد، أحمد أمين، زكي مبارك، محمد حسين هيكل، وغيرهم.. أسماء كثيرة لأعلام كبار تنوعت إسهاماتهم في شتى مناحي الفكر والمعرفة، انطلقوا فيما كتبوا من مفهوم وحدة المعرفة، يكفي إطلالة سريعة على قائمة مؤلفات أي منهم لتدرك التنوع الشاسع لعطاءاتهم، لكن اليوم ومع نزعات الميل إلى التخصص اختفت الظاهرة، فترى في أي مجال من يبدع فيه ثم يقتصر عليه دون سواه، فلماذا اختفى الكاتب الموسوعي؟ وهل لم يعد باستطاعة أي كاتب أن يكون موسوعيا؟ وهل لاختفاء تلك الظاهرة آثار سلبية أو إيجابية على حركة الفكر العربي؟
أنساق وسمات
يقول الناقد والأكاديمي المصري حسام عقل: ظاهرة الكاتب الموسوعي ظاهرة أصيلة في الثقافة العربية، فكنت تجد المؤرخ قاضيا وفقيها وشاعرا، ومن يكتب في الفلسفة يكتب أيضا في الطب وفي الفلك، واللغة، لا جدال أن المرحلة الثقافية التي يخوضها رهان الثقافة العربية حاليا، قد طوح بكثير من ثوابت المراحل الماضية، بما فرض من أنساق وخصائص وسمات، وبما طور من رؤى وآليات وزوايا لمعالجة الظواهر وطرحها، فقد كانت النزعة الموسوعية تسم أكثر الإنتاج الأدبي الذي ذاع في القرن الماضي، يوم تفاخر العقاد علنا ًبأن لديه في غرفة مكتبه كرتونة مكتظة بمائة كتاب في "علم الحشرات" فلم تكن مفاخرته بهذه الحيازة المتفردة إلا تجليا بينا لغلبة "الفكرة الموسوعية".
وبالنظر الأولي إلى التنوع الطيفي الذي غلب على نحو مائة كتاب قدمها للمكتبة العربية، سنجد تنوعا في المسارات والتخصصات بين ما هو تاريخي وما هو لغوي وما هو إبداعي شعرا وسردا وما هو ديني أو أنثروبولوجي أو نفسي، فقد كانت هذه الخصيصة الموسوعية ملازمة للمرحلة. ولكن يتعين أن نلاحظ أن هذه النزعة الموسوعية قد تقلصت في الكتابة الأدبية – بعامة – بسبب نزوع المرحلة الحضارية الراهنة إلى تضييق شريحة التخصص بصرامة لا تعرف معنى الترفق، فالناظر في كتب المحدثين لا يأنس أية نزعات موسوعية متطاوسة، وإنما يأنس مسعى شديد الوضوح لتضييق الشريحة، بشكل حاسم شديد الدقة، فالسمة العامة الآن لا يتصدرها شعار ” أن تعرف شيئا عن كل شيء” كما طرحت المراحل السابقة، وإنما ” أن تعرف كل شيء عن شيء واحد بعينه” في إطار النزعة التخصصية التي أزاحت النزعات الموسوعية من الواجهة.
اختلاف المفهوم
هكذا يقر حسام عقل باختفاء الظاهرة ويرجع ذلك إلى سيادة التخصص، لكن زميله بجامعة عين شمس وأستاذ الأدب الإنجليزي مصطفى رياض، يرى أن مفهوم المثقف الموسوعي مازال موجودا في عصرنا لكن مفهومه الحالي اختلف عن ذلك المفهوم الذي عهدناه في منتصف القرن الماضي، نتيجة التطور الهائل الذي أحدثته تكنولوجيا الاتصالات التي أتاحت المعلومات للجميع، بعد أن كانت محصورة في بطون الكتب ومقصورة على الخاصة، ممن يملكون المقدرة المادية والصبر على القراءة والبحث. فلا نستطيع القول إن وجود المثقفين الموسوعيين في حياتنا الفكرية قد تراجع، ولكن نستطيع القول إن قاعدة الثقافة الموسوعية قد اتسعت للجميع بعد الثورة التكنولوجية التي شهدها عالمنا.
ويرى رياض أن المثقف الموسوعي موجود في كل العصور، ومن نماذجه الآن الدكتور محمد عناني، صاحب الـعشرين نصا مسرحيا، فضلا عن عدد غير قليل من الدواوين الشعرية والقصائد مترجمة من العربية للإنجليزية فى حب مصر، ووصف عناني بأنه مترجم ”لا يشق له غبار” فهو رائدا فى مجال الترجمة دون منازع وهو المؤلف المسرحى والأستاذ الجامعى الذى يشبه كثيرا إبداعه المتنوع بالمدرسة الثقافية الشاملة، فعطاء عنانى الأدبى اكتمل بعطاء إنسانى آخر وهو اتصاله بطلابه، وأنه أصبح حلقة وصل بين أجيال من المترجمين.
ويوافقه الرأي الشاعر والمسرحي المصري أحمد سراج ، فهو يرى أن الظاهرة لا تزال موجودة، فلا يخلو عصر من العصور من الكاتب والمفكر الموسوعي، وهنا توجد وجهتا نظر، إحداهما ترى أن هناك مثقفين على درجة عالية من التنوع المعرفي، والأخرى تقول إن لكل إنسان حدوداً معرفية في مجال تخصصه واهتمامه، ولا يمكن لأحد اليوم أن يكون موسوعياً. فعصرنا الحالي يتميز بأنه يشهد صراعا بين التخصص والموسوعية، لذلك يرى كثيرون أن الكاتب الموسوعي قد ندر، وهذا إن حدث فهو طبيعي للزيادة المعلوماتية الرهيبة، مع ما تتيحه شبكات الإنترنت، لكننا إن دققنا فسنجد أن هناك كتابا موسوعيين بارزين بل إنهم علامات مميزة، لدينا مثلا المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري، فهو أستاذ للأدب الإنجليزي، وكاتب لقصص الأطفال، ومترجم وناقل ثقافي وحضاري، فضلا عن انشغالاته الموسوعية.
كذلك يمكن الحديث عن شاكر عبدالحميد وترجماته ومؤلفاته، وعن عماد أبوغازي وإسهاماته في التاريخ والوثائق والمكتبات، وعمار علي حسن في كتبه الفكرية والنقدية والإبداعية. وعن رفعت سلام وترجماته وأشعاره ومقالاته النقدية. كثيرون يمكن ذكرهم ممن يملأون الساحة إبداعا ونقدا وترجمة، فلم يغب الكاتب الموسوعي فقط ظهر بكثافة كتاب متخصصون فبدا وكأن الكاتب الموسوعي أصبح أثرا تاريخيا ينتمي للماضي وذلك غير صحيح. فلم يعد الوصول إلى الثقافة يتطلب أكثر من الضغط على زر جهاز حاسوب تتيح الملايين من مصادر المعلومات وبكل لغات العالم.
ويؤكد الأكاديمي وعالم الاجتماع فؤاد برهام، على اختفاء الكاتب الموسوعي، ويرجع ذلك لسببين أولهما التخصص الشديد الذي إلى تراكم المعارف وتفرعها بشكل أدى إلى صعوبة تكوين رؤى لذات الشخص في أكثر من مجال، وثانيهما أن المتخصصين الآن يهتمون بدقائق الأمور أكثر من اهتمامهم بالمنهج العلمي الذي يمكن الإنسان من القفز فوق المعطيات، وبالتالي قلت قدرته على الربط بين المعاني والمفاهيم، ويرى برهام أن الكاتب الموسوعي هو صاحب الاهتمامات المتنوعة والمتعددة في مجالات مختلفة، وهو لم يظهر إلا بالتزامن مع بداية معارف جديدة أو حركات جديدة، وحينما تنتهي هذه المرحلة يبدأ التفرغ في بالتخصصات المختلفة، وذلك لا أعتبره ظاهرة سيئة طالما أن هؤلاء جميعاً لهم تصور واحد يجمعهم في نسق فكري واحد.
أنساق وسمات
يقول الناقد والأكاديمي المصري حسام عقل: ظاهرة الكاتب الموسوعي ظاهرة أصيلة في الثقافة العربية، فكنت تجد المؤرخ قاضيا وفقيها وشاعرا، ومن يكتب في الفلسفة يكتب أيضا في الطب وفي الفلك، واللغة، لا جدال أن المرحلة الثقافية التي يخوضها رهان الثقافة العربية حاليا، قد طوح بكثير من ثوابت المراحل الماضية، بما فرض من أنساق وخصائص وسمات، وبما طور من رؤى وآليات وزوايا لمعالجة الظواهر وطرحها، فقد كانت النزعة الموسوعية تسم أكثر الإنتاج الأدبي الذي ذاع في القرن الماضي، يوم تفاخر العقاد علنا ًبأن لديه في غرفة مكتبه كرتونة مكتظة بمائة كتاب في "علم الحشرات" فلم تكن مفاخرته بهذه الحيازة المتفردة إلا تجليا بينا لغلبة "الفكرة الموسوعية".
وبالنظر الأولي إلى التنوع الطيفي الذي غلب على نحو مائة كتاب قدمها للمكتبة العربية، سنجد تنوعا في المسارات والتخصصات بين ما هو تاريخي وما هو لغوي وما هو إبداعي شعرا وسردا وما هو ديني أو أنثروبولوجي أو نفسي، فقد كانت هذه الخصيصة الموسوعية ملازمة للمرحلة. ولكن يتعين أن نلاحظ أن هذه النزعة الموسوعية قد تقلصت في الكتابة الأدبية – بعامة – بسبب نزوع المرحلة الحضارية الراهنة إلى تضييق شريحة التخصص بصرامة لا تعرف معنى الترفق، فالناظر في كتب المحدثين لا يأنس أية نزعات موسوعية متطاوسة، وإنما يأنس مسعى شديد الوضوح لتضييق الشريحة، بشكل حاسم شديد الدقة، فالسمة العامة الآن لا يتصدرها شعار ” أن تعرف شيئا عن كل شيء” كما طرحت المراحل السابقة، وإنما ” أن تعرف كل شيء عن شيء واحد بعينه” في إطار النزعة التخصصية التي أزاحت النزعات الموسوعية من الواجهة.
اختلاف المفهوم
هكذا يقر حسام عقل باختفاء الظاهرة ويرجع ذلك إلى سيادة التخصص، لكن زميله بجامعة عين شمس وأستاذ الأدب الإنجليزي مصطفى رياض، يرى أن مفهوم المثقف الموسوعي مازال موجودا في عصرنا لكن مفهومه الحالي اختلف عن ذلك المفهوم الذي عهدناه في منتصف القرن الماضي، نتيجة التطور الهائل الذي أحدثته تكنولوجيا الاتصالات التي أتاحت المعلومات للجميع، بعد أن كانت محصورة في بطون الكتب ومقصورة على الخاصة، ممن يملكون المقدرة المادية والصبر على القراءة والبحث. فلا نستطيع القول إن وجود المثقفين الموسوعيين في حياتنا الفكرية قد تراجع، ولكن نستطيع القول إن قاعدة الثقافة الموسوعية قد اتسعت للجميع بعد الثورة التكنولوجية التي شهدها عالمنا.
ويرى رياض أن المثقف الموسوعي موجود في كل العصور، ومن نماذجه الآن الدكتور محمد عناني، صاحب الـعشرين نصا مسرحيا، فضلا عن عدد غير قليل من الدواوين الشعرية والقصائد مترجمة من العربية للإنجليزية فى حب مصر، ووصف عناني بأنه مترجم ”لا يشق له غبار” فهو رائدا فى مجال الترجمة دون منازع وهو المؤلف المسرحى والأستاذ الجامعى الذى يشبه كثيرا إبداعه المتنوع بالمدرسة الثقافية الشاملة، فعطاء عنانى الأدبى اكتمل بعطاء إنسانى آخر وهو اتصاله بطلابه، وأنه أصبح حلقة وصل بين أجيال من المترجمين.
ويوافقه الرأي الشاعر والمسرحي المصري أحمد سراج ، فهو يرى أن الظاهرة لا تزال موجودة، فلا يخلو عصر من العصور من الكاتب والمفكر الموسوعي، وهنا توجد وجهتا نظر، إحداهما ترى أن هناك مثقفين على درجة عالية من التنوع المعرفي، والأخرى تقول إن لكل إنسان حدوداً معرفية في مجال تخصصه واهتمامه، ولا يمكن لأحد اليوم أن يكون موسوعياً. فعصرنا الحالي يتميز بأنه يشهد صراعا بين التخصص والموسوعية، لذلك يرى كثيرون أن الكاتب الموسوعي قد ندر، وهذا إن حدث فهو طبيعي للزيادة المعلوماتية الرهيبة، مع ما تتيحه شبكات الإنترنت، لكننا إن دققنا فسنجد أن هناك كتابا موسوعيين بارزين بل إنهم علامات مميزة، لدينا مثلا المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري، فهو أستاذ للأدب الإنجليزي، وكاتب لقصص الأطفال، ومترجم وناقل ثقافي وحضاري، فضلا عن انشغالاته الموسوعية.
كذلك يمكن الحديث عن شاكر عبدالحميد وترجماته ومؤلفاته، وعن عماد أبوغازي وإسهاماته في التاريخ والوثائق والمكتبات، وعمار علي حسن في كتبه الفكرية والنقدية والإبداعية. وعن رفعت سلام وترجماته وأشعاره ومقالاته النقدية. كثيرون يمكن ذكرهم ممن يملأون الساحة إبداعا ونقدا وترجمة، فلم يغب الكاتب الموسوعي فقط ظهر بكثافة كتاب متخصصون فبدا وكأن الكاتب الموسوعي أصبح أثرا تاريخيا ينتمي للماضي وذلك غير صحيح. فلم يعد الوصول إلى الثقافة يتطلب أكثر من الضغط على زر جهاز حاسوب تتيح الملايين من مصادر المعلومات وبكل لغات العالم.
ويؤكد الأكاديمي وعالم الاجتماع فؤاد برهام، على اختفاء الكاتب الموسوعي، ويرجع ذلك لسببين أولهما التخصص الشديد الذي إلى تراكم المعارف وتفرعها بشكل أدى إلى صعوبة تكوين رؤى لذات الشخص في أكثر من مجال، وثانيهما أن المتخصصين الآن يهتمون بدقائق الأمور أكثر من اهتمامهم بالمنهج العلمي الذي يمكن الإنسان من القفز فوق المعطيات، وبالتالي قلت قدرته على الربط بين المعاني والمفاهيم، ويرى برهام أن الكاتب الموسوعي هو صاحب الاهتمامات المتنوعة والمتعددة في مجالات مختلفة، وهو لم يظهر إلا بالتزامن مع بداية معارف جديدة أو حركات جديدة، وحينما تنتهي هذه المرحلة يبدأ التفرغ في بالتخصصات المختلفة، وذلك لا أعتبره ظاهرة سيئة طالما أن هؤلاء جميعاً لهم تصور واحد يجمعهم في نسق فكري واحد.