خاض ألبير كامو واحدة من أكثر المعارك الفكرية إثارة وضراوة في القرن العشرين ضد جان بول سارتر.. كانت لتلك المعركة خلفيتها السياسية يوم انقسم العالم إلى معسكرين يتناوشان بشراسة عبر وسائل الإعلام، وحبك المؤامرات، والتجسس، والحروب بالإنابة، في ضمن إطار ما كانت تُعرف بالحرب الباردة، حيث أمست الصداقة التي ربطت الرجلين المفكرين بقوة، في البدء، ضحية لها.
بدا كامو بوسامته وأناقته وطريقة تفكيره النقيض لسارتر “القصير، جاحظ العينين، فصيح الكلام، ضئيل الجسم”. وقد اعترف سارتر بهذا الأمر واجداً في علاقته بكامو نوعاً من اتحاد النقيضين كما لو أن أحدهما يكمل الآخر. ولم يخفِ أي منهما إعجابه بصاحبه.. وعلى الرغم من اختلاف الأفكار أمضى الاثنان، مع حلقة أصدقائهما الضيقة، أوقاتاً طيبة ومثمرة.. تقول سيمون دي بوفوار عن كامو؛ “كان هو الشخص الذي نجد في صحبته مصدراً للاستمتاع والمرح إلى أقصى حد. رأينا في علاقتنا به صفقة كبيرة، إذ تبادلنا قصصاً لا حصر لها”. وكذلك فتح لهما كامو آفاق صداقات حيوية فعرّفهما بمجموعة من أعلام الثقافة الباريسية مثل ميشيل ليريس ورايموند كينو ( الكاتبان السورياليان ) والفنان العظيم بيكاسو، وغيرهم.
كان سارتر هو الفيلسوف الذي يطرق باب الأدب، فيما كان كامو الروائي الذي يلوذ بالفلسفة. وبوفوار التي هي رفيقة سارتر وجدت في كامو خلال الأشهر الأولى من تعرفهما عليه منافساً لها في الاستحواذ على اهتمام سارتر.. تقول: “كنا أشبه بكلبين يتناوبان قطعة عظم. قطعة العظم هي سارتر وكلانا يريدها”. ومع أن سارتر لم يكن ذو ميول جنسية مثلية إلا أنها استشعرت قلقاً كما ستعترف في شيخوختها من افتتان سارتر بكامو. ولرونالد أرونسون وجهة نظر أخرى عن ملابسات تلك العلاقة يوردها في كتابه ( كامي وسارتر/ ترجمة؛ شوقي جلال.. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت 2006 )، فيرى أن “ما عقّد مشاعر بوفوار الخاصة أنها قدّمت نفسها لكامي كعاشقة، غير أنه صدّها” إذ أن بوفوار لم تكن محض شاهدة على تلك العلاقة بل متورطة فيها حتى الأعماق. كانت مستاءة منه وتعتقد أنه يرفضها بما تمثله من ندّ ثقافي بوصفها امرأة لأنه يحمل باعتقادها “نظرة بحر متوسطية إلى النساء”. وعلى الرغم من هذه الحساسية الخفية بينهما إلا أنهما كانا يدخلان في نقاشات مستفيضة حول قضايا شتى. بالمقابل، وبتصريح بوفوار، فإن سارتر كان ينطوي على شيء من مشاعر الغيرة من كامو لا لكونه كاتباً، بل لوسامته.. يقول روبرت غاليمار؛ “تكون جالساً في حفلة أنس وسمر وتتطلع حولك، وفجأة ترى معظم النساء في الغرفة يتجمعن حول كامو”.
لم يُعرف لسارتر اهتمام كبير بالسياسة قبل الحرب.. كان فيلسوفاً نظرياً مجرداً على عكس كامو القادم من الجزائر والضليع بخفايا السياسة الفرنسية والمقاومة الجزائرية للاحتلال. بعد أحد عروض مسرحية ( الذباب )، في أثناء الحرب، قدّم كامو نفسه لسارتر.. كانت رواية الأول ( الغريب ) قد أحدثت ضجة في الوسط الثقافي الفرنسي، وكتب عنها سارتر مقالة تقريظ متعاطفة. وبوجود كامو على رأس هيئة تحرير صحيفة المقاومة السرّية ( كومبا ) وما يسبغه مثل هذا المنصب من أهمية على من يتقلّده ألفى سارتر وبوفوار نفسيهما منبهرين بكامو. ولم يكونا يومها يمتلكان خبرة صحافية، من أي نوع، فأتاحت لهما صداقتهما الجديدة ( ولاسيما لسارتر ) فرصة الكتابة في الصحيفة، وهذا يعني بطبيعة الحال الانخراط في عملية مقاومة القوات النازية المحتلة ولو من طريق الكتابة والتحريض الإعلامي. ومن ثم الحصول على هالة المجد بعد التحرير، نتيجة ذلك. وسيمثل هذا الحدث العتبة التي منها سينغمس سارتر حتى أذنيه في عالم السياسة. وإذن فإن ما سيوطد العلاقة بين الكاتبين الكبيرين هو السياسة؛ الاحتلال الألماني لفرنسا والمقاومة، ومن ثم التحرير. وسيجد الاثنان نفسيهما في خندق واحد. وبعبارة أرونسون فإن “مستقبلهما الأدبي استفاد عملياً من الاحتلال”. ولن تنتهي الحرب العالمية الثانية إلا وقد أصبحا، مع بوفوار، وبقية الشلة الوجودية في باريس، نجوماً ساطعة تجذب المعجبين والمريدين. ستغدو الوجودية موضة تخلب الألباب، لتصل أصداءها إلى خارج حدود فرنسا، وتنعش الجو الفكري والأدبي في بقاع كثيرة من أوروبا والعالم. لكن السياسة ستكون السبب الذي سيودي بتلك العلاقة، التي لم تكن تخلو من مواضع التباس وهشاشة على الرغم من مظهرها الصلب والبرّاق، إلى الانفصام والقطيعة.
****
تنتهي الحرب وتسطع أسماء جديدة في دنيا الثقافة الفرنسية. وعلى حين فجأة تتصاعد شهرة الكاتبين/ المفكرين والروائيين ( كامو وسارتر ). ويمكن إضافة اسم سيمون دي بوفوار، أيضاً، بوصفها رفيقة سارتر وعشيقته من جهة، ولأنها صاحبة رأي وموقف مجسدين في كتابات من جهة ثانية.. ولأن لها دوراً وموقفاً في خريطة الصراعات الفكرية الباريسية والعالمية من جهة ثالثة.
كان كامو وسارتر يفكران بطريقة مختلفة عمّن سبقهم، طريقة تتساوق مع روح عصر جديد مضمونها التمرد على قيم الأسلاف التي قادت إلى الحرب وما خلّفت من ضحايا ودمار وخراب نفسي. كان المزاج العام الآن، لاسيما عند الشباب، مغايراً وكانت كتابات المفكرين الشابين يستجيب لهذا المزاج ويعبر عنه بوضوح وقوة. فيما العالم يقف عند مفترق طرق خطير، وقد قُسِّم إلى معسكرين متضادين إيديولوجياً وسياسياً يجعلهما في حالة استقطاب وصراع مصيري. وكان لابد للمجتمع الثقافي الباريسي شأنه شأن المجتمعات الثقافية الأخرى من أن يتفتت هو الآخر في توجهاته ومواقفه بين الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك، أو اتخاذ موقف مستقل. ولم يكن من السهل أن يكون المرء مستقلاً في وضع يفرض عليك أن تكون إما مع أو ضد.. وتحت سطوة شعار غير معلن مفاده إن لم تكن معي فأنت ضدي.. وإن تكن ضدي فهذا يعني بالضرورة أنك إلى جانب عدوي. وقد عانى المفكرون في حينه من هذا الوضع الزلق والمربك.
تحررت فرنسا، وأطلقت باريس آخر رصاصاتها، وظهرت صحيفة كومبا ( المقاومة ) يوم 4 آب 1944 لتعلن للمرة الأولى اسم ألبير كامو صاحب رواية ( الغريب ) رئيساً لتحريرها، فطبقت شهرته الآفاق. يقول سارتر واصفاً كامو في تلك الفترة، في خطاب مفتوح وجهه إليه، فيما بعد: “كدتَ تكون المثال الذي يجب أن يُحتذى، لأنك حملت في داخل نفسك صراعات عصرنا كلها، وتخطّيتها لشدة حرارتك في عيشها. كنت شخصاً حقيقياً، أشد ورثة شاتوبريان تعقيداً وغنى. آخرهم وأغزرهم موهبة، المنافح الصلب عن قضية اجتماعية…. لشد ما أحببناك حينئذ”.
لم يكن كامو من المهووسين بالانغماس العملي في الشأن العام.. لم ينتم إلى أي حزب، ورغب أن يظل مستقلاً في عصر شكّاك، سمته الاستقطاب، يصم المستقلين بالجبن والتخاذل، أو اللاأبالية، أو النفاق. لكن كامو لم يكن ينطوي على أي من هذه الصفات السيئة.. كان يدرك أن الجرح الذي تركته الحرب في جسد فرنسا وروحها لن تشفى منه تماماً، وحتى زمن طويل آت.. غير أنه كافح من أجل فرنسا جديدة يجري فيها إصلاح جذري لمؤسسات الجمهورية الثالثة وممارساتها السياسية.. كان أقرب إلى المثالية بدعوته إلى مزج لغة السياسة بلغة الأخلاق، وأقرب إلى اليسار بإيمانه بفكرة العدالة الاجتماعية. إلا أنه رفض التفسير الماركسي للتاريخ، ولم يتخندق مع الحزب الشيوعي الفرنسي في صراعاته الداخلية والخارجية مثلما فعل سارتر.. وفي العام 1950 أدان بحزم ما عُرف بمعسكرات العمل الإجبارية في الاتحاد السوفياتي. وشكّل هذا أقوى أسفين هدّم جدار العلاقة بينه وبين سارتر.. اتهم سارتر باستخدام مكيالين ومقياسين في تقويم كل من المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. واتهمه سارتر بأنه برجوازي رجعي.. لم يكن كامو يريد أن يناور أو يساوم على حساب الحقيقة مهما كانت مرّة ومؤذية النتائج. ولم يكن سارتر يرغب في نقد الشيوعية الذي سيستثمره المعسكر الآخر، حتماً، في الدعاية المضادة.
نبذ كامو العنف بأشكاله ومسوِّغاته كلها حتى وإن أفضى إلى غايات مقبولة. ورأى في ( المتمرد ) بديلاً عن ( الثوري ) لأن لدى الأول عقلاً مستقلاً، فيما الثاني متسلط يعقلن القتل. وهذا فحوى أفكار كتابه ( المتمرد ) الذي هاجم فيه الاستبداد الستاليني علناً، وانتقد، مواربة، سارتر. وقد فهم سارتر مغزى الرسالة، وسعى إلى رد الصاع صاعين، فنشرت مجلته ( الأزمنة الحديثة ) بإيحاء منه مقالة انتقادية قاسية بقلم ماركسي شاب اسمه فرانسيس جانسون أشعرت كامو بالخيانة، فكتب رسالة لاذعة موجهة لرئيس التحرير ( سارتر ). وما كان من سارتر إلا أن يرد برسالة جارحة ذات نبرة هجائية، يقول فيها: “لم تكن صداقتنا سهلة، لكني سأفقدها”. وسيتلقى كتاب ( المتمرد ) الهجمات من كل حدب وصوب، وبالشكل الذي يجعل مؤلفه يعيش في شبه عزلة سياسية على الرغم من مقالات أخرى، غير قليلة، امتدحت الكتاب ودافعت عنه.
خلا ذهن كامو من الأوهام الكبيرة حول أدوار المثقفين. لم يكن يحلم بتغيير العالم وإنما بإعادة التفكير فيه، والمحافظة على تلك القيم القليلة التي تحفظ كرامة النوع البشري ويبقي على احترام الإنسان لنفسه. بيد أنه لم يدر ظهره للقضايا الساخنة لعصره مثل؛ ( القنبلة الذرية، معسكرات الاعتقال، حرب الجزائر، معاداة السامية، الانتفاضات الشعبية، الخ.. ). ومن غير أن ينخرط في العمل السياسي إلى جانب حزب أو حركة ما… يقول: “لن نستطيع بعد اليوم أن نحيا دونما قيم إيجابية. نحن نمجّ القيم البرجوازية لنفاقها وقساوتها. ونمجّ كذلك الكلبية السياسية التي تسود الحركة الثورية. أما اليسار المستقل فإنه، في الواقع، مفتون بالقوة الشيوعية، ومورّط بماركسية يُخجل منها”. هذا الموقف سيجعله عرضة للسهام المصوّبة عليه من كل اتجاه. وهذا الإفراط في الاعتدال سيقوده في أثناء اضطرام قضية الجزائر إلى شيء من الضبابية وضعف الحجة.
صحيح أنه اعترف بالعرب كأكفاء متساوين لكنه “لم يوضح بجلاء ما يعنيه بالمساواة بين العرب والأوربيين، أو بالدعوة إلى جزائر ديمقراطية”. وهو الفرنسي، المولود في الجزائر، ظلّ مؤمناً بفكرة فرنسية الجزائر، وبإمكانية الوصول إلى حل وسط حتى وُصف بأنه “مستعمِر حسن النية”، يصرّ على “عدم التخلي عن حقوق الفرنسيين الجزائريين”. أما استقلال الجزائر فكانت القضية التي دافع عنها سارتر بشجاعة.. كان الرجلان نقيضين يكمل أحدهما الآخر، وحين مات كامو فجأة في حادث سيارة يوم 4 يناير 1960 نعاه سارتر قائلاً: “إنه واحد من القوى الرئيسة في مجالنا الثقافي… لم تمنعني القطيعة من التفكير فيه”.
المصادر:
1ـ ( البير كامو ) جرمين بري.. ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا.. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.. بيروت ط2/ 1981.
2ـ ( كامي وسارتر ) رونالد أرونسون.. ترجمة؛ شوقي جلال.. سلسلة عالم المعرفة.. الكويت.. ديسمبر 2006.
3ـ ( سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر؛ وجهاً لوجه ) هازل رولي.. ترجمة: محمد حنانا.. الهيئة العامة السورية للكتاب.. دمشق.. 2012.
بدا كامو بوسامته وأناقته وطريقة تفكيره النقيض لسارتر “القصير، جاحظ العينين، فصيح الكلام، ضئيل الجسم”. وقد اعترف سارتر بهذا الأمر واجداً في علاقته بكامو نوعاً من اتحاد النقيضين كما لو أن أحدهما يكمل الآخر. ولم يخفِ أي منهما إعجابه بصاحبه.. وعلى الرغم من اختلاف الأفكار أمضى الاثنان، مع حلقة أصدقائهما الضيقة، أوقاتاً طيبة ومثمرة.. تقول سيمون دي بوفوار عن كامو؛ “كان هو الشخص الذي نجد في صحبته مصدراً للاستمتاع والمرح إلى أقصى حد. رأينا في علاقتنا به صفقة كبيرة، إذ تبادلنا قصصاً لا حصر لها”. وكذلك فتح لهما كامو آفاق صداقات حيوية فعرّفهما بمجموعة من أعلام الثقافة الباريسية مثل ميشيل ليريس ورايموند كينو ( الكاتبان السورياليان ) والفنان العظيم بيكاسو، وغيرهم.
كان سارتر هو الفيلسوف الذي يطرق باب الأدب، فيما كان كامو الروائي الذي يلوذ بالفلسفة. وبوفوار التي هي رفيقة سارتر وجدت في كامو خلال الأشهر الأولى من تعرفهما عليه منافساً لها في الاستحواذ على اهتمام سارتر.. تقول: “كنا أشبه بكلبين يتناوبان قطعة عظم. قطعة العظم هي سارتر وكلانا يريدها”. ومع أن سارتر لم يكن ذو ميول جنسية مثلية إلا أنها استشعرت قلقاً كما ستعترف في شيخوختها من افتتان سارتر بكامو. ولرونالد أرونسون وجهة نظر أخرى عن ملابسات تلك العلاقة يوردها في كتابه ( كامي وسارتر/ ترجمة؛ شوقي جلال.. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت 2006 )، فيرى أن “ما عقّد مشاعر بوفوار الخاصة أنها قدّمت نفسها لكامي كعاشقة، غير أنه صدّها” إذ أن بوفوار لم تكن محض شاهدة على تلك العلاقة بل متورطة فيها حتى الأعماق. كانت مستاءة منه وتعتقد أنه يرفضها بما تمثله من ندّ ثقافي بوصفها امرأة لأنه يحمل باعتقادها “نظرة بحر متوسطية إلى النساء”. وعلى الرغم من هذه الحساسية الخفية بينهما إلا أنهما كانا يدخلان في نقاشات مستفيضة حول قضايا شتى. بالمقابل، وبتصريح بوفوار، فإن سارتر كان ينطوي على شيء من مشاعر الغيرة من كامو لا لكونه كاتباً، بل لوسامته.. يقول روبرت غاليمار؛ “تكون جالساً في حفلة أنس وسمر وتتطلع حولك، وفجأة ترى معظم النساء في الغرفة يتجمعن حول كامو”.
لم يُعرف لسارتر اهتمام كبير بالسياسة قبل الحرب.. كان فيلسوفاً نظرياً مجرداً على عكس كامو القادم من الجزائر والضليع بخفايا السياسة الفرنسية والمقاومة الجزائرية للاحتلال. بعد أحد عروض مسرحية ( الذباب )، في أثناء الحرب، قدّم كامو نفسه لسارتر.. كانت رواية الأول ( الغريب ) قد أحدثت ضجة في الوسط الثقافي الفرنسي، وكتب عنها سارتر مقالة تقريظ متعاطفة. وبوجود كامو على رأس هيئة تحرير صحيفة المقاومة السرّية ( كومبا ) وما يسبغه مثل هذا المنصب من أهمية على من يتقلّده ألفى سارتر وبوفوار نفسيهما منبهرين بكامو. ولم يكونا يومها يمتلكان خبرة صحافية، من أي نوع، فأتاحت لهما صداقتهما الجديدة ( ولاسيما لسارتر ) فرصة الكتابة في الصحيفة، وهذا يعني بطبيعة الحال الانخراط في عملية مقاومة القوات النازية المحتلة ولو من طريق الكتابة والتحريض الإعلامي. ومن ثم الحصول على هالة المجد بعد التحرير، نتيجة ذلك. وسيمثل هذا الحدث العتبة التي منها سينغمس سارتر حتى أذنيه في عالم السياسة. وإذن فإن ما سيوطد العلاقة بين الكاتبين الكبيرين هو السياسة؛ الاحتلال الألماني لفرنسا والمقاومة، ومن ثم التحرير. وسيجد الاثنان نفسيهما في خندق واحد. وبعبارة أرونسون فإن “مستقبلهما الأدبي استفاد عملياً من الاحتلال”. ولن تنتهي الحرب العالمية الثانية إلا وقد أصبحا، مع بوفوار، وبقية الشلة الوجودية في باريس، نجوماً ساطعة تجذب المعجبين والمريدين. ستغدو الوجودية موضة تخلب الألباب، لتصل أصداءها إلى خارج حدود فرنسا، وتنعش الجو الفكري والأدبي في بقاع كثيرة من أوروبا والعالم. لكن السياسة ستكون السبب الذي سيودي بتلك العلاقة، التي لم تكن تخلو من مواضع التباس وهشاشة على الرغم من مظهرها الصلب والبرّاق، إلى الانفصام والقطيعة.
****
تنتهي الحرب وتسطع أسماء جديدة في دنيا الثقافة الفرنسية. وعلى حين فجأة تتصاعد شهرة الكاتبين/ المفكرين والروائيين ( كامو وسارتر ). ويمكن إضافة اسم سيمون دي بوفوار، أيضاً، بوصفها رفيقة سارتر وعشيقته من جهة، ولأنها صاحبة رأي وموقف مجسدين في كتابات من جهة ثانية.. ولأن لها دوراً وموقفاً في خريطة الصراعات الفكرية الباريسية والعالمية من جهة ثالثة.
كان كامو وسارتر يفكران بطريقة مختلفة عمّن سبقهم، طريقة تتساوق مع روح عصر جديد مضمونها التمرد على قيم الأسلاف التي قادت إلى الحرب وما خلّفت من ضحايا ودمار وخراب نفسي. كان المزاج العام الآن، لاسيما عند الشباب، مغايراً وكانت كتابات المفكرين الشابين يستجيب لهذا المزاج ويعبر عنه بوضوح وقوة. فيما العالم يقف عند مفترق طرق خطير، وقد قُسِّم إلى معسكرين متضادين إيديولوجياً وسياسياً يجعلهما في حالة استقطاب وصراع مصيري. وكان لابد للمجتمع الثقافي الباريسي شأنه شأن المجتمعات الثقافية الأخرى من أن يتفتت هو الآخر في توجهاته ومواقفه بين الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك، أو اتخاذ موقف مستقل. ولم يكن من السهل أن يكون المرء مستقلاً في وضع يفرض عليك أن تكون إما مع أو ضد.. وتحت سطوة شعار غير معلن مفاده إن لم تكن معي فأنت ضدي.. وإن تكن ضدي فهذا يعني بالضرورة أنك إلى جانب عدوي. وقد عانى المفكرون في حينه من هذا الوضع الزلق والمربك.
تحررت فرنسا، وأطلقت باريس آخر رصاصاتها، وظهرت صحيفة كومبا ( المقاومة ) يوم 4 آب 1944 لتعلن للمرة الأولى اسم ألبير كامو صاحب رواية ( الغريب ) رئيساً لتحريرها، فطبقت شهرته الآفاق. يقول سارتر واصفاً كامو في تلك الفترة، في خطاب مفتوح وجهه إليه، فيما بعد: “كدتَ تكون المثال الذي يجب أن يُحتذى، لأنك حملت في داخل نفسك صراعات عصرنا كلها، وتخطّيتها لشدة حرارتك في عيشها. كنت شخصاً حقيقياً، أشد ورثة شاتوبريان تعقيداً وغنى. آخرهم وأغزرهم موهبة، المنافح الصلب عن قضية اجتماعية…. لشد ما أحببناك حينئذ”.
لم يكن كامو من المهووسين بالانغماس العملي في الشأن العام.. لم ينتم إلى أي حزب، ورغب أن يظل مستقلاً في عصر شكّاك، سمته الاستقطاب، يصم المستقلين بالجبن والتخاذل، أو اللاأبالية، أو النفاق. لكن كامو لم يكن ينطوي على أي من هذه الصفات السيئة.. كان يدرك أن الجرح الذي تركته الحرب في جسد فرنسا وروحها لن تشفى منه تماماً، وحتى زمن طويل آت.. غير أنه كافح من أجل فرنسا جديدة يجري فيها إصلاح جذري لمؤسسات الجمهورية الثالثة وممارساتها السياسية.. كان أقرب إلى المثالية بدعوته إلى مزج لغة السياسة بلغة الأخلاق، وأقرب إلى اليسار بإيمانه بفكرة العدالة الاجتماعية. إلا أنه رفض التفسير الماركسي للتاريخ، ولم يتخندق مع الحزب الشيوعي الفرنسي في صراعاته الداخلية والخارجية مثلما فعل سارتر.. وفي العام 1950 أدان بحزم ما عُرف بمعسكرات العمل الإجبارية في الاتحاد السوفياتي. وشكّل هذا أقوى أسفين هدّم جدار العلاقة بينه وبين سارتر.. اتهم سارتر باستخدام مكيالين ومقياسين في تقويم كل من المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. واتهمه سارتر بأنه برجوازي رجعي.. لم يكن كامو يريد أن يناور أو يساوم على حساب الحقيقة مهما كانت مرّة ومؤذية النتائج. ولم يكن سارتر يرغب في نقد الشيوعية الذي سيستثمره المعسكر الآخر، حتماً، في الدعاية المضادة.
نبذ كامو العنف بأشكاله ومسوِّغاته كلها حتى وإن أفضى إلى غايات مقبولة. ورأى في ( المتمرد ) بديلاً عن ( الثوري ) لأن لدى الأول عقلاً مستقلاً، فيما الثاني متسلط يعقلن القتل. وهذا فحوى أفكار كتابه ( المتمرد ) الذي هاجم فيه الاستبداد الستاليني علناً، وانتقد، مواربة، سارتر. وقد فهم سارتر مغزى الرسالة، وسعى إلى رد الصاع صاعين، فنشرت مجلته ( الأزمنة الحديثة ) بإيحاء منه مقالة انتقادية قاسية بقلم ماركسي شاب اسمه فرانسيس جانسون أشعرت كامو بالخيانة، فكتب رسالة لاذعة موجهة لرئيس التحرير ( سارتر ). وما كان من سارتر إلا أن يرد برسالة جارحة ذات نبرة هجائية، يقول فيها: “لم تكن صداقتنا سهلة، لكني سأفقدها”. وسيتلقى كتاب ( المتمرد ) الهجمات من كل حدب وصوب، وبالشكل الذي يجعل مؤلفه يعيش في شبه عزلة سياسية على الرغم من مقالات أخرى، غير قليلة، امتدحت الكتاب ودافعت عنه.
خلا ذهن كامو من الأوهام الكبيرة حول أدوار المثقفين. لم يكن يحلم بتغيير العالم وإنما بإعادة التفكير فيه، والمحافظة على تلك القيم القليلة التي تحفظ كرامة النوع البشري ويبقي على احترام الإنسان لنفسه. بيد أنه لم يدر ظهره للقضايا الساخنة لعصره مثل؛ ( القنبلة الذرية، معسكرات الاعتقال، حرب الجزائر، معاداة السامية، الانتفاضات الشعبية، الخ.. ). ومن غير أن ينخرط في العمل السياسي إلى جانب حزب أو حركة ما… يقول: “لن نستطيع بعد اليوم أن نحيا دونما قيم إيجابية. نحن نمجّ القيم البرجوازية لنفاقها وقساوتها. ونمجّ كذلك الكلبية السياسية التي تسود الحركة الثورية. أما اليسار المستقل فإنه، في الواقع، مفتون بالقوة الشيوعية، ومورّط بماركسية يُخجل منها”. هذا الموقف سيجعله عرضة للسهام المصوّبة عليه من كل اتجاه. وهذا الإفراط في الاعتدال سيقوده في أثناء اضطرام قضية الجزائر إلى شيء من الضبابية وضعف الحجة.
صحيح أنه اعترف بالعرب كأكفاء متساوين لكنه “لم يوضح بجلاء ما يعنيه بالمساواة بين العرب والأوربيين، أو بالدعوة إلى جزائر ديمقراطية”. وهو الفرنسي، المولود في الجزائر، ظلّ مؤمناً بفكرة فرنسية الجزائر، وبإمكانية الوصول إلى حل وسط حتى وُصف بأنه “مستعمِر حسن النية”، يصرّ على “عدم التخلي عن حقوق الفرنسيين الجزائريين”. أما استقلال الجزائر فكانت القضية التي دافع عنها سارتر بشجاعة.. كان الرجلان نقيضين يكمل أحدهما الآخر، وحين مات كامو فجأة في حادث سيارة يوم 4 يناير 1960 نعاه سارتر قائلاً: “إنه واحد من القوى الرئيسة في مجالنا الثقافي… لم تمنعني القطيعة من التفكير فيه”.
المصادر:
1ـ ( البير كامو ) جرمين بري.. ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا.. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.. بيروت ط2/ 1981.
2ـ ( كامي وسارتر ) رونالد أرونسون.. ترجمة؛ شوقي جلال.. سلسلة عالم المعرفة.. الكويت.. ديسمبر 2006.
3ـ ( سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر؛ وجهاً لوجه ) هازل رولي.. ترجمة: محمد حنانا.. الهيئة العامة السورية للكتاب.. دمشق.. 2012.