محمد عبد الرحمن يونس - كوابيس.. قصة قصيرة


* الإهداء إلى : أخي وصديقي الدكتور إبراهيم سعد الدين ـ القاهرة
الكابوس الأول:‏
يحاصرني الجند.. تشرئب أعناقهم، تلمع رماحهم كوميض برق.. يصطفون في أنساق متلاحمة، تتشابك الرماح وتتعانق الخوذ، ترتفع الأيدي ومعها النصال، تضيق الحلقة من حولي وأصرخ، لا أحد يسمع صراخي، أستنجد بكل الذين عرفتهم.. يشيحون وجوههم عني كعادتهم. تتقدم النصال من جسدي عقارب برية تقتلها الشهوة ثم تغرس أبرها السامة في جسدي يتمركز نصل حول عنقي، ويغرس آخر في صدري، وثالث في ظهري، وتحاصرني البقية من الاتجاهات كافة.‏
يلوح شبح أمي، طيف خيال يمر مسلماً حزيناً ويمسح شفتيه الطريتين بقلبي، يشدني لهنيهة ثم يرتحل غائباً لا طعم ولا لون له.‏
اقرأ يا ولدي "سورة يس"، حاولت أن استحضرها رفضت، قرأت "قل أعوذ برب الفلق"؛ بدلاً منها، لكن الجند ما تزحزحوا من مواقعهم ولا اهتزت سيوفهم، وخزني أحدهم برأس الرمح في خاصرتي، دخل فيها مسافة إصبع أو إصبعين ثم عاد أحمر وردياً، كانت الليلة صقيعاً، والظلام يلف دروب المدينة، وصمت موحش يتوغل أعماق الظلمة، وتتسرب قطرات الوكف "دلفة" بعد "دلفة" عبر شقوق تشكلت في سقوف أكواخ البحارة المرمية بانسجام في طرف الحارة الغربية، كانت عيونهم حمراء، وكانت أحذيتهم العسكرية طويلة وملمعة حديثاً، وكنت في وسط الحلقة حبة رمل في صحراء مترامية الأطراف، تائهاً افترش الرمال، مستسلماً لشمس الظهيرة في عز توهجها. لكزني آخر برمحه في جبهتي وسألني غاضباً:‏
هل تتمنى شيئاً قبل أن تموت؟. لم تكن الأماني قادرة على الحضور، تتلاشى أمام الرماح المسلطة، ضاقت فسحات الأمل. لم أجد شيئاً أقوله للعسكري، كنت أعرف أني لا أريد شيئاً، طالما أن الأشياء لن تأتي أبداً. جاءني صوتها رقيقاً مثقلاً بالخيبة، هل قرأت "سورة يس"، إن لم تفعل فاقرأ "قل هو الله أحد"، لم أتمكن من قراءة السورة الكريمة، فجأة انقضت الرماح ضربة رجل واحد، انغرزت في مفاصل جسدي، تدفق دمي، تراجع الجند إلى الوراء بخطوة نظامية، كانت أبواقهم تملأ الفضاء. مرددين لحناً عسكرياً كذلك الذي يردد بعد الانتصارات. وكانت دمائي تملأ الساحة العامة.‏

الكابوس الثاني‏
تتمدد خطيبتي مسكونة بالعزلة على سرير أثري ورثته عن أجدادي الميامين، تتشامخ ذليلة، يحيط وجهها شعر أسود فاحم، تحدث في سقف الحجرة. أمد يدي، لا تصل، مسافة شاسعة تفصلني عنها. تناديني: اقترب، هات يديك يا ضو القلب، أحس بشلل يأكل مفاصلي، أمد اليدين.. عاجزتان عن الوصول. رغبة مجنونة في داخلي تعلو وتهبط، وقلب خطيبتي يصرخ مكتنزاً، وأحس بدوار شديد يقذف بي في أعماق اللجة منفياً عاشقاً عاجزاً، تنتفض خطيبتي كعصفور مذبوح صارخة:‏
اقترب، تلفني الأمواج، أطفو فوق سطح الماء.. تدفعني نحو الأعماق ثم تعيدني قاذفة أملاحها في عيني، أتكور داخل السرير، وتتشابك أخطبوطات مشكلة حلقة دائرية أبدو وسطها حبة رمل مرمية فوق الشاطئ. ضربات قوية على باب الحجرة، هاهم قادمون، أعقاب بنادقهم تضرب الباب بعنف:‏
-اخرج وإلا كسرنا الباب، تهتز الحجرة ويتجمد رعب في عينيها، أحاول النهوض، أستجمع قواي، رجلاي تعجزان عن الوقوف، تسرع مرتدية عباءتها، تندس في أعماق السرير، تغطي أركان الحجرة. تشتد قرعات الباب، ينخلع مرمياً.‏
يتدافعون كالسيل، يملؤون أرض الحجرة، يصيح أحدهم: قيدوه، لم أكن بحاجة إلى قيد، كنت مشدوداً إلى السرير، تفرس أحدهم ملياً في وجهي، وأخرج كرباجاً مخططاً ساطني به عدة مرات كنت فاقداً حركاتي، وسرعان ما قلت له: أي جنون هذا؟‏
-ماذا تريدون من "رجل من غمار الموالي" مثلي؟.‏
-لا يهمنا ذلك.‏
أحسست حركة خفيفة بدأت تدب في أصابع يدي، غطت مسافات يدي، انتقلت إلى الذراع، وبسرعة أمسكت الكرباج وقذفته، وبصقت في وجه الجندي، كان ذلك لثوان معدودة، سرعان ما تقدم آخر وهوى بعصاه المدببة على يدي اليسرى، انخفضت اليد نازفة ارتفعت بقية العصي وأخذ الجند ينهالون عليّ ضرباً.‏
تقدم ثالث إلى خطيبتي وطرحها "مزق ثيابها.. عراها" بدأت ترتعد صارخة، وكان جسدها ينزف، أخذت عيون الجند تغرس مخالبها في أطراف الجسد ثم تناوبوا على جسدها واحداً بعد الآخر، قيدوني.. صرخت: أتقوا الله. كانت الحبال تحيطني من أطرافي، تقدم بعضهم حاملاً جسدي، وكان بعضهم الآخر ما يزال يعتدي على خطيبتي، قطعوا شوارع المدينة الرئيسة، وفي الطرف الآخر صعدوا قمة جبل شفشاون، ثم قذفوا بي إلى أعماق وادي أبي رقراق السحيق.‏

الكابوس الثالث‏
يسطع ضوء الشمس، شروق يتقدم بخطا ثابتة بطيئة، تعانق الشمس قمم الجبال العالية، ثم تنحدر كسلى على السفح ميممة شطر الأفق، يقترب الأفق.. تقترب الشمس، يتلاحمان في عناق طويل، شفق المغيب دم. تتشكل دائرة، دائرتان، ثلاث، ثم سرعان ما ترتسم على صفحة البحر، تبحر السفن مسافرة، تدخل عمق الدوائر، تحيطها من كل جهاتها، ترفرف النوارس محلقة عالياً، تلوّح للشمس الراحلة الضاربة أعماق الاغتراب تلويحة أخيرة، ثم تشد حقائبها قاطعة مسافات شاسعة باتجاه الميناء، تقدّم آخر نورس من قرص الشمس، ضمه بذراعيه ثم انهال عليه تقبيلاً مرتعداً بصمت، غير أن الشمس رمقته باحتقار، ولم تأبه لبكائه الصامت، تركته وحيداً وأسرعت، صفق بجناحيه وارتفع محلقاً متابعاً بقية النوارس، الشوارع قاتمة تمتد من الخواء إلى بوابات المنفى، أمشي.. أتسكع.. أتحسس الجدران.. يلاحقني صمت موحش، أحاول أن أطرده، يرفض، يلتصق بي، يتغلغل داخل مسامات جسدي، أحدق في وجوه المارة تائهاً غريباً، لم أجد وجهاً واحداً يعرفني. يعانق الليل المدينة، يتكوم فوق أرصفة الشوارع، أتابع السير، أتلفت يميناً ويساراً، أبواق السيارات تصم الآذان صخب مجنون يعسكر في المنعطفات والزوايا سيارة تقترب نحوي، تسلط أضواءها الكاشفة. يعميني الضوء، تقترب أخرى قادمة من الجهة الرئيسية، وثالثة من الجهة الفرعية، أحاول الهروب، أركض، تلاحقني السيارات. أنزع حذائي، أتماسك وأنطلق، سرعان ما تلاحقني، أتوسل إلى رجل المرور أن يوقف السيل الزاحف، ينظر إليّ مستهزئاً ضاحكاً. تحجر اللون الأخضر في شارات المرور، غاب البرتقالي والأحمر، كل المنافذ مسدودة من الأمام والخلف، وقلبي يرتعد، تقدمت السيارات جميعها، كنت قادراً على تمييز وجوه سائقيها بشواربهم الطويلة، المسترسلة، ونظاراتهم الزرقاء المستديرة، ضاقت المسافة بيننا، زاد اقترابها، ثم صدمتني جميعها، سقطت نازفاً دمائي في الشارع، بينما ظل رجل المرور يتأمل حركة السيارات، وهي تعود مترنحة سكرى، ويحني قامته لها إجلالاً وإكباراً.‏

الكابوس الرابع‏
يسرع الناس في حزم حقائبهم، أتقدم بطيئاً إلى أحد المارة:‏
-إلى أين يسافر هؤلاء الناس يا أخ؟.‏
يشيح وجهه عني مزدرياً، ويتابع سريع الخطى حاملاً حقيبته وسلة صبار بيده الأخرى، تتقدم امرأة في الخمسينات، اقترب منها مسرعاً:‏
-ماذا أصاب القوم يا خالة؟ لماذا يجمعون حقائبهم؟.‏
-إنهم مسافرون يا ولدي، ألا تريد السفر؟.‏
أقف عاجزاً أمامها ولا أدري ماذا أقول.‏
يبدو أن شيئاً مس عقولهم، ولذا فهم يريدون أن يتركوا الأرض والأهل. تتابع المرأة:‏
الطوفان يا ولدي، ألم تسمع بالطوفان؟ يقولون أن طوفاناً سيأخذ المدينة عن بكرة أبيها، مواشيها وزروعها وبيوتها، أسرع وأحضر حقيبتك.‏
لم يكن لدي حقيبة ولا ملابس ولا كتب، كنت خاوياً تماماً، تركتني المرأة، وتابعت سيرها. تقدمت إلى الميناء، وقفت على الرصيف أراقب السفن المبحرة باتجاه المجهول، كان الضباب كثيفاً، والبحر هائجاً، وثمة سحب سوداء تملأ قبة السماء، ألوح للمراكب المسافرة، لا أحد يلتفت إليّ.. ينفذ صقيع إلى أعماقي. أخيراً هاهو مركب يقف، حمداً لله لا يزال العالم بخير.. يصيح بي أحد البحارة: أصعد بسرعة، لا وقت لدينا، كان المركب محملاً بالصيادين، وببعض النساء اللواتي أفردن شعرهن للريح ولموج البحر، كانوا يرتدون قبعات بيضاء مخططة، وكانت شباكهم تملأ المركب، تتمدد بجوارها أسماك تفتر عن ابتسامات تنبئ عن طمأنينة نفس وراحة بال. سألني أحد البحارة:‏
إلى أين يسافر الأخر؟ لم أكن قادراً على معرفة جهة سفري، لكني أجبت: لا أعرف، إلى حيث يسافر الناس، ضحك البحارة، نظر أحدهم إلى زملائه ورمقني بسخرية هل سمعتم أن مسافراً لا يعرف وجهة سفره؟‏
تابع المركب سيره وسط الأمواج، هبت الريح قوية، تمايل المركب، هزته الريح، تقدم الربان من البحارة، أعطاهم تعليمات لم أفهم منها شيئاً، زادت قوة الريح، تمزق الشراع، صعد بحار شاب محاولاً إصلاحه، لكنه قبل أن يصل أزاحته الريح، فهوى ساقطاً في الماء، صرخ البحارة: لطفك يا رب. احتدت الأمواج، عانقها صخب، هوى الشراع، دار المركب حول نفسه، ودع البحارة بعضهم، عانقوا نساء المركب، ساد صمت ثقيل، ثم سرعان ما قذفت بنا العاصفة إلى أعماق البحر. في الفضاء كانت بعض النوارس تعلو وتهبط معانقة صفحة الماء، وكانت الشمس تجر ذيولها متثاقلة ذابلة نحو خط الأفق الغربي.‏

* المغرب - الدار البيضاء

د. محمد عبد الرحمن يونس - كوابيس.. قصة قصيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...