ليلى أسامة - موتٌ غير رحيم.. قصة قصيرة

صرخةٌ مدويةٌ هزت الأرجاء .. أعقبها المزيد من الصرخات الفزعة للناظرين .. قبلها بثواني كان صرير الإطارات وإحتكاكها على الشارع المسفلت … في محاولة من السائق المغلوب على أمره أن يتجاوزني ملفتة حتى لأنظار المارين الذين لم يشاهدوا الحادث ..

صرختي ما كانت نتيجة الإصطدام أو الألم الناتج عن الموت بهذه الصورة المقيتة … إنما بسبب الإرتباك والدهشة وإجابة التساؤل الكبير المعلق بيني وبين القدر : ” أيعقل أن يسير المرء بكامل إرادته إليك بلا حول منه ولا قوة ليجدك هكذا فاتحاً ذراعيك على وسعها مرحباً … فيك حتفه وخلاصه ؟!”..

وأنا أسقط بعد اصطدامي المحتمل على الزجاج الأمامي للعربة التي إعترضتُ أنا طريقها وإنهياري على الإسفلت البارد جثة هامدة .. أسلمتُ روحي للفراغ في شهوة مني للموت المخلّص للآلام والحيرة .. كنت أظن أن كل شيء قد إنتهى … ككل الأشياء مصيرها إلى زوال.. لكن الغريب في الأمر أني كنت ناظرة إلى كل تلك المشاهد مثلي مثل كل الحشود التي لم أفهم من أين جاءت …!!

في البدء لم أفهم كيف أراني … كيف تمكنت من أن أنظر إلى جسدي المسجى على الأرض ودمائي تملأ ملابسي … والغضب يسيطر علّي وأنا أرى شالي الجديد كيف هو ملطخ الآن بدماء حارة لزجة . . بأي سائل الآن يمكنني أن أنظفها ؟!.. ثم ما لبثت أن نفضت عني هذه الفكرة التافهة وأنا أضحك كيف يمكن للمرء أن تخطر في ذهنه أحياناً أشياء تافهة كهذا في مواقف صعبة وخطيرة …

تجمعت الحشود في غضون ثوان .. ترجل سائق العربة من سيارته وهو يضع كفيه على رأسه والخوف بادٍ في كل تفاصيله وملامح وجهه… يرتجف كقشة في مهب الريح .. أشفقت عليه وهو يهمس لنفسه : ” لا تموتي أرجوك..” شعرت بالغرابة إذ كيف أمكنني من هذا البعد أن أسمع همسه … حينها إنتبهت إلى أنني بعيدة جداً عنهم لكني قريبة في ذات الوقت بشكل محير جداً .. وأراهم بوضوح خارق للعادة كأني أشاهد فيلماً على شاشة ثلاثية الأبعاد أو كأنني أقف خلف كاميرا بؤرتها حساسة بشكل خرافي..

تجمعت الحشود وكل يغني على ليلاه .. شعرت بالخجل يجتاحني إذ أن ثوبي إرتفع وكشف عن ساقاي .. أحد الرجال في الحشود لم يزح عنهما ناظريه … كدت أن أصفعه
:
” أنا ميتة يا غبي … !!”
وقبل أن أمد له يدي لمحت أحدهم يسحب عني حقيبتي ويفرغ محتوياتها .. يبحث في محفظتي الخاصة ليخرج لهم بطاقة تُعّرف عن هويتي .. لكن لم تفتني خفة يده وأنا أراه يضع خلسة المال وهاتفي المحمول في جيب بنطاله.. صرخت فيه : ” يا حقير.. !!”

كنت في وضعي ذاك قرابة العشر دقائق .. هرج ومرج يتفحصني المارة وتلمسني الأنامل والأيدي ما شاءت لها من لمسات .. حتى حضر الضابط ليسجل بيانات الحادث ويعطي الإذن بحملي لأقرب مشفى… كنت أفكر حينها : لربما ما زالت هناك بعض روح .. هذا ما يفسر وجودي البارد الخفي في الأرجاء … لكنها بالتأكد كانت لتخرج الآن وهي قيد إنتظار…!!

غاضبة من الجميع .. ألا يكفي أني متُّ وأنا غاضبة من نفسي ومن كل قريب… ليتحامل الآن علّي حتى الغرباء..؟!!

في المشفى … كسرني الحزن الهائل لدموع أبي.. والطبيب يبلغه ملخص تقريره الطبي : ” كسر في الجمجمة والقفص الصدري ونزيف حاد في المخ وقلب معطوب منذ زمن.. البقاء لله “

يخر أبي جاثياً على الأرض ينوح كطفل صغير.. أخّرُ بجانبه وأربت على كتفيه ولكنه لا يشعر بي … أحس باهتزازات جسده الباكي وهو لا يشعر بلمستي الباردة الخفيفة كنسمة ليل صيفية .. إنه حتى لم يسمعني وأنا أطلب منه السماح والغفران … إذ لم يكن بمقدوري أن أفهم سبب قلقه الدائم وكنت فاشلة في إقناعه بأني لم أعد صغيرته وأني بلغت من العمر ما يكفي ليرفع عني ثقل خوفه وأستار قلقه المكبوت والفاضح .. الآن فهمت .. أني ما زالت صغيرته مهما كبرت .. فالحزن سيان .. فهمتُ بعد فوات الأوان..

تداعى الخبر سريعاً كشرارة ما صدقت أنها حصلت على هشيم جاف لتعيث فيه حريقاً .. إشتعلت النار بين مصدق ومكذب.. مشدوه ونائح .. بين حزين ومدّع… أمي تصرخ ملء صوتها : ” أواه يا أبنتي . أواه يا فلذة كبدي وتفاحة عمري” .. تولول وتتلقفها الأحضان والأيدي .. كنت أسمع همسها مع نفسها : ” يا ابنتي لو كنت فقط تصغين لعتبي عليك .. حين تؤخرين صلاتك احياناً .. ووضع همومك بين أيادي الله الرحيمة … لو كنت بإخلاص تتوجهين له بأحمالك وأثقالك .. لما فلتت منك بكرة الحزن وتشابك خيط الألم بخطوات حياتك فأثقل خطوك ..!! ”
مسحت على دمعها وجزعها .. ووهبتها اليقين الذي كانت دائما تتدثر به…

الكل كان يصرخ .. حين أتوا بجثماني من المشفى .. كنت أشعر بالإنزعاج … إنزعاج تام لا أدري كنهه .. لربما هي صرخات المعزيين والمولولين .. صدق دموع صديقاتي المقربات .. صدمة أحبائي وشقائهم … نحيب أقاربي وأهلي…
حتى لمحته هناك… تمسك بيده الصغيرة الجميلة الحبيبة إحدى صديقاتي … تضمه وهي تجهش صدمتها … وهو يصرخ : “ماما .. ماما ..” تقطعت قلوب الحاضرين وجعلتهم صرخاته يذرفون الدمع مدراراً .. صغيري كان يهمس: ” ماما ماتت ! .. لكن أنا أريدها قربي ” …

حينها لم أستطع أن أكبح جماح ألمي الجارف… فانفجرت بالنحيب والعويل… أبكيني ما أستطعت من دموع …. دنوت منه … أتطلع إلي عينيه الباكيتين .. أمّد إليه يداي وجلتان راجفتان .. دموعه تتساقط عليهما فأراهما بأُم عيني تتلاشيان في الفضاء الذي يفصلنا … تنتابني القشعريرة ..

فجأة يبدو المشهد مختلفاً …تبدأ الأصوات في الإختفاء رويداً رويداً… يختفي النحيب .. الوجوه ..الجدران وكل الأشياء المحيطة … كل شيء يتهاوى إلا أنا وصغيري والصمت.. كلما حاولت أن أحتضنه كلما اختفيت أكثر وتلاشيت … من فوقنا كانت كوة النور تزداد وأنا أجهش حزني : صبراً …رفقاً.. أنا فقط أحتاج لحظة عناق .. عناق أخير ..
لكن وقتها إختار الموت أن يعتصر روحي.. فأتلاشى بالكامل وأنا أحاول بلا جدوى أن أحتضن للمرة الأخيرة صغيري الحبيب…

أكثر ما أماتني وأحزنني وكسرني في موتي .. صغيري وحزنه البريء وحوجة عناق أخير…. !!
التفاعلات: ماريا حاج حسن

تعليقات

رغم أني قرأت الموضوع ذاته ضمن نصوص متعددة... لكتاب لهم شأو مثالا لا حصرا توفيق الحكيم، وسمعت عن هذه الظاهرةأكثر من...مرة، ورغم ... ورغم ...أقر اني استمتعت كثيرا بالسرد الجميل وسلاسته مذ البداية حتى نقطة النهاية... احترامي وفائق تقديري
 
اشكرك جزيلا استاذي .. ويبقي اطراؤكم دافعا للمضي قدما .. وزينة تزين قلبي للابد..
 
إ
لأن الحياة قصيرة...قصيرة جدا
لا ينبغي أن ننثر فيها سوى أزهار المحبة والسلام
لتودعها أنفسنا برضا..ونور يغمرها
فالموت حقيقة لا مفر منها لكل الكائنات
ومابعد الموت لغز..

الأستاذة ليلى....سلمت يداك
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...