أتذكر الآن التجربة الأولى في عالم الكتاب .. كانت مجموعة من الموضوعات الإنشائية ، المشكلة بطريقة تعطيها بعض الحق في الادعاء بأنها قصص قصيرة .. أو قصيرة جدا .. كان التطلع إلى الكتابة والنشر ، أي السعي إلى الناس ومخاطبتهم وتأكيد الذات من خلال الاتصال بهم ، والتأثير – المظنون منهم – كان هذا التطلع مبكرا نسبيا ، في أواسط المرحلة الثانوية .. تحركت اللغة ، لغة نابعة من حفظ القرآن ، والشغف بروايات جورجى زيدان ، وقراءة العهد القديم وقصص التوراة المشوقة ، ولهذا جاءت الكتابات القصصية الأولى قسمة بين مشاهد تاريخية وحكايات من واقع القرية أشبه بالتحقيق الصحفي ، وبعض الخواطر القصصية المبتدعة كتخيل لاحتمالات الواقع . أخذت هذه "الأصداف" المغلقة على خدع وحقائق مكانها فى كراس من أربع وستين صفحة ، وذهبت بها إلى مطبعة الخولي بالمنصورة ، فعرفت أن الخطوة الأولى هي الحصول على موافقة الرقابة على المطبوعات . كان ذلك عام 1954 والانقلاب العسكري مسيطر على مصر ، واحتمالات الانشقاق بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر بادية في الأفق ، وفى هذه الفترة وقبلها أيضا – فرضت رقابة شديدة على وسائل النشر . لم يكن في كراستي ما يضايق أحدا ، لا الحكومة ، ولا الذين يؤيدونها ، ولا الذين يعارضونها .. ذهبت إلى إدارة النشر والرقابة فى مديرية المنصورة ، قبل أن تسمى محافظة ، وعرفت أن علىّ أن أكتب الكراسة ثلاث مرات ، لم يكن التصوير سهلا أو حتى معروفا لنا ، كما أن الطبع على الآلة الطابعة مما لا تحتمله ميزانية تلميذ في المرحلة الثانوية ، ولهذا لم يكن بد من أن أقوم بنفسي بنقل الكراسة ذاتها مرتين أو ثلاثا في ما أظن ، وقد بذلت هذا الجهد الآلي المميت بصبر واحتمال ، رغم أنني – قرب النهاية – كنت قد حفظت قصصي ، ومللتها ، وتمنيت لو أتخلص منها . لكن هذه الآلام جميعا قد انقضت بمجرد أن تسلم موظف الرقابة النسخ منى ، وطلب أن أعود بعد أسبوع ، وقد عدت لأجد نسخة واحدة في انتظاري ، مكتوب عليها إذن الرقابة والسماح بالنشر ، ووجدت "ختم النسر" فوق غلاف الكراسة ، وفوق كل صفحة من صفحاتها الأربع والستين ، كانت لحظة إشراق سعيدة ، وكأن هذا الختم الرائع قال كل شيء وأبدى رأيه في قصصى السعيدة . انتهت المرحلة التي ظننتها شاقة ، لكن انتهاءها كشف عن مرحلة أشق ، كيف نصل إلى المطبعة ؟ لا أمل في ناشر يتحمل نفقات الكتاب ، ولا مفر من أن أكون الممول لكتابى الأول ، وقد عرفت أنني بحاجة إلى اثني عشر جنيها لطبع ثلاثمائة نسخة ، فكيف أحصل على هذا المبلغ "الخرافي" ؟ وهل يصدر حكم بالإعدام على أحلى الأحلام من أجل المال ؟
هنا اقترح الأصدقاء المشفقون أن نبيع الكتاب قبل طبعه ، نبيع السمك وهو لا يزال في البحر ، ونلقي العشم كله على جمهور الثانوي ، وهو القارئ المنتظر ، إذا ما صدر الكتاب . وفعلا ، طبعت إيصالات ، قيمة الإيصال خمسة قروش فقط لا غير ، وانتشر مروجو الإيصالات بين زملاء المعهد حتى جمعنا أكثر المبلغ المطلوب ..
بعد عناء ، وطول انتظار ، ظهر الكتاب الأول ، وكان اسمه "أول همسة" ، كما يولد طفل في كوخ صغير ، مهما كان شكله ، وفقره ، فإن براءة الطفولة كلها ، كامنة فيه .
* هذه المقالة القصيرة نشرت بصحيفة الرأي العام الكويتية في 27/5/1985 حين كنت أستاذا للنقد الأدبي بكلية الآداب ( جامعة الكويت ) – ووجدتها – بنصها بين أوراقي ، وبما أنني حملت نفسي مسئولية التعريف ما كتبت ( على توالي الصدور ) فقد أغفلت الذاكرة هذا العمل القديم جدا ، الذي ( قد يدل ) على نازع طفولي ، رغم السنين – لا يزال يعيش طفولته !!
www.facebook.com
هنا اقترح الأصدقاء المشفقون أن نبيع الكتاب قبل طبعه ، نبيع السمك وهو لا يزال في البحر ، ونلقي العشم كله على جمهور الثانوي ، وهو القارئ المنتظر ، إذا ما صدر الكتاب . وفعلا ، طبعت إيصالات ، قيمة الإيصال خمسة قروش فقط لا غير ، وانتشر مروجو الإيصالات بين زملاء المعهد حتى جمعنا أكثر المبلغ المطلوب ..
بعد عناء ، وطول انتظار ، ظهر الكتاب الأول ، وكان اسمه "أول همسة" ، كما يولد طفل في كوخ صغير ، مهما كان شكله ، وفقره ، فإن براءة الطفولة كلها ، كامنة فيه .
* هذه المقالة القصيرة نشرت بصحيفة الرأي العام الكويتية في 27/5/1985 حين كنت أستاذا للنقد الأدبي بكلية الآداب ( جامعة الكويت ) – ووجدتها – بنصها بين أوراقي ، وبما أنني حملت نفسي مسئولية التعريف ما كتبت ( على توالي الصدور ) فقد أغفلت الذاكرة هذا العمل القديم جدا ، الذي ( قد يدل ) على نازع طفولي ، رغم السنين – لا يزال يعيش طفولته !!
أ.د. محمد حسن عبدالله
أ.د. محمد حسن عبدالله ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit أ.د. محمد حسن عبدالله und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu...