- أيها السادة،أهل الحل والعقد ، الأرض تموت ، يخنقها احترارها.
لنرْأفْ بها ونرحمْها، قبل أن تلفظ أنفاسها .
إنها... ونحن جسد واحد؛ بقاؤنا في سلامتها، واندثارنا في خرابها...
كان حزينا وهو يخاطب الجمع، وكان في كلامه حزم وفظاظة ، استشعر أنهما لن يفيداه في الإقناع، فبات يلطف من حدة خطابه، جاعلا جملَه رقيقة ، هادئة وكأنها قطع من قصيدة شعر رومانسية... واسترسل:
- لنفكر في وجودنا و مآلاته... إنّا مقبلون على رسم نهاية مأساوية لنا على الأرض، لنغير ـ قبل الوصول إلى نقطة لا عودة ـ من نمط حياتنا ،ولنضع حدا لاعتمادنا على الطاقة الأحفورية، ولنسعَ قدما نحو الشمس، الأصل.
لا حظ مرة أخرى أن القاعة لم تتململ، صامتة كأرائكها الوثيرة، باردة كبلاطها الرخامي ،غير أنه لم ين ولم ييأس، بل تابع شروحاته مشركا يديه وعامة جسده وعارضة البيانات ، وحتى فنتازيته وخياله الواسع:
- لتعلموا إن البطاريق استشعرت الخطر وباتت تستنبت ريشا؛ والدببة البيضاء تماهت مع الشقراء...لنَحْذُ ـ يا سادة ـ حذو الخلائق فما خاب يوما إحساس هاته العجماوات... استبقوا الأحداث قبل فوات الأوان، لعل المرجان يستعيد عافيته، والقطبين يتراجع انكسار جليدهما، والطيور المهاجرة تسترد اتزان بوصلتها، والفقس... لا يبقى خارج زمانه.
لنا... يا سادة ! في فتونات الشمس، ــ ولا شيء سواها- حبل النجاة من انقراض حتمي.
فكرتي...فكرة قديمة، لكن... مرقّاة.
هي عدا سلسلة من الوشيعات مترابطة منتظمة على نحو دقيق ومعين تُحوّل فتونات الشمس إلى طاقة لا تبيد ولا تنضب، تمنح العالم النور والدفء والحركة بتكلفة الصيانة لا غير...
اِنكب يشرح ويوضح خطاطة مشروعه دون أن يبين سر هندسته الفعال عبر عارضة البيانات، رابط الجأش، واثق النفس، ولما استكفى توجه كليا نحو اللجنة مخاطبا إياها بحزم وصرامة:
ـ أرجو أن توافقوا على مشروعي ليرى النور ولا تقبروه، إليكم اليوم، بل هذه اللحظة يعود مصير هذه الأرض ومصير خلائقها.
لتتحرروا من ربقة لوبي الزيت والقار، !فلن ينفعكم مالهم حين تمور المحيطات، وتجمح الريح، وتحمض مياه البحار والتربة ، ويصيب الأرضَ العقم !
اسمعوا لنداء الاستغاثة القادم من أعماقكم، لعلكم تنقذون الأجيال القادمة من الهلاك، وتحافظون على الحياة فوق أرضنا .
وشكرا لكم والسلام.
توجس رفضا مطلقا للمشروع، تشممه في برودة الأجواء التي ما استطاعت أن تدفئها بعض التصفيقات هناك وهنالك؛ لكن رغم ذلك لم ييأس كما عادته، وظل - إلى حد ما - واثقا من تحقيق نجاح نسبي يؤهل مشروعه للخروج إلى حيز التطبيق خاصة حينما استحضر لغته ومنهجية تقديمه.
بعد لحظات كانت عنده بمساحة ساعات، أخذ رئيس الجمع الكلمة فشكر الحضور وتلا قائمة المشاريع المقبولة واستثناه ولم يشرْ حتى إليه.
أحس بعرق بارد يُغرقه، ورعشة لا سلطانَ له عليها تهزّه، وبضيق في صدره تكاد شدته هدّ ضلوعه؛ فاستجمع بقايا قواه الخائرة وغادر الجمع المتأهب لبداية حفل الاختتام.
متعثرا ، كسيرا كان ينزل السلالم اللولبية، وإذا بغشاوة فُجائيّة تلف العينين أضحى لها الرخام الجِنْوي المرقط أبيضَ فأسودَ، وساورته دوخة التفت لها الساق بالساق واندحر لها سقوطا إلى أسفل الأدراج المساق، محدثا صوتا كانهيار مبنى.
ما تحرك أو تململ، بل ظل حيث سقط، شاحب الوجه، ورضوض عديدة تغطيه، مع نزف في الأذن والأنف.
قليلا وحضر الإسعاف، ونُقل على وجه السرعة إلى أكبر بوليكنينك في المدينة وآذان الظهر يفلق أجواء المدينة.
أُخبرت أمُّه، فلحقت به. فتزامن دخولها ومرورَه أمامها على الحامل .
مسحت جسده المسجى وجِلة قلقة، ثم انحنت عليه وطبعت قبلة بين عينيه؛
هالها نفسه الخافت، وصفرته الفاقعة فانخرطت في نوبة من عويل،خدشت حدتها سكينة المكان غير أن الساعف طمأنها على حاله ودفع السرير لفك الارتباط ،متجها نحو جناح المستعجلات
ظلت رابضة قرب مكتب الاستقبال، تذرع الممر الفاصل بين الأجنحة جيئة وذهابا، واضطراب جلي يطبع حركاتها وحزن ثقيل يشكل خريطة أساريرها، وبين الحين والحين تطالع ساعتها أو تنتفض لا إراديا لأدنى حركة أو صرير باب حولها.
وهي في صراع لا يفتر وهواجسها الجامحة إذ ينفتح باب في أقصى الممر عن جمهرة من ذوي الياقات البيضاء؛ ممرضين وأطباء يسيرون في رتل، هرعت نحوهم جافلة تنازعها الظنون .
ما أن أدركتهم حتى تحلقوا بها .
دارت حولها ودارت، تستطلع الوجوه لعلها ترى في ملامحهم الصارمة ما يطمئنها ؛ ويُجيب عما يصطرع في قراراتها من أسئلة.
وهي حيرى ربت الطبيب الرئيس للكلينيك على كتفها قائلا:
ـ نحن آسفون ياسيدتي ، قد بذلنا قصارى جهدنا... ولكن...
قاطعته صارخةُ:
- ولكن ماذا ؟ أوَ مات أبو النور ... ولدي؟ قل لي يا سيدي: - مثلا - إنه في غيبوبة، أوأنه سيتعافى...أو ...
رد عليها الطبيب بصوت رقيق وحزين، ولكن لا يخلو من صرامة:
كانت يد الله - يا سيدتي - أقرب إليه مما كنا؛ لله ما يعطي وله ما يأخذ .
انهارت ساقطة آن استيقنت أن صغيرها خسر معركته مع الحياة ،فسارعت ممرضة قريبة منها وتلقفتها و أجلستها على كرسي متحرك مركون جانبا، ثم دُفع بها إلى قاعة أُغلقت على الجميع.
حُقنت الثكلى مهدئا قويا ، جعلها سحرُه الكيماويُّ حين استرجعت وعيها سيدة أمرها، مدبرة بيد من فولاذ مجريات أزمتها.
طالعت وجوه من حولها بعين كليلة فاترة مثقلة بالحزن وقالت:
- ليتقبله الله، ويحسن مثواه، شكرا لكم على مجهودكم الإنساني..فهلْ لكم أن تجهزوه لأدفنه وأخلص لبكائه؟
رد الطبيب الرئيس بتثاقل ، وتقطع وكأنه يجاهد بحثا عن المفردات المناسبة للوضع:
سيكون سيدتي ذلك في أقرب وقت ممكن...
أنا ... بدوري في غاية الحزن عليه، إني... أعرفه، وكثيرا ما كنت أصادفه، كم هو طيب القلب ! وسع حبه كل شيء، حتى أعداءه... !أرى من المنكر ان يباد هذا القلب الرقيق، ويتلاشى، فمن الجميل أن يظل ينبض ويزرع بذور الحياة والحب كما كان صاحبه...
وكأن عبارة : "يظل ينبض..." استفزتها فاستوت متيقظة وسالت الطبيب الرئيس:
- ما تعني بكلامك هذا...؟
رد الطيب وهو يجاهد – مرة أخرى – بحثا على العبارات المناسبة وكأنه فقد ابجديات الكلام:
- إنا لنا ... يا سيدتي... هنا في المصحة شابا ينتظر منذ أمد طويل قلبا بمواصفات قلب ولدك... فسيكون جميلا لو سمح لنا ولدك من خلالك لأن نزرع قلبه في صدر ذاك المعلول...
دققت في عينه لحظات، يعلم الله ما جال في خاطرها خلالها ثم أشاحت عنه مقلبة نظرها في أرجاء الحجرة الفسيحة وأشارت إشارة بمقلوب يديها معبرة عن موافقتها.
شكرها الجمع بانحناءة لا غير، وانبرت منه سيدة طبيبة في العقد الخامس وربتت على كتفها وقالت:
لا تحزني يا سيدتي، كوني واثقة، لو كان بإمكانه أخذ القرار لا ما تراجع عما رأيته أنت الآن عين الصواب، إنه طيب وخلوق، فأنا كذلك أعرفه وكثيرا ماكنت أصادفه ! لمست فيه عن قرب بُعْد النظر، واستشرافا صائبا للمستقبل؛ فمن الجحود بعبقريته أن نترك بوابة بصره وبصيرته تتلاشى بين ثنايا العدم... لنا يا سيدتي طفل حرقت قرنيته الشمس ذات كسوف ينتظر واهبا مذ ما شاء الله...
قبل ان تتمم الطبيبة كلامها أشارت أم أبي النور إشارة بمقلوب يدها مرات تأكيدا على موافقتها...
ترادفت الطلبات تباعا ولما تردّ او ترفضْ واحدا ، حتى سمعت صوتا خافتا بالكاد يسمع يستسمحها في التصرف في بشرته، إذ ذاك ثارت ثورة لبؤة جريح وقالت:
- إلا الجلد... ! كيف يصير حاله بدونه، من يرضى لولده ان يُرى على نحو شائه...؟ لا.. لا لن يكون ذا ابدا.
تقدم عندئذ نحوها رجل قد ابيضّت فوداه وحتى حواجبه وهدّأ من روعها، بل قال لها:
- صغيرك يا سيدتي راح حيث سنرحل جميعا وما تبقي إلا ظله بل بقايا ظله؛ ما كان لك لتقفي في منتصف الطريق فخير لك ان تظلي تتحسي اثره هنا وهناك بين الخلائق على أن يباد ويندرس أثرا بعد عين في المدى... إني انا أيضا - ياسيدتي - أعرفه وكثيرا ما كنت أصادفه... وسجّلت عليه أنه يقري الضيف ويجير المستجير،ويَكْسي الجائع والفقير، لطفا لا تكوني ضد إرادته في مماته بعدما كنت راضية على أياديه البيضاء وهو حي يرزق...
لنا شابة أكلت النار جسدها وشاه جسمها وصار يحتاج سترا وتقويما، فلا تبخلي بإشارة منك لتجميلها...
أشارت بمقلوب يدها مطأطئة الرأس شاردة البال دون ان تنبس بكلمة ثم همت بالمغادرة إقرارا منها ان لا شيء بقي تجهيزه للدفن.. لكن ما ان حاولت حتى خرت ساقطة مغمى عليها من جديد...
استفاقت بعد حين على جلبة حولها ولما فتحت عينيها رأت ممرضة تدفع سريرا عليه شيئا مسجّى هرعت نحوها وهي تتعثر ثم أزاحت الغطاء فتبدت أمامها أشياؤه: حاسوبه وساعته وحذاؤه اللامع وملابسه... ضمت هاته الأخير إلى صدرها وصارت تتشممها، لا زالت مضمخة بعطره الصباحي المعتاد ورائحة عرقه المميزة له هي أيضا حاضرة كما عهدتها...
فجأة توقفت وبلطف شديد وضعت ملابسه مكومة حيث كانت ومدت يدها إلى وعاء به دماغ كامل يسبح في سائل الفورمول، ضمته إليها وخرجت حافية القدمين دون ان تعري اهتماما ليد الطبيب الممدودة إليها بشيك مثقل برقم صحيح وكذا أصفار على يمينه.
Tesla(تسلا): مهندس عبقري صربي مجنس أمريكيا اختص في الكهرباء والميكانيك
لنرْأفْ بها ونرحمْها، قبل أن تلفظ أنفاسها .
إنها... ونحن جسد واحد؛ بقاؤنا في سلامتها، واندثارنا في خرابها...
كان حزينا وهو يخاطب الجمع، وكان في كلامه حزم وفظاظة ، استشعر أنهما لن يفيداه في الإقناع، فبات يلطف من حدة خطابه، جاعلا جملَه رقيقة ، هادئة وكأنها قطع من قصيدة شعر رومانسية... واسترسل:
- لنفكر في وجودنا و مآلاته... إنّا مقبلون على رسم نهاية مأساوية لنا على الأرض، لنغير ـ قبل الوصول إلى نقطة لا عودة ـ من نمط حياتنا ،ولنضع حدا لاعتمادنا على الطاقة الأحفورية، ولنسعَ قدما نحو الشمس، الأصل.
لا حظ مرة أخرى أن القاعة لم تتململ، صامتة كأرائكها الوثيرة، باردة كبلاطها الرخامي ،غير أنه لم ين ولم ييأس، بل تابع شروحاته مشركا يديه وعامة جسده وعارضة البيانات ، وحتى فنتازيته وخياله الواسع:
- لتعلموا إن البطاريق استشعرت الخطر وباتت تستنبت ريشا؛ والدببة البيضاء تماهت مع الشقراء...لنَحْذُ ـ يا سادة ـ حذو الخلائق فما خاب يوما إحساس هاته العجماوات... استبقوا الأحداث قبل فوات الأوان، لعل المرجان يستعيد عافيته، والقطبين يتراجع انكسار جليدهما، والطيور المهاجرة تسترد اتزان بوصلتها، والفقس... لا يبقى خارج زمانه.
لنا... يا سادة ! في فتونات الشمس، ــ ولا شيء سواها- حبل النجاة من انقراض حتمي.
فكرتي...فكرة قديمة، لكن... مرقّاة.
هي عدا سلسلة من الوشيعات مترابطة منتظمة على نحو دقيق ومعين تُحوّل فتونات الشمس إلى طاقة لا تبيد ولا تنضب، تمنح العالم النور والدفء والحركة بتكلفة الصيانة لا غير...
اِنكب يشرح ويوضح خطاطة مشروعه دون أن يبين سر هندسته الفعال عبر عارضة البيانات، رابط الجأش، واثق النفس، ولما استكفى توجه كليا نحو اللجنة مخاطبا إياها بحزم وصرامة:
ـ أرجو أن توافقوا على مشروعي ليرى النور ولا تقبروه، إليكم اليوم، بل هذه اللحظة يعود مصير هذه الأرض ومصير خلائقها.
لتتحرروا من ربقة لوبي الزيت والقار، !فلن ينفعكم مالهم حين تمور المحيطات، وتجمح الريح، وتحمض مياه البحار والتربة ، ويصيب الأرضَ العقم !
اسمعوا لنداء الاستغاثة القادم من أعماقكم، لعلكم تنقذون الأجيال القادمة من الهلاك، وتحافظون على الحياة فوق أرضنا .
وشكرا لكم والسلام.
توجس رفضا مطلقا للمشروع، تشممه في برودة الأجواء التي ما استطاعت أن تدفئها بعض التصفيقات هناك وهنالك؛ لكن رغم ذلك لم ييأس كما عادته، وظل - إلى حد ما - واثقا من تحقيق نجاح نسبي يؤهل مشروعه للخروج إلى حيز التطبيق خاصة حينما استحضر لغته ومنهجية تقديمه.
بعد لحظات كانت عنده بمساحة ساعات، أخذ رئيس الجمع الكلمة فشكر الحضور وتلا قائمة المشاريع المقبولة واستثناه ولم يشرْ حتى إليه.
أحس بعرق بارد يُغرقه، ورعشة لا سلطانَ له عليها تهزّه، وبضيق في صدره تكاد شدته هدّ ضلوعه؛ فاستجمع بقايا قواه الخائرة وغادر الجمع المتأهب لبداية حفل الاختتام.
متعثرا ، كسيرا كان ينزل السلالم اللولبية، وإذا بغشاوة فُجائيّة تلف العينين أضحى لها الرخام الجِنْوي المرقط أبيضَ فأسودَ، وساورته دوخة التفت لها الساق بالساق واندحر لها سقوطا إلى أسفل الأدراج المساق، محدثا صوتا كانهيار مبنى.
ما تحرك أو تململ، بل ظل حيث سقط، شاحب الوجه، ورضوض عديدة تغطيه، مع نزف في الأذن والأنف.
قليلا وحضر الإسعاف، ونُقل على وجه السرعة إلى أكبر بوليكنينك في المدينة وآذان الظهر يفلق أجواء المدينة.
أُخبرت أمُّه، فلحقت به. فتزامن دخولها ومرورَه أمامها على الحامل .
مسحت جسده المسجى وجِلة قلقة، ثم انحنت عليه وطبعت قبلة بين عينيه؛
هالها نفسه الخافت، وصفرته الفاقعة فانخرطت في نوبة من عويل،خدشت حدتها سكينة المكان غير أن الساعف طمأنها على حاله ودفع السرير لفك الارتباط ،متجها نحو جناح المستعجلات
ظلت رابضة قرب مكتب الاستقبال، تذرع الممر الفاصل بين الأجنحة جيئة وذهابا، واضطراب جلي يطبع حركاتها وحزن ثقيل يشكل خريطة أساريرها، وبين الحين والحين تطالع ساعتها أو تنتفض لا إراديا لأدنى حركة أو صرير باب حولها.
وهي في صراع لا يفتر وهواجسها الجامحة إذ ينفتح باب في أقصى الممر عن جمهرة من ذوي الياقات البيضاء؛ ممرضين وأطباء يسيرون في رتل، هرعت نحوهم جافلة تنازعها الظنون .
ما أن أدركتهم حتى تحلقوا بها .
دارت حولها ودارت، تستطلع الوجوه لعلها ترى في ملامحهم الصارمة ما يطمئنها ؛ ويُجيب عما يصطرع في قراراتها من أسئلة.
وهي حيرى ربت الطبيب الرئيس للكلينيك على كتفها قائلا:
ـ نحن آسفون ياسيدتي ، قد بذلنا قصارى جهدنا... ولكن...
قاطعته صارخةُ:
- ولكن ماذا ؟ أوَ مات أبو النور ... ولدي؟ قل لي يا سيدي: - مثلا - إنه في غيبوبة، أوأنه سيتعافى...أو ...
رد عليها الطبيب بصوت رقيق وحزين، ولكن لا يخلو من صرامة:
كانت يد الله - يا سيدتي - أقرب إليه مما كنا؛ لله ما يعطي وله ما يأخذ .
انهارت ساقطة آن استيقنت أن صغيرها خسر معركته مع الحياة ،فسارعت ممرضة قريبة منها وتلقفتها و أجلستها على كرسي متحرك مركون جانبا، ثم دُفع بها إلى قاعة أُغلقت على الجميع.
حُقنت الثكلى مهدئا قويا ، جعلها سحرُه الكيماويُّ حين استرجعت وعيها سيدة أمرها، مدبرة بيد من فولاذ مجريات أزمتها.
طالعت وجوه من حولها بعين كليلة فاترة مثقلة بالحزن وقالت:
- ليتقبله الله، ويحسن مثواه، شكرا لكم على مجهودكم الإنساني..فهلْ لكم أن تجهزوه لأدفنه وأخلص لبكائه؟
رد الطبيب الرئيس بتثاقل ، وتقطع وكأنه يجاهد بحثا عن المفردات المناسبة للوضع:
سيكون سيدتي ذلك في أقرب وقت ممكن...
أنا ... بدوري في غاية الحزن عليه، إني... أعرفه، وكثيرا ما كنت أصادفه، كم هو طيب القلب ! وسع حبه كل شيء، حتى أعداءه... !أرى من المنكر ان يباد هذا القلب الرقيق، ويتلاشى، فمن الجميل أن يظل ينبض ويزرع بذور الحياة والحب كما كان صاحبه...
وكأن عبارة : "يظل ينبض..." استفزتها فاستوت متيقظة وسالت الطبيب الرئيس:
- ما تعني بكلامك هذا...؟
رد الطيب وهو يجاهد – مرة أخرى – بحثا على العبارات المناسبة وكأنه فقد ابجديات الكلام:
- إنا لنا ... يا سيدتي... هنا في المصحة شابا ينتظر منذ أمد طويل قلبا بمواصفات قلب ولدك... فسيكون جميلا لو سمح لنا ولدك من خلالك لأن نزرع قلبه في صدر ذاك المعلول...
دققت في عينه لحظات، يعلم الله ما جال في خاطرها خلالها ثم أشاحت عنه مقلبة نظرها في أرجاء الحجرة الفسيحة وأشارت إشارة بمقلوب يديها معبرة عن موافقتها.
شكرها الجمع بانحناءة لا غير، وانبرت منه سيدة طبيبة في العقد الخامس وربتت على كتفها وقالت:
لا تحزني يا سيدتي، كوني واثقة، لو كان بإمكانه أخذ القرار لا ما تراجع عما رأيته أنت الآن عين الصواب، إنه طيب وخلوق، فأنا كذلك أعرفه وكثيرا ماكنت أصادفه ! لمست فيه عن قرب بُعْد النظر، واستشرافا صائبا للمستقبل؛ فمن الجحود بعبقريته أن نترك بوابة بصره وبصيرته تتلاشى بين ثنايا العدم... لنا يا سيدتي طفل حرقت قرنيته الشمس ذات كسوف ينتظر واهبا مذ ما شاء الله...
قبل ان تتمم الطبيبة كلامها أشارت أم أبي النور إشارة بمقلوب يدها مرات تأكيدا على موافقتها...
ترادفت الطلبات تباعا ولما تردّ او ترفضْ واحدا ، حتى سمعت صوتا خافتا بالكاد يسمع يستسمحها في التصرف في بشرته، إذ ذاك ثارت ثورة لبؤة جريح وقالت:
- إلا الجلد... ! كيف يصير حاله بدونه، من يرضى لولده ان يُرى على نحو شائه...؟ لا.. لا لن يكون ذا ابدا.
تقدم عندئذ نحوها رجل قد ابيضّت فوداه وحتى حواجبه وهدّأ من روعها، بل قال لها:
- صغيرك يا سيدتي راح حيث سنرحل جميعا وما تبقي إلا ظله بل بقايا ظله؛ ما كان لك لتقفي في منتصف الطريق فخير لك ان تظلي تتحسي اثره هنا وهناك بين الخلائق على أن يباد ويندرس أثرا بعد عين في المدى... إني انا أيضا - ياسيدتي - أعرفه وكثيرا ما كنت أصادفه... وسجّلت عليه أنه يقري الضيف ويجير المستجير،ويَكْسي الجائع والفقير، لطفا لا تكوني ضد إرادته في مماته بعدما كنت راضية على أياديه البيضاء وهو حي يرزق...
لنا شابة أكلت النار جسدها وشاه جسمها وصار يحتاج سترا وتقويما، فلا تبخلي بإشارة منك لتجميلها...
أشارت بمقلوب يدها مطأطئة الرأس شاردة البال دون ان تنبس بكلمة ثم همت بالمغادرة إقرارا منها ان لا شيء بقي تجهيزه للدفن.. لكن ما ان حاولت حتى خرت ساقطة مغمى عليها من جديد...
استفاقت بعد حين على جلبة حولها ولما فتحت عينيها رأت ممرضة تدفع سريرا عليه شيئا مسجّى هرعت نحوها وهي تتعثر ثم أزاحت الغطاء فتبدت أمامها أشياؤه: حاسوبه وساعته وحذاؤه اللامع وملابسه... ضمت هاته الأخير إلى صدرها وصارت تتشممها، لا زالت مضمخة بعطره الصباحي المعتاد ورائحة عرقه المميزة له هي أيضا حاضرة كما عهدتها...
فجأة توقفت وبلطف شديد وضعت ملابسه مكومة حيث كانت ومدت يدها إلى وعاء به دماغ كامل يسبح في سائل الفورمول، ضمته إليها وخرجت حافية القدمين دون ان تعري اهتماما ليد الطبيب الممدودة إليها بشيك مثقل برقم صحيح وكذا أصفار على يمينه.
Tesla(تسلا): مهندس عبقري صربي مجنس أمريكيا اختص في الكهرباء والميكانيك