سعد الصالحي - مراثي غيلان (الجرعة الأولى)

((مادمنا على قيد الحياة ، فهذا مجرد يومٍ سيءٍ … آخر))

حورية

كنت أحبو، وكان أول الأشياء صراخي ساعة رأيت وجه ابن عمتي (رياض) مبتسما وهو يهدهدني ثم يحملني إلى دار العروس (حورية).

أخذنـّي من يديه وأجلسنـّي في حضن أمي جنب تلك الحورية البيضاء ذات الشعر الأحمر والأسنان البارزة على الرغم من كل ذلك الجمال، ثم رحن يدقـّنّ على الطبلات الفخارية وقد اختلطت بياضات العرس بعباءاتهن السود الملقيات على أفخاذهن ورحت منبهرا ببياض زنودهن العاريات.

الكوة

للصيف مذاق النوم على السطوح فوق الفرش الباردة، استيقظت بنداء خفي وأزحت غطائي ثم زحفت نحو (السماية)، هي كوة بمساحة قدم واحدة تفصل بلوح زجاجي أرضية السطح عن فضاء المطبخ في الأسفل. كل شئ كان يغط في سكونه، جدي وجدتي تحت (الكٌـلـّة) البيضاء، أبن عمتي رياض في زاويته البعيدة، أمي السمينة وقد غطى سمتها جسد أبي على الجانب الآخر من السرير. تطلّعت إلى النجوم ونزلت إلى شبح القلّة الفخارية على الجدار الواطئ المحيط بالسطح، ثم فضاء المطبخ الساكن على ضياء مصباح كهربي خافت. أردت النزول .. ولا غير..!! قفزت على سطح الكوة، صرخت بعد أن اخترقت زجاجتها التي كـٌسرتْ ربلة ساقي وحـٌشرت ٌفي مساحة الكوة المانعة لانزلاقي نحو الأعماق، معلـّقا بين النجوم والعويل، وبين فضاء المطبخ الساكن على ضياء المصباح الهادئ في الأسفل. تساءل أبي بعد أيام:

– ترى هل كان هذا الطفل يبحث عن انتحار مبكر؟

لم يجبه ٌ رياض وراح يقبـِّلني كأنه الحب.

المقاومة الشعبية

قعدت على الأرض وأمسكت صورة الزعيم بما لا يسمح بانفلاتها أثناء طرقها بالمسامير ليثبتها رياض على العصا الخشبية المستوية، ألححت عليه بسرعة انجازها لأن أصوات الحشد باتت تقترب من أسماعنا. هل كنت سأنسى أول طيف في ذاكرتي لفتيات حشرن بالملابس العسكرية مع حشود من الفتيان؟! بعد لحظات كان رياض يرفعني على كتفه رافعا بيديّ الصغيرتين صورة الزعيم وقد اختلط الغبار من الأسفل بسمت الطاقيات التي تغطي الرؤوس. بعد عقود من تاريخ هذه الحادثة علمت أن رتل المقاومة الشعبية الذي مرّ أمام دارنا والذي اشتركنا فيه ببراءة الطفولة وحماس الفتوة أنا وابن عمتي رياض ماكان إلا أول بادرة تهديد صممت لأبي القومي المنفي إلى التخوم الجرداء المقابلة للحدود الإيرانية في هذه الناحية النائية …… بدرة.

الدكتور قسطنطين

من بقايا اليونانيين الذين غادروا الاتحاد السوفييتي هربا من بطش ستالين. طويل القامة، مفرط السمنة، مكتنز الوجه باحمرار شديد تغطي عينه اليمنى عدسة مونوكل تضفي على منظره ببدلته البيضاء شكل أوروبا بالكامل..! طالما كان هو وأبي يرتادان نادي الموظفين في بدرة ليحتسيا عرق المستكي. في تلك الأمسية بالذات كان جمع من المعلمين ومعهم مأمور المركز قد شاركوهما طاولتهما المعتادة. قال أبي متهكما وهو يربت على رأسي:

– لقد أصبح أبني اليوم شيوعيا فقد رفع صورة الزعيم..(جريو)..

وبعد أن دارت الخمر برأس الدكتور قسطنطين أصر على شرب نخب شفاء ربلة ساقي التي أخاطها ونخب شيوعيتي البكر، فراحوا جميعا يحتسون كؤوسهم على شرف هذه (الخردلة) الوطنية الجديدة، وبدافع ما كان مأمور المركز يقنعني بشرب قدح من البيرة خفية… … تفتت شمل الجالسين، وركضوا هاربين من نادي الموظفين بعد أن احتسيت قدح البيرة .. ذلك أنّي ارتقيت سطح الطاولة وهتفت بأعلى صوتي:

– يسقط الزعيم … يا …

ليتأكد لأبي أن وطنية طفله لا علاقة لها برفع صور الزعماء.

الرجل العصملـّي

تختلط مقبرة النجف بالذاكرة والأسى وتظل عيني مرقونة على فارع طول جدي، مرتديا بدلته الرمادية وسدارته السوداء ومغادرا بين الحين والآخر إلى جهات غير معلومة لا يتبقى منها إلا غيابه الذي يترك الدار ينوء بالصمت..! ماخلا أشيائه الصغيرة التي يتركها متناول اليد في درج خزانته الخشبية. هناك قطعة من جسم غليون فُقدتْ منه أنبوبة الفم وثمة علبة فضية لحفظ التبغ ثم خرز وأقلام حبر قديمة وبعض قصاصات ورق أحال القدم لونها أصفرا وظلت عليها أبيات شعر غير مكتملة…كنت مفتونا بنكهته واصطباره في تلك المغادرات على قلة الزاد وبعد الشقة ووحشة الطريق. أدركت بعد سنين أن هذا الرجل كان وريث حضارات مندثرة. طالما ظللت أذكره وهو يردد:

ستبقون يا أبناء هذا الزمن تعيشون كالحيوانات، والله لن تحلمون بلحظة واحدة من عهد العصملي، أنى لنا بمثل أولئك الأتراك أيها الحمقى..؟!

آدم وحواء

أمسكتُ يداه وشبكتـُهما خلف ظهره ثم دفعته نحو الصالة. أما هي، فكانت تطوقه بذراعيها محاولة كبح جامح خرفه. كنت أقسم لهما بكل غضبي أني لن أتردد عن قتلهما أبدا !!.. ذلك أنهما وريثان لكل شياطين هذه العائلة الفاسدة، فقد تخلى عنه كل أخوته الباقين على قيد الحياة، وتخلى عنها كل أخواتها وأخوتها الذين سبقوها إلى الموت ثم وهي البارعة في التعبير عن ضرورة الرأفة بها كأم تشارف على تخوم العمر ما ترددت لحظة واحدة عن كسر باب غرفتي – أنا أبنها البكر – وسرقة ما ادخرته لها ولأبي من رواتبي طيلة ثمان سنوات من الحرب لتنفقها بعد ذلك وفي غضون شهر واحد على سفرة إلى مصر المحروسة. و( آدم ) الآخر، الأحمق الآخر، فأنه بكـّر كثيرا ليحتفظ اثر كل هذا بشيطانية أرذل العمر، فلطالما أرسلني (وما تجاوزت عشر سنوات) لأستدين له خمسة دنانير من بقال المحلة كي يسدد بها ديون ملابسها الداخلية لأصحاب محلات الكماليات، وما تردد في طعن طفولتي بالولاء لعواطف الخيانة الزوجية عيانا أمام بصري مقبّلا زوجة جارنا وهو يمسك بيدي الصغيرة بين الستارة وباب الدار الأمامية. من يستطيع أن ينقذني من هذه الطفولة السيئة ليستطيع أن ينقذه من غضب تخيـّر كف يدي اليمنى التي دفعته نحو الصالة بعد أربعين عاما؟ لكن هذه اليد تخلـّفتْ بسهولة عن إنزال عقاب الضرب بحق أخي الأصغر الذي ورث حماقة الأب وجنوح الأم .. وراح يرتع في الغوايات.

الحبال

انهارت الحجارة على الشبابيك وتصاعدت أصوات الحشد حول الدار:

– ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة…

وتصاعد كذلك هدير دراجات نارية فاحتضنني رياض وهو يصرخ:

– جدو.. جدو.. لقد جاءوا يطلبون خالي.

ارتقى الجد العصملي درجات سلم الدار إلى السطح وبيده مسدس الموزر، كنا قد انحشرنا جميعا في الباحة الخلفية مرتجفين من رعب الحبال الحمر! بعد هنيهات خرق السماء صوت رصاصات الموزر التي أطلقها جدي على الحشد الغاضب اثر محاولة اغتيال الزعيم الفاشلة في بغداد. ذلك الحشد الذي انطلق من أعماق سويعات سود جامعا غوغاء بدرة انتقاما للزعيم بسحل أحد القوميين.. فاختاروا لذلك أبي. بعد لحظات كالموت نزل جدي وهو يطلق ضحكاته الأسطورية المجلجلة منتصرا بزهو تفريقه لعشرات الرجال بأطلاقتين فقط..! صاحت أمي:

– لكننا لا نعلم أين هو الآن، ربما يكون عائدا من نادي الموظفين .. فيسحلوه !؟

أجاب جدي:

روحوا ناموا .. معليكم.. لقد أرسلته إلى بغداد منذ الصباح الباكر، بعثته إلى نجيب الربيعي ليرتب له نقلا إلى أربيل، نجيب أبن ديرتنا ولن يرد لي طلبا، سنخلص منة هؤلاء قريبا إن شاء الله، روحوا ناموا، الله كريم.

أيقنت مذ حينها تماما، أن لا بد هناك من سوف يظلم كلما واجهتُ مظاهرة سياسية، أو تجمعا كبيرا، أو حشدا يستمع لرجل واحد !!

فرحة

المعدان،الأصل والوجوه والأسطورة، ينتشرون حيثما وجد الماء فينتشر القيمر معهم، و(فرحة) من معدان بدرة أصرّت على تحمل شقاء رعبنا طيلة اختفاء أبي من وطأة الاغتيالات السياسية التي سادت في نهاية الخمسينيات، وفاءا ولاغير لعائلة كانت تهديها على كل جميل قطعة من الذهب. ظلت تلك المعيدية الوفية تحمل أختي الصغيرة الشقراء وتنزهها على ضفاف نهر (الكلال) حبا بنا جميعا ولاسيما بجدي العصملـّي الذي أكتشف تماما كيف يغازلها بلا حياء..! ولسبب ما فقد ظلت أختي حتى بعد وفاة المعيدية بعشرين عاما تصفق جذلة وتصيح بلهجة المعدان كلما شاهدت جملاً ( بعارين .. بعارين ) فيصيب زوجها ( الأستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة )الخجل المشوب بالغضب لأنه لا يعلم كيف يفسر امتزاج طبائع زوجته البرجوازية الصارمة بصيحة ( بعارين .. بعارين) بل ومصرة على شراء ملح البدو كلما مروا بجمالهم من أمام دارها في ( الأعظمية ). وبقيت أذكر (فرحة) ويزداد إعجابي بأولئك الجند المعدان وهم يقودون المشاحيف في متاهات الأهوار التي غمرت بجحيم الحرب العراقية الإيرانية لنوزع حبوب مكافحة الفئران على حجابات الأطواف العائمة في عمق المسطحات المائية بين قامات القصب وغابات البرغش.

على الأرض السلام

البيداء خالية المعالم، وإذ لا وجود لطريق معبد إلى الكوت عبر الصحراء فأن الأمطار والبرق يجعلان الأرض أغرب كثيرا مما أعتيد عليها. أظلمت السماء باكرا بتكاثف الغيوم السود، وازداد يقين الركاب في الباص الخشبي بقضاء ليلة تحت رحمتها، إلا أن الرجال وعلى الرغم من وطأة البرد وشدة الريح والمطر بذلوا أقصى طاقاتهم لتحرير الباص من كمين الوحل الذي أنغرز فيه، بيد أن شهية العجائز والزوجات لأعداد وجبات العشاء أغرتهم بتأجيل هذه المهمة إلى الصباح، عندها ماترددت جدتي في أخراج ( الجولة ) من سلتها وإيقادها بين زحمة العباءات و(البقجات) والأرجل لتعدّ عليها (قوري) الشاي بعد أن أخرجت (الأستكانات) التي اعتادت على اصطحابها كلما سافرنا إلى بغداد، وانصرفت أمي لرصّ لفات الخبز بالبيض المسلوق و(العروك) والخضرة، كان هناك كرنفال وجبة بفرصة ذهبية لحلم لهن بالأكل والحديث عن متاعب الطريق والسفر وأشياء كثر أخر. أما الرجل العصملـّي (جدي) فقد توفرت له الحجج للقص والروي عن أزمنة أتراكه الذهبية غير منقطع خلالها عن لف أوراق التبغ وتدخينها بشهية متقدة. كان يتحدث لشيوخ بعمره عاصروا عهده العصملـّي لكنهم لم يعاصروا بهاءه الذي يزعم الاعتداد به .. غير أنهم اقتنعوا بصواب كل كلمة يقولها وهم يمضغون لفات الخبز بالبيض والخضرة.




ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...