لشبابنا المثقف شكوى تواضَعَ على صيغتها على اختلاف ألوان ثقافته، وتلك الشكوى هي نقص الغذاء الفكري في الحياة المصرية. وقد كان لتبين وجه هذا النقص آثار بغيضة، فهو أولا منتشر في النفس في مزيج من السأم والتشاؤم، وهو على أي حال باعث في العزيمة خوراً وفي الهمة فتورا، وهو بعد ذلك (وهنا وجه السوء) دافع إلى المغالاة في التقدير. إذ كثيرا ما يصيب الصيغة الصحيحة هوى من النفس فتظل في عرف الناس صادقة على مدى الزمن وإن تساقط بعد ذلك وجه الصواب فيها. وكان من أثر هذا النقص أن نظر الشباب إلى الجانب الفكري من الحياة المصرية فتخيله مستنقعا آسنا، فانصرف عنه أما إلى الحياة المادية وما فيها من لهو وعبث، واما إلى مصدر ثقافته مستعينا بالكتب والمجلات الأجنبية.
فلم يكن غريباً بعد ذلك انه كلما بدا وميض من النور في حياتنا الفكرية لم يلق الا أعينا مغمضة، وإذا أينع زهر صغير صادف بردا فذبل والتوى.
أزمة الغذاء الفكري شر أذن، انما شر منها روح التشاؤم الذي فشا في هذا الشباب المثقف، وكلمة السر التي جرت على الألسنة في سهولة عجيبة من انه لا سبيل إلى تلمس هذا النوع من الغذاء في الإنتاج المصري والتي تنتهي إلى قتل العناصر السليمة التي قد تنهض لتغذية حياتنا الفكرية.
وإذا أنا ذكرت الإنتاج المصري فاني أرسل هذه الكلمة على معنى خاص. فأنا استبعد الترجمة لأنها ليست الا وسيلة لتغذية من كانت ثقافتهم عربية محضة، او لتهيئة الاتصال بين ثقافتين مختلفتين. وأنا استبعد كذلك النقد لكي استبقي بعد ذلك صورة واحدة , هي الخ وإذا أنا استبعدت النقد فليس ذلك لأنني أخرجه عن معنى الإنتاج، أو لأنني أتمثله ضعيف الشأن في تمويننا بالغذاء الفكري وانما استبعده لأنه مرهون بالخلق ومن أجل ذلك كان النقد الذي أينعت أثماره في مصر هو ذلك النقد للإنتاج الأوروبي وللإنتاج العربي القديم. أو ذلك النوع من النظرات العامة التي تتلمس أوجه النقص والكمال فيما لدينا من إنتاج لترسم صورته الحقيقية جميلة كانت أو قبيحة.
وقد ظهر أخيراً كتاب أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو من نوع الإنتاج الذي أقصده. ولا أذكر كتاباً قابله النقد في مصر بعناية وتقدير بمثل ما قوبل به هذا الكتاب ولست أتعرض هنا لنقده بعد أن وفاه حقه الدكتور طه حسين والأساتذة مصطفى عبد الرزاق والمازني وهيكل بك ومحمد علي حماد وغيرهم من فضلاء الكتاب.
ذلك أن مؤلف أهل الكهف صديقي ربما كان تقدمي لنقد كتابه (والأمر كذلك) مثيراً لريبة مشروعة. وهل هناك من شك في إنني سوف أحيط كتابتي بإطار من العطف الذي تبرره شريعة الصداقة، أو ليست الصداقة في بعض وجوهها نوعا من التعاون الخالص وضرباً من التنابذ في سبيل النجاح!
وإنما حلا لي أن اكتب عن تاريخ حياة هذا الكتاب. وقد قدرت في تلك الصداقة التي كانت تلقي الريبة على نقده تزكية لا غبار عليها للكتابة عن تاريخ حياته، وما تاريخ حياته الا وجه من تاريخ حياة مؤلفه وقطعة من شخصيته لعلي أجدر الناس بالكتابة عنهما.
منذ عشر سنوات خلت كان توفيق الحكيم طالبا في مدرسة الحقوق ومؤلفا مسرحياً ملحقاً بمسرح حديقة الازبكية، وقد تقدم إلى هذا المسرح في روايات عدة بعضها مؤلف وبعضها مقتبس عن المؤلفات الأوروبية. وقد قرأت هذه الروايات في ذلك الوقت وكنت عندئذ هاويا لكل ما يتعلق بالمسرح. وكان من بين هذه الروايات رواية مؤلفة عنوانها (المرأة الجديدة) وموضوعها مشكلة المرأة في الجيل الحالي وقد لاقت هذه الرواية من النجاح ما لاقت، وقد يكون دون ما تستحق وقد لا يكون، وقد لا يزال توفيق الحكيم ينظر إلى رواياته الأولى بعين لا تخلو من الحنو والعطف وقد يكون هذا الشعور مفهوما من جانبه، أو ليست أعمال الشخص كأطفاله إذا حظى السليم منها بالحب أختص العاطل منها بالعطف والحنان!
وكنت انظر حينئذ إلى توفيق الحكيم بعين الأمل، ذلك إنني كنت أراه منصرفا إلى فنه تمام الانصراف، في إخلاص وإيمان، شاعراً بأن هذا الفن يجري في دمه، وهو لم يشعر بذلك شابا فقط. وانما هو هم احتواه صبيا فمراهقا. فهو لا يعيش الا من اجله، ولا يفكر الا فيه. وإذا اطمأن اليك مرة فحدثك عنه أدهشك ذلك الحماس الذي ينبعث منه، وتلك النشوة التي يغرق فيها إلى آذانه فتأخذ بلبك وبلبه.
من أجل ذلك كنت أنظر إليه بعين الأمل، ولكن لم يكن أملي فيه محددا بل كان أملاً غامضاً لعل مصدره ما في الشباب من صحة وثورة وتفاؤل، وعلى أي حال لم أكن آمل في نجاحه الا من ناحية الكتابة الفكهة، وقد بعث هذا في نفسي روايته (المرأة الجديدة)، إذ كتبها وهو يقصد عين الجد فإذا به أصاب دعابة لذيذة، وكنت المح في دعابته نوعا من العمق لم اكن متيقنا منه، وانما كنت أحس به وأنا بين المصدق والمكذب.
إلى أن سافرنا منذ ثماني سنوات إلى باريس بعد انتهاءنا من دراسة الليسانس، وكان المقصود من سفرنا دراسة دكتوراه الحقوق وبهرنا عند وصولنا ازدهار الفن والأدب في باريس، وظهر لنا جليا ناطقا محددا ذلك الجانب الروحي والفكري من الحياة الذي حرمنا من نعيمه في مصر، كيف أينعت أزهاره في هذا البلد، كيف كان داني القطوف، عجيب الألوان، شهي الرائحة. ويدرك من يتذوق هذا الجانب من الحياة كيف يحلو الري بعد هذا الظمأ والامتلاء بد طول الطوى. فهل كان من المعقول أن يعيش توفيق الحكيم في باريس وهي مهبط الفن والأدب وأن يمر بهذا الفن والأدب وفي دمه ذلك الحماس، وفي روحه ذلك الخلوص والانصراف فلا ينهل من الفن والأدب الا بقدر ما ينهل الناس لمجرد الغذاء الفكري؟ ما مضت بضعة أشهر على إقامتنا في باريس حتى بدأت انظر إليه بعين ملؤها الاحترام. . . الاحترام الغامض أيضاً.
ذلك أني رأيته وقد انصرف عن اللهو وعما يحصل كل شاب من باريس عادة، عن باريس اللاهية، عن باريس الضاحكة الماجنة ؛ انصرف عن كل هذا بنفس آمنة مطمئنة. وإذا به وأحياء باريس عشرون حياً يبدأ أولها في مركز المدينة وينتهي آخرها بأطرافها يسكن الحي العشرين، وما أظن مصريا قد هبطت قدمه إلى هذا الحي غير توفيق، ومن كان يفكر في زيارته من أصدقائه.
قرأ كتاب تين عن فلسفة الفن فانبثق له من هذا الكتاب قبس من نور فتعلق به وقد شعر انه باستهوائه إياه لابد واصل إلى استكمال تثقيفه، وإلى إدراك مكنونات الفن أسراره ومنعطفاته. وانكب على دراسته انكبابا. والكتاب يتحدث عن فن التصوير والنحت أكثر مما يتحدث عن غيرهما، فهو ذاهب إذن لزيارة متحف اللوفر في زيارات دورية، وقد اصبح له هذا المتحف بمثابة الجامعة للطالب. وهو مصطحب هذا الكتاب كصديق مرشد. وهو متثبت من مطابقة التدليل البديع الذي يجري به قلم متين عن كيفية نشوء فن ما، في بيئة ما، على تلك المجموعة التي لا تقًّدر من كنوز الصور في متحف اللوفر. وهو قد قرأ الكتاب واستوعبه استيعابا وهضمه هضما، ثم شاهد كيف استخلص تين حياة هذه القطع الفنية من جنس الفنان والوسط الذي أحاط به والوقت الذي ظهرت فيه.
ولكن أنّى له ان يفهم فن التصوير فهما واعيا، وثقافتنا المصرية في هذا الشأن معروفة! ان كتاب تين ليس الا خلاصة محاضرات كان يلقيها على طلبة مدرسة الفنون الجميلة في باريس فهو يتقدم به إلى أناس على قدر متقدم من الثقافة الفنية، وقد شعر توفيق بعد قراءته للكتاب بالنور يبهره، فأدرك أن هناك جمالا لم يكن يحس بوجوده قبل ذلك وعالما آخر تراءى له ولكن في إطار من السحب والغيوم، وأحس في الوقت نفسه انه لم يدرك كنه هذا الجمال بعد ولم يدخل هذا العالم الجديد.
وكان أن عرضت له فرصة يتعجل بها سد هذا النقص الذي كان يقض مضجعه، فلم يتردد في التعلق بأهدابها، فهو قد تعرف في ذات يوم إلى شاعر فرنسي أخنى عليه الفن والأدب، ولعله البقية الباقية من جماعة من مذاهب الشعر، فرأى فيه توفيق رجلا مثقفا ثقافة واسعة، ذا مكانة في لأدب والشعر وإن جار الزمان عليه وعلى مذهبه. فجعل يمد هذا الشاعر البائس بإعانة مالية نظير استعانته به في فهم أسرار اللوفر ومتحف رودان والمكتبة الأهلية. ثم انكب على القراءة انكبابا، ولكن الإنتاج الأوروبي هائل فيه الغث وفيه السمين، وإلى جانب الإنتاج الحديث يوجد الكلاسيك وهو لا يقل هولاً، والوقت من ذهب، لابد أذن من ان يختار ما يقرأه من بين هذا كله، وهو شاعر بالمراحل الواسعة التي لابد له من قطعها ليستعيض عما ضيعه من أيام شبابه في قراءات كان يتخبط فيها دون هدى او مرشد، وهو يستعين أذن بصاحبه الفرنسي في هذا الاختيار، وهو يستمع إليه في دروس خاصة منظمة، جعل صاحبه يعايرها له كما يعاير الدواء للمريض، وإذا به الآن قوي البنية بعد هذا الهزال الطويل، عبل الذراعين بعد هذا الضعف والتهالك.
وهو لا يكتفي بعد ذلك بالتهام الكتب واستيعابها، وانما هو يجعل من قراءاته أداة للتأمل والتفكير. فهو يركن إلى الوحدة في غالب أيامه يهضم فيها ما قرأ، وهو يجلس في قهوة نائية وقد فتح امامه كتابا ذراً للرماد في العيون، ثم يظل يسبح في بحر خياله وهو مغتبط بهذه الوحدة كبير بها، وكأنه قد أدرك قول ابسن: (ان الرجل الوحيد المنفرد هو الرجل القوي).
وكنت دائماً أتلقى ثمرة ذلك التأمل الطويل، فهو يغيب عني أسبوعين او ثلاثة ثم يزورني فاجلس إليه ساعات متوالية لا ينقطع فيها حديثه، وهو دون شك قد اختار موضوع هذا الحديث قبل حضوره. ودون شك كان هذا الموضوع شاغله الوحيد في هذه الأسابيع الماضية، وإذا بي أمام محاضرة طويلة عريضة. . . متشعبة، ولكنها مبوبة تبويبا كاملا، مرتبة ترتيبا بديعا. وإذا لها خاتمة تلم بأغراضه، وإذا بي غارق في نشوة صافية، وإذا أنا أفكر في هذا الموضوع وذاك الحديث، لا في اثناء إنصاتي إليه فقط بل بعد انصرافه عني أيضاً.
أنصرف في حين ما إلى قراءة ما كتب عن قدماء المصريين وعن روحهم العميق، وإذا هو شاعر بمصريته العريقة كيف هي تتمشى في دمه، وإذا هو محدثك عن هذا الروح في فخر وإدراك لا في مجرد زهو ونعرة، وإذا أنت يبهرك هذا الإفضاء ويتملكك نوع من الحماس، وتتكشف لديك آفاق جديدة، وتتحلل في ذهنك ألغاز كنت تحار في تعليلها أو كنت تعللها تعليلا غامضا، وإذا الأمل الذي كان يدب في نفسك دبيبا مبهما في مستقبل مصر وفي روح مصر قد تحدد لديك تحديدا كاملا لأنك تشاهد النور بعد أن حجبه عنك ستار، وتلمس الحقيقة بعد أن كانت وراء حجاب، وتشعر بما في روح مصر من عبقرية خاصة بعد أن أدركت أسبابها فلم يصعب بعد ذلك أن تأمل فيما تؤدي إليه من ثمرات.
وهو لم ينس المسرح (فنه العزيز عليه) في وسط هذا كله، فهو يشاهد التمثيل من الكوميدي إلى الأوديون إلى مسارح البولفار إلى مسارح لا يدركه ملل ولا سأم وهو لا يذهب لمجرد اللذة الفكرية، بل أيضاً للدرس والوعي. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وتلك النار المقدسة تنفخ في صدره وتوطد من عزمه لا تدركها هوادة ولا خمود! ويدهشك بعد هذا انه في يوم ما منصرف عن هذا كله، عن قراءاته وعن مسارحه، عن اللوفر ورودان وبقية المتاحف وإذا به يشغله شيء واحد: الموسيقى، ماذا؟ توفيق الحكيم الذي كان يكاد يشترك في تلحين رواياته الموسيقية في مصر، توفيق الحكيم الذي كان مولها بالموسيقى الشرقية غارقا وراء أسرارها يستمع الآن إلى الموسيقى الغربية؟
لقد أدرك معنى، انها إحدى الفنون السبعة فهو الآن منكب على دراستها انكباباً، ولا بأس أن يستعين بأصدقائه الفرنسيين على فهمها، وهو منصرف إلى الأوبرا والأوبرا كوميك وإلى صالات الموسيقى السمفونية، ولا بأس من أن يذهب إلى الأوبرا ولو لم يقتدر الا على أعلى التياترو، ولا بأس من أن يتسلل بلباسه الغريب المتواضع على درج أوبرا باريس الفخمة، ومن بين أزياء المساء الفاخرة ولآلئ الجواهر الثمينة!.
وإذا به يتدرج كالطالب في المدرسة فهو معجب أولاً بسان ساينس وببيزيه وموسيقاهما ذات النغم الشرقي، ثم هو منتقل بعد ذلك إلى الإعجاب ببتهوفن وموسيقاه الرومأنتيكية وهو بعد ذلك مشيد بذكر فاجنر وموسيقاه القوية، وهو أخيراً يستمع إلى موسيقى استرافنسكي وغيره من المحدثين.
سأله أخيراً المكاتب الفني لإحدى الجرائد المصرية عما أوحى إليه بأهل الكهف فكاد ينطلق لسانه بأسم بيتهوفن، وقد قص علي هذه الحادثة فلم أملك نفسي من الابتسام.
ولماذا لم ينطلق لسانك؟
فكان رده الذي كنت أتوقعه والذي من أجله ابتسمت:
- يضحكون مني!
وهو في وسط هذا التموين الهائل الذي كان يمون نفسه به اخذ (ومن ساعة متقدمة) يحاول الإنتاج، فجعل يزاول الكتابة بالفرنسية، فكتب قطعا من الحوار وجعل يعرضها على بعض أصدقائه الفرنسيين، ولم يثن عزمه عن الكتابة إلمامه الابتدائي بالفرنسية، فهو مثابر مجد على رغم ذلك، وهو في النهاية قد عثر على صيغته، وإذا بأصدقائه الفرنسيين يشهدون له بانه في توجيه الحوار واسع الحيلة، وإذا بعضهم يذكر عند قراءته لتوفيق بورثوريس الكاتب الفرنسي الشهير وحواره المقتضب المتماسك.
وكنت أراقب هذا النماء عن قرب مغتبطا به، سعيداً بمشاهدتي هذه الثمرة كيف غرست، ثم كيف نمت، ثم كيف ترعرعت وأينعت، ولم ينشأ شعوري بهذه السعادة عندما نشر كتاب أهل الكهف، وعندما استقبله النقد هذا الاستقبال العظيم، وانما هو قد نشأ من زمن بعيد! عندما قرأت (أهل الكهف) مخطوطة من ثلاث سنوات قبل أن تتخاطفها أيدي المدرسة الحديثة، بل عندما قرأت (شهرزاد) مخطوطة منذ أربع سنوات لما أرسلها إلي توفيق في باريس بعد عودته إلى مصر ولما حملتها راكضا إلى الدكتور ماردروس (وهو أديب فرنسي ترجم ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية وزوج مدام لوس دلارو ماردروس الكاتبة الفرنسية المعروفة) ليقرأها وليرى من أي زاوية نظر مؤلف مصري إلى قصص الف ليلة وليلة.
بل شعرت بذلك منذ خمس سنوات عندما كنت أقرأ أولاً بأول الصفحات الاولى من رواية (عودة الروح) عندما كان مؤلفها يحاول ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.
عند ذلك كله تحدد أملي فيه بعد ان كان غامضا، وتبدد ذلك التشاؤم الذي كنت أنظر به إلى جونا الفكري، وأدركت ان لدينا مؤلفا نفاخر به المؤلفين الأوروبيين نقرأه في لذة وإعجاب، إعجاب بهذا المنظار الخاص الذي ينظر به إلى الأشخاص والأشياء والحوادث فيكتشف فيها نواحي فذة.
نعم فقد تمر أمامنا الحادثة لا نفكر في أن نعلق عليها اهمية خاصة: ولكنها تستوقفه فيناقشك فيها. ويبدأ يصور لك فيها تصويرا غريبا، فإذا هي امتدت، وإذا هي ذات جسم وكيان، وإذا بها نواح من الأهمية بمكان، وإذا أنت دهش بعد ذلك كيف مرت عليك ولم تلحظ فيها كل ذلك.
كنت أتحدث مرة إلى أحد أصدقائنا عن روايات توفيق الحكيم وتسلسل الحديث إلى أن ذكرت لمحدثيه أن توفيقا قد كتب رواية اسمها (الخروج من الجنة)، فكان رده عليّ:
وطبعا شخصيات الرواية ثلاث: آدم وحواء وإبليس! فلم أتمالك من الابتسام، ذلك ان عنوان الرواية ليس الا رمزا وان اشخاص الرواية عصريون فليسوا آدم وحواء وانما هم محمود وإقبال وغيرهما من أبناء آدم وحواء.
وقد ابتسمت لقول صاحبي لأنه لفظه في اطمئنان عجيب، وسر اطمئنانه انه قد قرأ (أهل الكهف) ورأى كيف استخلص مؤلفها تلك القطعة الفلسفية من القصة التي لا يجهلها مصري وقرأ (شهرزاد) فرأى ثمرة التأمل الذي أوحت به قراءة الف ليلة وليلة إلى صديقنا توفيق، فإذا هو كتب رواية بعنوان (الخروج من الجنة) فهو لا شك قد عالج خروج آدم وحواء لأن هذه الحادثة قد استوقفته، ولابد انه قد نظر إليها من زاويته الخاصة فصبّها رواية مسرحية!
خرج صاحبنا من مجرد عنوان الرواية ومن ان مؤلفها توفيق الحكيم بهذه النتيجة التي يراها طبيعية، وهو حريص على ان يكون استنباطه بتلك النتيجة من تلقاء نفسه، فهو لا يسأل عن أشخاص الرواية وانما هو يبادر بذكرهم من تلقاء نفسه شأن من فهم روح مؤلف أهل الكهف!.
بهذه الموهبة الفذة وبهذه الثقافة الشاملة وهذا المجهود الجبار يتميز توفيق الحكيم، وهو قد أدرك أن الأدب ليس مجرد سليقة نطلقها فتنطلق، أو إلهاما يوحى إلينا به فنرسله على طبيعته، وانما هو إلى جانب ذلك وقبل ذلك علم ودراسة لابد فيهما من المثابرة على القراءة، والانكباب على المذاكرة والإلمام بجميع نواحي الفنون، والتأمل في كل ما نقرأ ونشاهد. وكتاب أهل الكهف الذي لاقى ما لاقاه من نجاح لدى النقد في مصر، والذي لا أشك في انه سوف يستقبل استقبالا عظيما لدى النقاد الأوروبيين إذا ما ترجم إليهم، هذا الكتاب إذن لم يكن ثمرة مصادفة، لم يكن زهرة صغيرة أينعت في المستنقع المصري وانما هو دوحة هائلة غرسها غارس ثم تعهدها بالصيانة والتهذيب.
وبعد، فاني أدرك ان مقالي هذا قد يرسم على الشفاه ابتسامة ذات مغزى!! (هو صديق يقوم بالدعاية لصديقه)
ولأمر ما، يهمني ان ارفع هذا الخطأ المحتمل، فان مؤلف (أهل الكهف) وكتابه ليسا في حاجة إلى دعاية بعد أن اجمع النقاد على تقدير الكتاب.
وانما حاولت أن أرسم صورة لتاريخ حياة الكتاب بان قدمت صورة من تاريخ حياة مؤلفه، اظهر بها جانباً هيأت لي الصداقة التي تجمعني ومؤلف هذا الكتاب أن ألم به، فأثرت أن يطلع قرّاء الكتاب على هذا الجانب.
وربما كان لي غرض آخر من هذا المقال: هو أن يدرك شبابنا المتأدبون ان فن الأدب لا يكتفي فيه بالموهبة، او بالاعتقاد في تلك الموهبة، ثم ارسال القلم في كتابات لا تقدمنا خطوة واحدة وانما هو إلى ذلك اطلاع وتأمل، لا في الشعر والنثر بأنواعه فقط بل كذلك في النحت والتصوير والموسيقى، ولا في الإنتاج العربي وحده، بل كذلك في الإنتاج الأوروبي، ولست أحاول ان ارسم بهذا خطة، فالخطة مرسومة مقدما، بل هي بديهية من البديهيات وانما قصدت لفت النظر.
فإذا أتى اليوم الذي نرى فيه شبابنا المشتغلين في الأدب قد أدركوا هذه الحقيقة كنا سعداء: توفيق الحكيم، وكاتب هذه السطور، وكل من يجري في دمه الإخلاص لهذا البلد المنكود بكل ما تحتويه كلمة الإخلاص من معنى.
للدكتور حلمي بهجت بدوي
مجلة الرسالة - العدد 13
بتاريخ: 15 - 07 - 1933
فلم يكن غريباً بعد ذلك انه كلما بدا وميض من النور في حياتنا الفكرية لم يلق الا أعينا مغمضة، وإذا أينع زهر صغير صادف بردا فذبل والتوى.
أزمة الغذاء الفكري شر أذن، انما شر منها روح التشاؤم الذي فشا في هذا الشباب المثقف، وكلمة السر التي جرت على الألسنة في سهولة عجيبة من انه لا سبيل إلى تلمس هذا النوع من الغذاء في الإنتاج المصري والتي تنتهي إلى قتل العناصر السليمة التي قد تنهض لتغذية حياتنا الفكرية.
وإذا أنا ذكرت الإنتاج المصري فاني أرسل هذه الكلمة على معنى خاص. فأنا استبعد الترجمة لأنها ليست الا وسيلة لتغذية من كانت ثقافتهم عربية محضة، او لتهيئة الاتصال بين ثقافتين مختلفتين. وأنا استبعد كذلك النقد لكي استبقي بعد ذلك صورة واحدة , هي الخ وإذا أنا استبعدت النقد فليس ذلك لأنني أخرجه عن معنى الإنتاج، أو لأنني أتمثله ضعيف الشأن في تمويننا بالغذاء الفكري وانما استبعده لأنه مرهون بالخلق ومن أجل ذلك كان النقد الذي أينعت أثماره في مصر هو ذلك النقد للإنتاج الأوروبي وللإنتاج العربي القديم. أو ذلك النوع من النظرات العامة التي تتلمس أوجه النقص والكمال فيما لدينا من إنتاج لترسم صورته الحقيقية جميلة كانت أو قبيحة.
وقد ظهر أخيراً كتاب أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو من نوع الإنتاج الذي أقصده. ولا أذكر كتاباً قابله النقد في مصر بعناية وتقدير بمثل ما قوبل به هذا الكتاب ولست أتعرض هنا لنقده بعد أن وفاه حقه الدكتور طه حسين والأساتذة مصطفى عبد الرزاق والمازني وهيكل بك ومحمد علي حماد وغيرهم من فضلاء الكتاب.
ذلك أن مؤلف أهل الكهف صديقي ربما كان تقدمي لنقد كتابه (والأمر كذلك) مثيراً لريبة مشروعة. وهل هناك من شك في إنني سوف أحيط كتابتي بإطار من العطف الذي تبرره شريعة الصداقة، أو ليست الصداقة في بعض وجوهها نوعا من التعاون الخالص وضرباً من التنابذ في سبيل النجاح!
وإنما حلا لي أن اكتب عن تاريخ حياة هذا الكتاب. وقد قدرت في تلك الصداقة التي كانت تلقي الريبة على نقده تزكية لا غبار عليها للكتابة عن تاريخ حياته، وما تاريخ حياته الا وجه من تاريخ حياة مؤلفه وقطعة من شخصيته لعلي أجدر الناس بالكتابة عنهما.
منذ عشر سنوات خلت كان توفيق الحكيم طالبا في مدرسة الحقوق ومؤلفا مسرحياً ملحقاً بمسرح حديقة الازبكية، وقد تقدم إلى هذا المسرح في روايات عدة بعضها مؤلف وبعضها مقتبس عن المؤلفات الأوروبية. وقد قرأت هذه الروايات في ذلك الوقت وكنت عندئذ هاويا لكل ما يتعلق بالمسرح. وكان من بين هذه الروايات رواية مؤلفة عنوانها (المرأة الجديدة) وموضوعها مشكلة المرأة في الجيل الحالي وقد لاقت هذه الرواية من النجاح ما لاقت، وقد يكون دون ما تستحق وقد لا يكون، وقد لا يزال توفيق الحكيم ينظر إلى رواياته الأولى بعين لا تخلو من الحنو والعطف وقد يكون هذا الشعور مفهوما من جانبه، أو ليست أعمال الشخص كأطفاله إذا حظى السليم منها بالحب أختص العاطل منها بالعطف والحنان!
وكنت انظر حينئذ إلى توفيق الحكيم بعين الأمل، ذلك إنني كنت أراه منصرفا إلى فنه تمام الانصراف، في إخلاص وإيمان، شاعراً بأن هذا الفن يجري في دمه، وهو لم يشعر بذلك شابا فقط. وانما هو هم احتواه صبيا فمراهقا. فهو لا يعيش الا من اجله، ولا يفكر الا فيه. وإذا اطمأن اليك مرة فحدثك عنه أدهشك ذلك الحماس الذي ينبعث منه، وتلك النشوة التي يغرق فيها إلى آذانه فتأخذ بلبك وبلبه.
من أجل ذلك كنت أنظر إليه بعين الأمل، ولكن لم يكن أملي فيه محددا بل كان أملاً غامضاً لعل مصدره ما في الشباب من صحة وثورة وتفاؤل، وعلى أي حال لم أكن آمل في نجاحه الا من ناحية الكتابة الفكهة، وقد بعث هذا في نفسي روايته (المرأة الجديدة)، إذ كتبها وهو يقصد عين الجد فإذا به أصاب دعابة لذيذة، وكنت المح في دعابته نوعا من العمق لم اكن متيقنا منه، وانما كنت أحس به وأنا بين المصدق والمكذب.
إلى أن سافرنا منذ ثماني سنوات إلى باريس بعد انتهاءنا من دراسة الليسانس، وكان المقصود من سفرنا دراسة دكتوراه الحقوق وبهرنا عند وصولنا ازدهار الفن والأدب في باريس، وظهر لنا جليا ناطقا محددا ذلك الجانب الروحي والفكري من الحياة الذي حرمنا من نعيمه في مصر، كيف أينعت أزهاره في هذا البلد، كيف كان داني القطوف، عجيب الألوان، شهي الرائحة. ويدرك من يتذوق هذا الجانب من الحياة كيف يحلو الري بعد هذا الظمأ والامتلاء بد طول الطوى. فهل كان من المعقول أن يعيش توفيق الحكيم في باريس وهي مهبط الفن والأدب وأن يمر بهذا الفن والأدب وفي دمه ذلك الحماس، وفي روحه ذلك الخلوص والانصراف فلا ينهل من الفن والأدب الا بقدر ما ينهل الناس لمجرد الغذاء الفكري؟ ما مضت بضعة أشهر على إقامتنا في باريس حتى بدأت انظر إليه بعين ملؤها الاحترام. . . الاحترام الغامض أيضاً.
ذلك أني رأيته وقد انصرف عن اللهو وعما يحصل كل شاب من باريس عادة، عن باريس اللاهية، عن باريس الضاحكة الماجنة ؛ انصرف عن كل هذا بنفس آمنة مطمئنة. وإذا به وأحياء باريس عشرون حياً يبدأ أولها في مركز المدينة وينتهي آخرها بأطرافها يسكن الحي العشرين، وما أظن مصريا قد هبطت قدمه إلى هذا الحي غير توفيق، ومن كان يفكر في زيارته من أصدقائه.
قرأ كتاب تين عن فلسفة الفن فانبثق له من هذا الكتاب قبس من نور فتعلق به وقد شعر انه باستهوائه إياه لابد واصل إلى استكمال تثقيفه، وإلى إدراك مكنونات الفن أسراره ومنعطفاته. وانكب على دراسته انكبابا. والكتاب يتحدث عن فن التصوير والنحت أكثر مما يتحدث عن غيرهما، فهو ذاهب إذن لزيارة متحف اللوفر في زيارات دورية، وقد اصبح له هذا المتحف بمثابة الجامعة للطالب. وهو مصطحب هذا الكتاب كصديق مرشد. وهو متثبت من مطابقة التدليل البديع الذي يجري به قلم متين عن كيفية نشوء فن ما، في بيئة ما، على تلك المجموعة التي لا تقًّدر من كنوز الصور في متحف اللوفر. وهو قد قرأ الكتاب واستوعبه استيعابا وهضمه هضما، ثم شاهد كيف استخلص تين حياة هذه القطع الفنية من جنس الفنان والوسط الذي أحاط به والوقت الذي ظهرت فيه.
ولكن أنّى له ان يفهم فن التصوير فهما واعيا، وثقافتنا المصرية في هذا الشأن معروفة! ان كتاب تين ليس الا خلاصة محاضرات كان يلقيها على طلبة مدرسة الفنون الجميلة في باريس فهو يتقدم به إلى أناس على قدر متقدم من الثقافة الفنية، وقد شعر توفيق بعد قراءته للكتاب بالنور يبهره، فأدرك أن هناك جمالا لم يكن يحس بوجوده قبل ذلك وعالما آخر تراءى له ولكن في إطار من السحب والغيوم، وأحس في الوقت نفسه انه لم يدرك كنه هذا الجمال بعد ولم يدخل هذا العالم الجديد.
وكان أن عرضت له فرصة يتعجل بها سد هذا النقص الذي كان يقض مضجعه، فلم يتردد في التعلق بأهدابها، فهو قد تعرف في ذات يوم إلى شاعر فرنسي أخنى عليه الفن والأدب، ولعله البقية الباقية من جماعة من مذاهب الشعر، فرأى فيه توفيق رجلا مثقفا ثقافة واسعة، ذا مكانة في لأدب والشعر وإن جار الزمان عليه وعلى مذهبه. فجعل يمد هذا الشاعر البائس بإعانة مالية نظير استعانته به في فهم أسرار اللوفر ومتحف رودان والمكتبة الأهلية. ثم انكب على القراءة انكبابا، ولكن الإنتاج الأوروبي هائل فيه الغث وفيه السمين، وإلى جانب الإنتاج الحديث يوجد الكلاسيك وهو لا يقل هولاً، والوقت من ذهب، لابد أذن من ان يختار ما يقرأه من بين هذا كله، وهو شاعر بالمراحل الواسعة التي لابد له من قطعها ليستعيض عما ضيعه من أيام شبابه في قراءات كان يتخبط فيها دون هدى او مرشد، وهو يستعين أذن بصاحبه الفرنسي في هذا الاختيار، وهو يستمع إليه في دروس خاصة منظمة، جعل صاحبه يعايرها له كما يعاير الدواء للمريض، وإذا به الآن قوي البنية بعد هذا الهزال الطويل، عبل الذراعين بعد هذا الضعف والتهالك.
وهو لا يكتفي بعد ذلك بالتهام الكتب واستيعابها، وانما هو يجعل من قراءاته أداة للتأمل والتفكير. فهو يركن إلى الوحدة في غالب أيامه يهضم فيها ما قرأ، وهو يجلس في قهوة نائية وقد فتح امامه كتابا ذراً للرماد في العيون، ثم يظل يسبح في بحر خياله وهو مغتبط بهذه الوحدة كبير بها، وكأنه قد أدرك قول ابسن: (ان الرجل الوحيد المنفرد هو الرجل القوي).
وكنت دائماً أتلقى ثمرة ذلك التأمل الطويل، فهو يغيب عني أسبوعين او ثلاثة ثم يزورني فاجلس إليه ساعات متوالية لا ينقطع فيها حديثه، وهو دون شك قد اختار موضوع هذا الحديث قبل حضوره. ودون شك كان هذا الموضوع شاغله الوحيد في هذه الأسابيع الماضية، وإذا بي أمام محاضرة طويلة عريضة. . . متشعبة، ولكنها مبوبة تبويبا كاملا، مرتبة ترتيبا بديعا. وإذا لها خاتمة تلم بأغراضه، وإذا بي غارق في نشوة صافية، وإذا أنا أفكر في هذا الموضوع وذاك الحديث، لا في اثناء إنصاتي إليه فقط بل بعد انصرافه عني أيضاً.
أنصرف في حين ما إلى قراءة ما كتب عن قدماء المصريين وعن روحهم العميق، وإذا هو شاعر بمصريته العريقة كيف هي تتمشى في دمه، وإذا هو محدثك عن هذا الروح في فخر وإدراك لا في مجرد زهو ونعرة، وإذا أنت يبهرك هذا الإفضاء ويتملكك نوع من الحماس، وتتكشف لديك آفاق جديدة، وتتحلل في ذهنك ألغاز كنت تحار في تعليلها أو كنت تعللها تعليلا غامضا، وإذا الأمل الذي كان يدب في نفسك دبيبا مبهما في مستقبل مصر وفي روح مصر قد تحدد لديك تحديدا كاملا لأنك تشاهد النور بعد أن حجبه عنك ستار، وتلمس الحقيقة بعد أن كانت وراء حجاب، وتشعر بما في روح مصر من عبقرية خاصة بعد أن أدركت أسبابها فلم يصعب بعد ذلك أن تأمل فيما تؤدي إليه من ثمرات.
وهو لم ينس المسرح (فنه العزيز عليه) في وسط هذا كله، فهو يشاهد التمثيل من الكوميدي إلى الأوديون إلى مسارح البولفار إلى مسارح لا يدركه ملل ولا سأم وهو لا يذهب لمجرد اللذة الفكرية، بل أيضاً للدرس والوعي. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وتلك النار المقدسة تنفخ في صدره وتوطد من عزمه لا تدركها هوادة ولا خمود! ويدهشك بعد هذا انه في يوم ما منصرف عن هذا كله، عن قراءاته وعن مسارحه، عن اللوفر ورودان وبقية المتاحف وإذا به يشغله شيء واحد: الموسيقى، ماذا؟ توفيق الحكيم الذي كان يكاد يشترك في تلحين رواياته الموسيقية في مصر، توفيق الحكيم الذي كان مولها بالموسيقى الشرقية غارقا وراء أسرارها يستمع الآن إلى الموسيقى الغربية؟
لقد أدرك معنى، انها إحدى الفنون السبعة فهو الآن منكب على دراستها انكباباً، ولا بأس أن يستعين بأصدقائه الفرنسيين على فهمها، وهو منصرف إلى الأوبرا والأوبرا كوميك وإلى صالات الموسيقى السمفونية، ولا بأس من أن يذهب إلى الأوبرا ولو لم يقتدر الا على أعلى التياترو، ولا بأس من أن يتسلل بلباسه الغريب المتواضع على درج أوبرا باريس الفخمة، ومن بين أزياء المساء الفاخرة ولآلئ الجواهر الثمينة!.
وإذا به يتدرج كالطالب في المدرسة فهو معجب أولاً بسان ساينس وببيزيه وموسيقاهما ذات النغم الشرقي، ثم هو منتقل بعد ذلك إلى الإعجاب ببتهوفن وموسيقاه الرومأنتيكية وهو بعد ذلك مشيد بذكر فاجنر وموسيقاه القوية، وهو أخيراً يستمع إلى موسيقى استرافنسكي وغيره من المحدثين.
سأله أخيراً المكاتب الفني لإحدى الجرائد المصرية عما أوحى إليه بأهل الكهف فكاد ينطلق لسانه بأسم بيتهوفن، وقد قص علي هذه الحادثة فلم أملك نفسي من الابتسام.
ولماذا لم ينطلق لسانك؟
فكان رده الذي كنت أتوقعه والذي من أجله ابتسمت:
- يضحكون مني!
وهو في وسط هذا التموين الهائل الذي كان يمون نفسه به اخذ (ومن ساعة متقدمة) يحاول الإنتاج، فجعل يزاول الكتابة بالفرنسية، فكتب قطعا من الحوار وجعل يعرضها على بعض أصدقائه الفرنسيين، ولم يثن عزمه عن الكتابة إلمامه الابتدائي بالفرنسية، فهو مثابر مجد على رغم ذلك، وهو في النهاية قد عثر على صيغته، وإذا بأصدقائه الفرنسيين يشهدون له بانه في توجيه الحوار واسع الحيلة، وإذا بعضهم يذكر عند قراءته لتوفيق بورثوريس الكاتب الفرنسي الشهير وحواره المقتضب المتماسك.
وكنت أراقب هذا النماء عن قرب مغتبطا به، سعيداً بمشاهدتي هذه الثمرة كيف غرست، ثم كيف نمت، ثم كيف ترعرعت وأينعت، ولم ينشأ شعوري بهذه السعادة عندما نشر كتاب أهل الكهف، وعندما استقبله النقد هذا الاستقبال العظيم، وانما هو قد نشأ من زمن بعيد! عندما قرأت (أهل الكهف) مخطوطة من ثلاث سنوات قبل أن تتخاطفها أيدي المدرسة الحديثة، بل عندما قرأت (شهرزاد) مخطوطة منذ أربع سنوات لما أرسلها إلي توفيق في باريس بعد عودته إلى مصر ولما حملتها راكضا إلى الدكتور ماردروس (وهو أديب فرنسي ترجم ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية وزوج مدام لوس دلارو ماردروس الكاتبة الفرنسية المعروفة) ليقرأها وليرى من أي زاوية نظر مؤلف مصري إلى قصص الف ليلة وليلة.
بل شعرت بذلك منذ خمس سنوات عندما كنت أقرأ أولاً بأول الصفحات الاولى من رواية (عودة الروح) عندما كان مؤلفها يحاول ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.
عند ذلك كله تحدد أملي فيه بعد ان كان غامضا، وتبدد ذلك التشاؤم الذي كنت أنظر به إلى جونا الفكري، وأدركت ان لدينا مؤلفا نفاخر به المؤلفين الأوروبيين نقرأه في لذة وإعجاب، إعجاب بهذا المنظار الخاص الذي ينظر به إلى الأشخاص والأشياء والحوادث فيكتشف فيها نواحي فذة.
نعم فقد تمر أمامنا الحادثة لا نفكر في أن نعلق عليها اهمية خاصة: ولكنها تستوقفه فيناقشك فيها. ويبدأ يصور لك فيها تصويرا غريبا، فإذا هي امتدت، وإذا هي ذات جسم وكيان، وإذا بها نواح من الأهمية بمكان، وإذا أنت دهش بعد ذلك كيف مرت عليك ولم تلحظ فيها كل ذلك.
كنت أتحدث مرة إلى أحد أصدقائنا عن روايات توفيق الحكيم وتسلسل الحديث إلى أن ذكرت لمحدثيه أن توفيقا قد كتب رواية اسمها (الخروج من الجنة)، فكان رده عليّ:
وطبعا شخصيات الرواية ثلاث: آدم وحواء وإبليس! فلم أتمالك من الابتسام، ذلك ان عنوان الرواية ليس الا رمزا وان اشخاص الرواية عصريون فليسوا آدم وحواء وانما هم محمود وإقبال وغيرهما من أبناء آدم وحواء.
وقد ابتسمت لقول صاحبي لأنه لفظه في اطمئنان عجيب، وسر اطمئنانه انه قد قرأ (أهل الكهف) ورأى كيف استخلص مؤلفها تلك القطعة الفلسفية من القصة التي لا يجهلها مصري وقرأ (شهرزاد) فرأى ثمرة التأمل الذي أوحت به قراءة الف ليلة وليلة إلى صديقنا توفيق، فإذا هو كتب رواية بعنوان (الخروج من الجنة) فهو لا شك قد عالج خروج آدم وحواء لأن هذه الحادثة قد استوقفته، ولابد انه قد نظر إليها من زاويته الخاصة فصبّها رواية مسرحية!
خرج صاحبنا من مجرد عنوان الرواية ومن ان مؤلفها توفيق الحكيم بهذه النتيجة التي يراها طبيعية، وهو حريص على ان يكون استنباطه بتلك النتيجة من تلقاء نفسه، فهو لا يسأل عن أشخاص الرواية وانما هو يبادر بذكرهم من تلقاء نفسه شأن من فهم روح مؤلف أهل الكهف!.
بهذه الموهبة الفذة وبهذه الثقافة الشاملة وهذا المجهود الجبار يتميز توفيق الحكيم، وهو قد أدرك أن الأدب ليس مجرد سليقة نطلقها فتنطلق، أو إلهاما يوحى إلينا به فنرسله على طبيعته، وانما هو إلى جانب ذلك وقبل ذلك علم ودراسة لابد فيهما من المثابرة على القراءة، والانكباب على المذاكرة والإلمام بجميع نواحي الفنون، والتأمل في كل ما نقرأ ونشاهد. وكتاب أهل الكهف الذي لاقى ما لاقاه من نجاح لدى النقد في مصر، والذي لا أشك في انه سوف يستقبل استقبالا عظيما لدى النقاد الأوروبيين إذا ما ترجم إليهم، هذا الكتاب إذن لم يكن ثمرة مصادفة، لم يكن زهرة صغيرة أينعت في المستنقع المصري وانما هو دوحة هائلة غرسها غارس ثم تعهدها بالصيانة والتهذيب.
وبعد، فاني أدرك ان مقالي هذا قد يرسم على الشفاه ابتسامة ذات مغزى!! (هو صديق يقوم بالدعاية لصديقه)
ولأمر ما، يهمني ان ارفع هذا الخطأ المحتمل، فان مؤلف (أهل الكهف) وكتابه ليسا في حاجة إلى دعاية بعد أن اجمع النقاد على تقدير الكتاب.
وانما حاولت أن أرسم صورة لتاريخ حياة الكتاب بان قدمت صورة من تاريخ حياة مؤلفه، اظهر بها جانباً هيأت لي الصداقة التي تجمعني ومؤلف هذا الكتاب أن ألم به، فأثرت أن يطلع قرّاء الكتاب على هذا الجانب.
وربما كان لي غرض آخر من هذا المقال: هو أن يدرك شبابنا المتأدبون ان فن الأدب لا يكتفي فيه بالموهبة، او بالاعتقاد في تلك الموهبة، ثم ارسال القلم في كتابات لا تقدمنا خطوة واحدة وانما هو إلى ذلك اطلاع وتأمل، لا في الشعر والنثر بأنواعه فقط بل كذلك في النحت والتصوير والموسيقى، ولا في الإنتاج العربي وحده، بل كذلك في الإنتاج الأوروبي، ولست أحاول ان ارسم بهذا خطة، فالخطة مرسومة مقدما، بل هي بديهية من البديهيات وانما قصدت لفت النظر.
فإذا أتى اليوم الذي نرى فيه شبابنا المشتغلين في الأدب قد أدركوا هذه الحقيقة كنا سعداء: توفيق الحكيم، وكاتب هذه السطور، وكل من يجري في دمه الإخلاص لهذا البلد المنكود بكل ما تحتويه كلمة الإخلاص من معنى.
للدكتور حلمي بهجت بدوي
مجلة الرسالة - العدد 13
بتاريخ: 15 - 07 - 1933