ناصر سالم الجاسم - التنور.. قصة قصيرة

هواء بارد يجرّ السحبَ الحوابل، كثبانٌ رملية أخذتْ شكلَ الأقواس، أعشاب صفراء تسترُها لمّة الظلام، الزواحفُ في جحورها، بابُ التنصت موصد، مرجل يغلي، وغطاءُ إبريق شاي صُبغ بالسواد يرتجفُ، دائرةُ الدفء تحلَّقَ حولَها بطي ومرفاع وألحيد.
الدخانُ المتصاعد يتخللُ من بين أصابعهم الثلاثين، خرقَ ستارَ الصمت صوتُ بطي حافظ الألفية فقال: رائحةُ أوراق الشجر البرّي المحروق تشفي الأنوف المريضة، وترخي الأعصاب المشدودة، تنشّقَ ألحيد الرائحة بعمق، علّقَ مرفاع فقالَ: النارُ شرّ حذرَ الرسولُ منه، صلى الثلاثة بدون وضوء، طلبَ ألحيد من بطي أن ينشدَه أبياتًا من الألفية، فقال مرفاع وهو يَنكتُ النار بعود غضى عانى طرفه الحر الاحتراق كثيرًا: عذابُ بطي محصورٌ بين الشعر والأنثى والورق الأبيض.
زفرَ بطي وهو يرفعُ الإبريق عن النار بطاقيته، وتولى ألحيد سكب الشاي في الأكواب التي لامستها حبّات الرمل الباردة، بعد أن غمسَ طرف شماغه بداخلها لينظفها.
تحدثَ بطي برغبة لا يدري من أين مأتاها: دخلتُ المطار والبخارُ المسجون يفرُّ من فمي، واكتشفتُ أن للمطار لغة خاصة، أحضان، قبلات، دموع، ابتسامات، أيادي لدنة تلوحُ بمناديل، بحثتُ عن أحقاد في العيون المسافرة، والعيون القادمة، والعيون المودّعة، والعيون المستقبلة فلم أجدْ، فقررت أن المطارَ مكانٌ للحب، سرتُ بعينين تفتشان عن الجميلات، والأطفال حولي يلعبون على الرخام الأملس، فرأيتُ الشامية العيناء، ثم قربَ الكوب من فمه، ولم يكدْ يكملُ رشفته، حتى صاحَ مرفاع، ورفع عوده في وجهه: اكملْ يا مجدود!

صدقوني والذي خلقَ هذه النعمة، ويرفعُ كوب الشاي إلى مستوى عينيه وهو ينظرُ إليهم ويكملُ: إن عينيّ كادتا تخرجان من محجريهما، وأن أنفي ظل يتنشقُ عبير عطرها، حتى وأنا نائم، وقد كان الباسور يؤلمني، وكنتُ أمشي وراءها، فإذا سمعتُ قهقهات خلفي توقفتُ، والتفت ونظرتُ إلى مؤخرة ثوبي... الناسُ أصبحوا يضحكون من الألم وعليه، لم أمنحِ الشامية العيناء فرصة النظر إلى مؤخرة ثوبي فتشمئز، ظللتُ أمشي خلفها أستمتعُ ثقب جسمها بنظراتي الجائعة!
احتجّ ألحيد على سير الحديث، فجمعَ في قبضته رملاً وذرّاه بعنف بالغ على الأعواد المطققة، فقال مرفاع متوسلاً: أرجوك، لا تعكر لحظة الصفو هذه، دعْ (بطي) يكمل نزفه!

لم يعبأ ألحيد بالرجاء، فقام من مجلسه، وبصقَ في وجه النار، وهدّدَ: ابتر الحديث يا بطي، وإلا هجرتك، إنني أجتوي الإناث، ولا أستطيبُ الحديث عنهن إلا باللعنة، ولولا أن أمي أنثى، لقلت إن كل الإناث.......
انبرى له بطي، فقامَ هو الآخر من مجلسه، وتوعد ألحيد: الزمْ حدودك، وإلا دفنتُ رأسك في هذا الأوار المشتعل، نترهما مرفاع من كمي ثوبيهما، وأقعدهما مكانيهما، وصبّ لهما الشاي، وأسدى النصح لألحيد: التبتل وباء يزيله الصحب، ونحن صحبك، جئنا بك هنا نسرّي عنك همّك.
أشعلَ ألحيد آخر سيجارة حوتها علبة دخانه، وعفسَ العلبة، ورماها في جوف النار، انتزعَ مرفاع السيجارة من بين شفتيه، وأطفأها في منفضة الرمل البارد، وهو يقطفُ له بسمةً من الأعماق!
قال بطي: أَذْكِ النار يا مرفاع، لننعم برائحة المحروق من زادها، فلم يفضل لدينا تبغ يفسدُ هذا العرف الطيب!
استعبر ألحيد، وحتى لا يظهرُ صديقاه على ضعفه، أوهمهما بحاجته لقضاء الحاجة، فنأى عن المجلس مقدار ما يقتضيه الأدب والحياء، وروى الرمل البارد بدمعه الحار، دون أن ينجسه بقطرة بول واحدة!
آبَ إلى المجلس باسمًا، وهو يتنشقُ عبير النار من بعيد، جلسَ وشغرَ يديه إلى الأعلى، وقال: الحمدُ لك يا الله، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، ثم أتبعَ ذلك الشكر بقوله: اعذروني أيها الصحب الكرام، فالذريةُ في صلبي، والربطُ في عضوي، كنتُ أكنُّ لها كل الحب في قلبي، فكيف أطيقُ الإناث وواحدة منهن أحببتُها، وقد حبلتْ من بذور غيري؟
السحب الحابلة بدأتْ تلدُ، ولسان النار يتمزّقُ إلى ألسنةٍ صغيرة، قال مرفاع وهو يصفقُ بالأعواد المبتلة، ويتقافزُ في البراحة التي وسط الكثبان المقوسة: اكتب يا بطي، فالمطر هو الحبر السري للأدباء.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...