بدأت ليلى دراستها بالمرحلة الثانوية في مدرسة داخلية في مدينتها ، وكانت حينها في فورة سني المراهقة ، مقبلة على الحياة بروح جديدة وقلب نابض بجمال وروعة الحياة ، تذوب حباً فيها وتمني نفسها بأن تنعم بكل ما هو مباح وأن تنهل فيها مشارب مختلفة الألوان .
انغمست ليلى في حياة الداخلية بكل ما تملك من تطلعات وأمنيات وألفت التعامل مع زميلات جدد جئن من قرى حول المدينة وتعودن على أنماط حياة مختلفة . كانت تجد الكثير من الحرج في فهم بعض مفرداتهن مما لم تسمعه وتضطر للسؤال عن المقصود بالمفردة المعينة فتواجه باستيائهن وقد تصادف أن تكون الواحدة منهن شرسة بطبعها ولا تعجبها طريقتها في الاستفسار وتستغرب جهلها وتحرجها وتزج بها في قائمة الجهلاء .
أهم شيء تعلمته ليلى في الداخلية هو النظام ، النظام المفقود في أبسط متطلبات الحياة اليومية ، والمفقود في المنازل وأماكن العمل ، في الحركة والسكون وفي تعامل الأفراد فيما بينهم، فالفرد يجد نفسه وسط خضم متلاطم من الفوضى الضاربة أطنابها في كل ما يحيط بالمجتمع الذي تسيطر فيه العاطفة الزائدة عن الحد وسوء التقدير للأمور ، وتسوده العفوية والطيبة والمجاملات التي طالما عطلت الأعمال وضيعت مكاسب وحقوق الآخرين وفرضت قيوداً صار من الصعب الفكاك من أسرها .
وقد كان النظام سيداً في تلك الداخلية بصورة تجلت فيها قدرة الخالق جل وعلا . كان نظاماً محكماً يسير وفق خطة رسمت بدقة ووضعت بإحكام ونفذت بإرشاد إداريين أكفاء، ليس لهم وجود في ماننا هذا، مما يجعل المرء يأسف على حال المدارس والجامعات والداخليات في هذا الزمان .
درجت ليلى على أن تصحو مبكرة لأداء صلاة الصبح تستعد لاستقبال يوم جديد بأمل جديد وتكون مع الزميلات في حالة تأهب لسماع جرس الشاي ، يسبق ذلك نظافة العنبر وتغيير الملاءات الملونة ببيضاء ناصعة تضفي ألقاً وجمالاً على الغرف مما يجعلهن جميعاً يتأملن ذلك المشهد البديع قائلات : " إن تلك أولى خطوات تعلم النظام" .
وتعودت على نمط حياة جديد ودقيق أيضاً ، فبعد الحصتين الأوائل يدق جرس الإفطار في زمن معين لم يتغير طوال سني الدراسة بتلك المدرسة . ووجبة الإفطار مكونة من عدس وفول وجبنة وبيض ولحم وسمك يتم تقديمها بتنسيق دقيق كأن يكون البيض مع العدس والجبنة مع الفول وهكذا حتى ينتهي الأسبوع ليعاد نفس البرنامج في الأسبوع التالي بدون تغيير يذكر. وبعد انتهاء اليوم الدراسي تصلي الظهر جماعة بإمامة إحدى الطالبات تكون ملمة بشئون الإمامة وحافظة مجيدة . يلي ذلك تناول طعام الغداء المكون من طبيخ وأرز وسلطة وفاكهة تتنوع حسب المواسم ، أما الفول السوداني مع البلح فقد كان يقدم بصورة راتبة يومي الاثنين والخميس.
وأجمل ما حبب الداخلية لليلى تلك الساعة التي تسمى بساعة الراحة ، وهذه كانت بين الساعة الثالثة والرابعة بعد الظهر ، وفي اثنائها يمنـع منعاً باتاً ، بأمر المشرفة ، تحرك أي طالبة من سريرها أو الحديث مع زميلاتها مهما كانت الضرورة بمعنى أنها إجبارية يستريح فيها العقل والبدن تعقبها صلاة العصر بقلب صافٍ وبدن مرتاح .
ومن ثم لديها مطلق الحرية للذهاب لغرفة التسلية وكانت تسمى(Common Room ) مجهزة بكل أساليب اللهو والتسلية والإطلاع ، وكانت فرصة للتثقيف مما كان له الأثر في خلق ثورة ثقافية ألقت بظلالها على الجو العام للمدرسة حيث كانت تنشط الجمعيات الأدبية والفرق الرياضية المختلفة أضف إلى ذلك الإقبال على المكتبة ؛ وقد كانت حصة المكتبة ضمن جدول الحصص ، والمكتبة تعج بالكثير المفيد إذ كانت تضم أرتالاً من الكتب الثقافية والدينية والأدبية والإجتماعية إضافة للمجلات الشهرية والأسبوعية التي تصدر في الدول العربية مثل العربي وسيدتي وزهرة الخليج .
وعند الساعة الخامسة تبدأ فترة المذاكرة وأداء الواجبات المدرسية في الفصل لتنتهي في السابعة مساء تعقبها وجبة العشاء ومن ثم صلاة العشاء . وينغمس الجميع في أنس ومشاغبات حتى يدق جرس النوم عند التاسعة والنصف والذي لا يسمح بعده بالتحرك : فالأنوار تطفأ والأبواب توصد ويعلن حظر التجول بأمر المشرفة التي تطوف على كل الغرف لتتأكد من أن كل طالبة قد لزمت سريرها ، حتى يؤذن الآذان معلناً إشراق صباح جديد .
وفي دوامة ذلك النظام وروعة الإقامة في تلك الداخلية ورضاء ليلى الكامل حدث مازلزل كيانها وقلب موازينها وجعل لحياتها طعماً مختلفاً - بالنسبة لها على الأٌقل - باعتبار أنها ما زالت تتعثر في مقتبل سني المراهقة ؛ إذ لم يدر بخلدها يوماً أن تمر بتجربة عاطفية أو أن تخوض غمار حب ، أو بالأحرى أن تفكر في أن ترتبط بشخص ما ، وكان ذلك في نهاية العام الدراسي الأول .
وقعت ليلى ذات الستة عشر ربيعاً في شباك أحد أساتذتها ، ربيع أستاذ اللغة الإنجليزية الذي كان حديث عهد بمدارس البنات وجاء يؤرقه هاجس التأقلم مع مجتمع الإناث. أحست تجاهه بنوع من الإهتمام الزائد وتملكتها عاطفة جياشة ، عاطفة ظنتها أخوية أو أبوية تحولت إلى نظرات متبادلة - فهو أيضاً قد باغته ذلك الشعور وملك كل حواسه فربط بين روحيهما شغف من النوع الذي لا تفوت على أحد ملاحظته ففي نظرات عينيه وله بائن ووجد نيرانه ملتهبة . ولم يكن باستطاعته إخفاء ما يكنه لها من عاطفة بدليل اضطرابه وعدم ثباته كلما وقعت عيناه عليها . وكان لا يتوانى في أن يسترق النظر ليتأمل عينيها وجيدها وصدرها النافر ونعومة خديها . وهي بالمثل وقعت في شراكه وصار بالنسبة لها ربيع الدنيا وبهجة الحياة .
وعادت ليلي في بداية العام الدراسي الثاني وقد بدت عليها بوادر نضج عاطفي وعقلي مبكر ؛ فقد استدار وجهها وكسته هالة ميزته بجمال أخّاذ وانتظمت تقاطيع جسدها في تناغم بديع . وعاد أجيج العاطفة بقوة ودار كل ما بينهما في صمت إلى أن وقع الفأس على الرأس ذات يوم ....
التقت ليلى ربيعها مصادفة في طريقها إلى الفصل ، فاستوقفته وعاجلته بسؤال مشوب بخوف وتردد كبيرين : " يا أستاذ هل فيها شيء أن تعجب الطالبة بأستاذها ؟ "
علمت لاحقاً أنه قد أحس لحظتها بالدنيا تدور من حوله ، وأغمض عينيه فتراءت له دنيا لم يحلم بمثلها . فقد كانت كملاك أتاه ليحمله على بساط الريح ويطوف به في عالم مسحور . أحس بدفء يسري في أوصاله وغمره فيض راحة وانتشاء ؛ فقد حدث ما تمناه دون عناء من جانبه ، وقد كان يخشى لحظة المواجهة إذا ما اضطر لمفاتحتها .
لم يرد على سؤالها وغاب في الحالة آنفة الذكر لمدة ليست بالقصيرة وهي واقفة تتأمـله ؛ تذوب وجداً وتحسب الثواني عله يفيق ويرد على سؤالها فيطمئن قلبها . فتح عينيه وانتفض كمن فوجئ بوجودها ، ولم يصدق أنها ما زالت واقفة تنتظر ، فأجاب مذهولاً وقد أصابته رعشة وفاضت مساماته بماء مدرار رغم برودة الطقس :
" هذا يتوقف على نوع ومدى الإعجاب " وقبل أن يغادر مكانه مدت له لفافة كانت تضمها بحنان ورفق . تناولها في تردد وقلق ظاهر ، شكراً .... شكراً وأطلق لساقيه العنان دون أن يلتفت وعاد أدراجه إلى مكتبه مشدوهاً وغير مصدق .
أفاقت ليلى مما أصابها من إحساس كان من العسير جداً التعبير عنه وشعرت بسعادة غامرة ولم تصدق أن صيدها قد وقع وأعدت العدة لكي تنصب شباكها حوله إلى نهايـة المطاف . فقد غدا بالنسبة لها فارس الأحلام الذي حلمت أن يحملها فوق كفوف الراحة ويحلق بها عالياً في مقامات السعادة والهناء .
تسللت خلفه وراقبته عن كثب عبر نافذة المكتب ؛ فبعد أن استعاد أنفاسه واعتدل في جلسته وجاهد للخروج من رهبة ذاك الموقف بدا عليه جزع واضح واضطراب لفت نظر زملائه في المكتب . وانتبه فجأة ليجد اللفافة على مكتبه وكان قد ألقى بها في إهمال ناسياً من حوله وزاد من اضطرابه حالة الفضول التي انتابت جميع من في المكتب عندما دخل عليهم بحالة مزرية شغلتهم حد القلق .
لم يأبه لما يجري وانتحى جانباً يقتله الفضول هو أيضاً ، وفض اللفافة برفق ليجد بداخلها نصف دستة مناديل من قماش البوليستر الأبيض منمقة أطرافها بغرزة الكورشيه بحرير وردي وفي ركن كل منديل قلب ينطلق منه سهم . فشعرت ليلى لحظتها بأن السهم قد استقر حيث أرادت له أن يستقر .
تمالك ربيع نفسه وجمع مناديله وأودعها اللفافة وضمها عليه برقة متناهية وقبلها في كل اتجاه وجذب نفساً عميقاً واستنشق عبير تلك اللفافة الذي فاح وتضوع مثل صدور الشذى من الأزهار الأرجة ، ونظر إلى السماء شاكراً أن جاءه الغيث من حيث لا يحتسب، وكبرت ليلى في عينيه وكبر شأنها عنده .
وبدأ ربيع – حسبما ذكر لها – ينقب ذاكرته ليسلسل تلك الأحداث بدقة منذ النظرة الأولى والتي كانت متبادلة – فحديث العيون لا تخطؤه فراسة من تقول عيناه نفس الكلام – وحتى انطلاقة التصريح الذي كان برداً وسلاماً على قلبه وأحدث في حياته نقلة حسبها وبيقين لا تشوبه ذرة شك ، خطوة في طريق السعادة وأكد لها أنها بسؤالها عن الإعجاب قد فتحت لسعادته أجمل الأبواب .
وانطلقت تحملها أجنحة الفرح وتحلق بها في عالم تحفه الأحلام والرؤى المثيرة، وتطوف حوله أطياف شائقة عن ليلى وعبلة وبثينة وعزة ، واتخذت قرارها بأن يظل الأمر سراً لا تفشيه حتى لأقرب صديقة وأن تحميه حتى من رفة النسيم ، ريثما يطمئن قلبها وتتأكد من صحته وتداعياته .
مرت الأيام وهما يتبادلان تلك العاطفة الجياشة في صمت بحكم وجودهما في وسط تحظر فيه مثل هذه الممارسات . ولكن ربيع قد عقد العزم وصارحها بأنه سيتقدم طالباً يدها من والديها متى ما أتيحت له الفرصة والوقت المناسب .
وغادرت ليلى المدرسة في إجازة الصيف تحمل البشرى إلى والدتها وتبثها مكنون قلبها . صارحت أمها بقصة حبها الذي كان وليداً نما في دواخلها وأينع وترعرع بحكم رعايتها له ورغبتها في الحفاظ عليه .
ولأن القدر يحمل دائماً المفاجآت السارة وغير السارة ، فوجئت بردة فعل والدتها ، فقد فاجأتها بردها الذي كان كمثل القشة التي قصمت ظهر البعير . فأمها حبيبة قلبها كانت قد أعدت العدة لزواجها من ابن خالتها الذي كان أثيراً لديها وفيه كل مواصفات الزوج المناسب لابنتها الغالية ، ومن وجهة نظرها ترى أنها فرصة لا تعوض إن واجهته برفضها غير المبرر – حسب إدراكها للأمور وشريعة الحب التي لا تجد لها نصيراً في تلك الأيام – كما أنَّ ذلك إن حدث ، يعد من جانبها مدعاة لفرض قطيعة بينها وبين أختها التي لا تتردد في إرضائها بشتى السبل باعتبار أنها عزيزة وأنها أختها الكبرى والتي أشرفت على تربيتها بعد وفاة والدتها .
ورفضت ليلى بإصرار مبدأ الزواج من إبن خالتها باعتبار أنها أعطت كلمتها لغيره ولكنها للأسف لم تجد أذناً صاغية وضاعت جهودها للتمسك بموقفها سدى بين سندان التقاليد ومطرقة المجتمع الذي لايعترف بمثل تلك الأمور.
وأسقط في يد ليلى وتم الزواج في جو مفعم بالأسى على الأقل بالنسبة لها ، فالناس حولها كانوا فرحين مهللين يغنون ويرقصون ويتبادلون التهانئ غير عابئين بها ولا يدركون حقيقة ما يعتريها من ألم ولا يعلمون بمكنون فؤادها وعقلها الهائمين في وادٍ آخر .
ومن يومها لم تعد للمدرسة ولا للداخلية ولا لذلك النظام البديع الذي ألفته وعشقته ورعت فيه غرسها إلى أن شب لتأتي يد آثمة لتقتلعه من جذوره . ولكنه كان أقوى من كل العواصف بحيث ملك جوارحها وشغل تفكيرها صارفاً إياها عن بيتها وزوجها الذي فشلت كل جهوده لنيل رضاها ، لتحظى في لحظة ضاع فيها صبره بورقة طلاق بائن وبالثلاثة .
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=164948610270186&id=100002651454724
انغمست ليلى في حياة الداخلية بكل ما تملك من تطلعات وأمنيات وألفت التعامل مع زميلات جدد جئن من قرى حول المدينة وتعودن على أنماط حياة مختلفة . كانت تجد الكثير من الحرج في فهم بعض مفرداتهن مما لم تسمعه وتضطر للسؤال عن المقصود بالمفردة المعينة فتواجه باستيائهن وقد تصادف أن تكون الواحدة منهن شرسة بطبعها ولا تعجبها طريقتها في الاستفسار وتستغرب جهلها وتحرجها وتزج بها في قائمة الجهلاء .
أهم شيء تعلمته ليلى في الداخلية هو النظام ، النظام المفقود في أبسط متطلبات الحياة اليومية ، والمفقود في المنازل وأماكن العمل ، في الحركة والسكون وفي تعامل الأفراد فيما بينهم، فالفرد يجد نفسه وسط خضم متلاطم من الفوضى الضاربة أطنابها في كل ما يحيط بالمجتمع الذي تسيطر فيه العاطفة الزائدة عن الحد وسوء التقدير للأمور ، وتسوده العفوية والطيبة والمجاملات التي طالما عطلت الأعمال وضيعت مكاسب وحقوق الآخرين وفرضت قيوداً صار من الصعب الفكاك من أسرها .
وقد كان النظام سيداً في تلك الداخلية بصورة تجلت فيها قدرة الخالق جل وعلا . كان نظاماً محكماً يسير وفق خطة رسمت بدقة ووضعت بإحكام ونفذت بإرشاد إداريين أكفاء، ليس لهم وجود في ماننا هذا، مما يجعل المرء يأسف على حال المدارس والجامعات والداخليات في هذا الزمان .
درجت ليلى على أن تصحو مبكرة لأداء صلاة الصبح تستعد لاستقبال يوم جديد بأمل جديد وتكون مع الزميلات في حالة تأهب لسماع جرس الشاي ، يسبق ذلك نظافة العنبر وتغيير الملاءات الملونة ببيضاء ناصعة تضفي ألقاً وجمالاً على الغرف مما يجعلهن جميعاً يتأملن ذلك المشهد البديع قائلات : " إن تلك أولى خطوات تعلم النظام" .
وتعودت على نمط حياة جديد ودقيق أيضاً ، فبعد الحصتين الأوائل يدق جرس الإفطار في زمن معين لم يتغير طوال سني الدراسة بتلك المدرسة . ووجبة الإفطار مكونة من عدس وفول وجبنة وبيض ولحم وسمك يتم تقديمها بتنسيق دقيق كأن يكون البيض مع العدس والجبنة مع الفول وهكذا حتى ينتهي الأسبوع ليعاد نفس البرنامج في الأسبوع التالي بدون تغيير يذكر. وبعد انتهاء اليوم الدراسي تصلي الظهر جماعة بإمامة إحدى الطالبات تكون ملمة بشئون الإمامة وحافظة مجيدة . يلي ذلك تناول طعام الغداء المكون من طبيخ وأرز وسلطة وفاكهة تتنوع حسب المواسم ، أما الفول السوداني مع البلح فقد كان يقدم بصورة راتبة يومي الاثنين والخميس.
وأجمل ما حبب الداخلية لليلى تلك الساعة التي تسمى بساعة الراحة ، وهذه كانت بين الساعة الثالثة والرابعة بعد الظهر ، وفي اثنائها يمنـع منعاً باتاً ، بأمر المشرفة ، تحرك أي طالبة من سريرها أو الحديث مع زميلاتها مهما كانت الضرورة بمعنى أنها إجبارية يستريح فيها العقل والبدن تعقبها صلاة العصر بقلب صافٍ وبدن مرتاح .
ومن ثم لديها مطلق الحرية للذهاب لغرفة التسلية وكانت تسمى(Common Room ) مجهزة بكل أساليب اللهو والتسلية والإطلاع ، وكانت فرصة للتثقيف مما كان له الأثر في خلق ثورة ثقافية ألقت بظلالها على الجو العام للمدرسة حيث كانت تنشط الجمعيات الأدبية والفرق الرياضية المختلفة أضف إلى ذلك الإقبال على المكتبة ؛ وقد كانت حصة المكتبة ضمن جدول الحصص ، والمكتبة تعج بالكثير المفيد إذ كانت تضم أرتالاً من الكتب الثقافية والدينية والأدبية والإجتماعية إضافة للمجلات الشهرية والأسبوعية التي تصدر في الدول العربية مثل العربي وسيدتي وزهرة الخليج .
وعند الساعة الخامسة تبدأ فترة المذاكرة وأداء الواجبات المدرسية في الفصل لتنتهي في السابعة مساء تعقبها وجبة العشاء ومن ثم صلاة العشاء . وينغمس الجميع في أنس ومشاغبات حتى يدق جرس النوم عند التاسعة والنصف والذي لا يسمح بعده بالتحرك : فالأنوار تطفأ والأبواب توصد ويعلن حظر التجول بأمر المشرفة التي تطوف على كل الغرف لتتأكد من أن كل طالبة قد لزمت سريرها ، حتى يؤذن الآذان معلناً إشراق صباح جديد .
وفي دوامة ذلك النظام وروعة الإقامة في تلك الداخلية ورضاء ليلى الكامل حدث مازلزل كيانها وقلب موازينها وجعل لحياتها طعماً مختلفاً - بالنسبة لها على الأٌقل - باعتبار أنها ما زالت تتعثر في مقتبل سني المراهقة ؛ إذ لم يدر بخلدها يوماً أن تمر بتجربة عاطفية أو أن تخوض غمار حب ، أو بالأحرى أن تفكر في أن ترتبط بشخص ما ، وكان ذلك في نهاية العام الدراسي الأول .
وقعت ليلى ذات الستة عشر ربيعاً في شباك أحد أساتذتها ، ربيع أستاذ اللغة الإنجليزية الذي كان حديث عهد بمدارس البنات وجاء يؤرقه هاجس التأقلم مع مجتمع الإناث. أحست تجاهه بنوع من الإهتمام الزائد وتملكتها عاطفة جياشة ، عاطفة ظنتها أخوية أو أبوية تحولت إلى نظرات متبادلة - فهو أيضاً قد باغته ذلك الشعور وملك كل حواسه فربط بين روحيهما شغف من النوع الذي لا تفوت على أحد ملاحظته ففي نظرات عينيه وله بائن ووجد نيرانه ملتهبة . ولم يكن باستطاعته إخفاء ما يكنه لها من عاطفة بدليل اضطرابه وعدم ثباته كلما وقعت عيناه عليها . وكان لا يتوانى في أن يسترق النظر ليتأمل عينيها وجيدها وصدرها النافر ونعومة خديها . وهي بالمثل وقعت في شراكه وصار بالنسبة لها ربيع الدنيا وبهجة الحياة .
وعادت ليلي في بداية العام الدراسي الثاني وقد بدت عليها بوادر نضج عاطفي وعقلي مبكر ؛ فقد استدار وجهها وكسته هالة ميزته بجمال أخّاذ وانتظمت تقاطيع جسدها في تناغم بديع . وعاد أجيج العاطفة بقوة ودار كل ما بينهما في صمت إلى أن وقع الفأس على الرأس ذات يوم ....
التقت ليلى ربيعها مصادفة في طريقها إلى الفصل ، فاستوقفته وعاجلته بسؤال مشوب بخوف وتردد كبيرين : " يا أستاذ هل فيها شيء أن تعجب الطالبة بأستاذها ؟ "
علمت لاحقاً أنه قد أحس لحظتها بالدنيا تدور من حوله ، وأغمض عينيه فتراءت له دنيا لم يحلم بمثلها . فقد كانت كملاك أتاه ليحمله على بساط الريح ويطوف به في عالم مسحور . أحس بدفء يسري في أوصاله وغمره فيض راحة وانتشاء ؛ فقد حدث ما تمناه دون عناء من جانبه ، وقد كان يخشى لحظة المواجهة إذا ما اضطر لمفاتحتها .
لم يرد على سؤالها وغاب في الحالة آنفة الذكر لمدة ليست بالقصيرة وهي واقفة تتأمـله ؛ تذوب وجداً وتحسب الثواني عله يفيق ويرد على سؤالها فيطمئن قلبها . فتح عينيه وانتفض كمن فوجئ بوجودها ، ولم يصدق أنها ما زالت واقفة تنتظر ، فأجاب مذهولاً وقد أصابته رعشة وفاضت مساماته بماء مدرار رغم برودة الطقس :
" هذا يتوقف على نوع ومدى الإعجاب " وقبل أن يغادر مكانه مدت له لفافة كانت تضمها بحنان ورفق . تناولها في تردد وقلق ظاهر ، شكراً .... شكراً وأطلق لساقيه العنان دون أن يلتفت وعاد أدراجه إلى مكتبه مشدوهاً وغير مصدق .
أفاقت ليلى مما أصابها من إحساس كان من العسير جداً التعبير عنه وشعرت بسعادة غامرة ولم تصدق أن صيدها قد وقع وأعدت العدة لكي تنصب شباكها حوله إلى نهايـة المطاف . فقد غدا بالنسبة لها فارس الأحلام الذي حلمت أن يحملها فوق كفوف الراحة ويحلق بها عالياً في مقامات السعادة والهناء .
تسللت خلفه وراقبته عن كثب عبر نافذة المكتب ؛ فبعد أن استعاد أنفاسه واعتدل في جلسته وجاهد للخروج من رهبة ذاك الموقف بدا عليه جزع واضح واضطراب لفت نظر زملائه في المكتب . وانتبه فجأة ليجد اللفافة على مكتبه وكان قد ألقى بها في إهمال ناسياً من حوله وزاد من اضطرابه حالة الفضول التي انتابت جميع من في المكتب عندما دخل عليهم بحالة مزرية شغلتهم حد القلق .
لم يأبه لما يجري وانتحى جانباً يقتله الفضول هو أيضاً ، وفض اللفافة برفق ليجد بداخلها نصف دستة مناديل من قماش البوليستر الأبيض منمقة أطرافها بغرزة الكورشيه بحرير وردي وفي ركن كل منديل قلب ينطلق منه سهم . فشعرت ليلى لحظتها بأن السهم قد استقر حيث أرادت له أن يستقر .
تمالك ربيع نفسه وجمع مناديله وأودعها اللفافة وضمها عليه برقة متناهية وقبلها في كل اتجاه وجذب نفساً عميقاً واستنشق عبير تلك اللفافة الذي فاح وتضوع مثل صدور الشذى من الأزهار الأرجة ، ونظر إلى السماء شاكراً أن جاءه الغيث من حيث لا يحتسب، وكبرت ليلى في عينيه وكبر شأنها عنده .
وبدأ ربيع – حسبما ذكر لها – ينقب ذاكرته ليسلسل تلك الأحداث بدقة منذ النظرة الأولى والتي كانت متبادلة – فحديث العيون لا تخطؤه فراسة من تقول عيناه نفس الكلام – وحتى انطلاقة التصريح الذي كان برداً وسلاماً على قلبه وأحدث في حياته نقلة حسبها وبيقين لا تشوبه ذرة شك ، خطوة في طريق السعادة وأكد لها أنها بسؤالها عن الإعجاب قد فتحت لسعادته أجمل الأبواب .
وانطلقت تحملها أجنحة الفرح وتحلق بها في عالم تحفه الأحلام والرؤى المثيرة، وتطوف حوله أطياف شائقة عن ليلى وعبلة وبثينة وعزة ، واتخذت قرارها بأن يظل الأمر سراً لا تفشيه حتى لأقرب صديقة وأن تحميه حتى من رفة النسيم ، ريثما يطمئن قلبها وتتأكد من صحته وتداعياته .
مرت الأيام وهما يتبادلان تلك العاطفة الجياشة في صمت بحكم وجودهما في وسط تحظر فيه مثل هذه الممارسات . ولكن ربيع قد عقد العزم وصارحها بأنه سيتقدم طالباً يدها من والديها متى ما أتيحت له الفرصة والوقت المناسب .
وغادرت ليلى المدرسة في إجازة الصيف تحمل البشرى إلى والدتها وتبثها مكنون قلبها . صارحت أمها بقصة حبها الذي كان وليداً نما في دواخلها وأينع وترعرع بحكم رعايتها له ورغبتها في الحفاظ عليه .
ولأن القدر يحمل دائماً المفاجآت السارة وغير السارة ، فوجئت بردة فعل والدتها ، فقد فاجأتها بردها الذي كان كمثل القشة التي قصمت ظهر البعير . فأمها حبيبة قلبها كانت قد أعدت العدة لزواجها من ابن خالتها الذي كان أثيراً لديها وفيه كل مواصفات الزوج المناسب لابنتها الغالية ، ومن وجهة نظرها ترى أنها فرصة لا تعوض إن واجهته برفضها غير المبرر – حسب إدراكها للأمور وشريعة الحب التي لا تجد لها نصيراً في تلك الأيام – كما أنَّ ذلك إن حدث ، يعد من جانبها مدعاة لفرض قطيعة بينها وبين أختها التي لا تتردد في إرضائها بشتى السبل باعتبار أنها عزيزة وأنها أختها الكبرى والتي أشرفت على تربيتها بعد وفاة والدتها .
ورفضت ليلى بإصرار مبدأ الزواج من إبن خالتها باعتبار أنها أعطت كلمتها لغيره ولكنها للأسف لم تجد أذناً صاغية وضاعت جهودها للتمسك بموقفها سدى بين سندان التقاليد ومطرقة المجتمع الذي لايعترف بمثل تلك الأمور.
وأسقط في يد ليلى وتم الزواج في جو مفعم بالأسى على الأقل بالنسبة لها ، فالناس حولها كانوا فرحين مهللين يغنون ويرقصون ويتبادلون التهانئ غير عابئين بها ولا يدركون حقيقة ما يعتريها من ألم ولا يعلمون بمكنون فؤادها وعقلها الهائمين في وادٍ آخر .
ومن يومها لم تعد للمدرسة ولا للداخلية ولا لذلك النظام البديع الذي ألفته وعشقته ورعت فيه غرسها إلى أن شب لتأتي يد آثمة لتقتلعه من جذوره . ولكنه كان أقوى من كل العواصف بحيث ملك جوارحها وشغل تفكيرها صارفاً إياها عن بيتها وزوجها الذي فشلت كل جهوده لنيل رضاها ، لتحظى في لحظة ضاع فيها صبره بورقة طلاق بائن وبالثلاثة .
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=164948610270186&id=100002651454724