"عملي شاقّ جدًّا، أقضي معظمَ نهاري في خلط الإسمنت وحملِه إلى الطيّان. إنّه الشقاءُ بعينه. ورغم ذلك لا أحصل إلّا على القليل. وفاةُ والدي ومرضُ أختي الصغيرة فَرضا عليّ هذا العمل. لن أتركَ أمّي وأختي للجوع. هذا ما عاهدتُ نفسي عليه حين رأيتُ جسدَ والدي يغيب في الحفرة..."
ورَدَ هذا المقطعُ الغريب في تقرير تحت عنوان حول العمل والعمّال والحقوق المستباحة، من إعداد صديقي الصحفيّ كمال، وضمّنه عدّة لقاءات مع العمّال وأرباب العمل، ومصطفى ــــ صاحبُ الكلام أعلاه ــــ واحد من الأوّلين. ويقول في مقطعٍ آخر: "كيف أتزوّج! أسعار البيوت خرافيّة، ومثلها الإيجار. والرواتب هزيلة. هذا طبعًا إذا التقيتُ ابنةَ الحلال." ثمّ يشرح: "الراتب لا يكفي لأسبوع واحد، ولا أفهم كيف يعيش الناسُ هذه الأيّام!" ويكمل: "يقولون دولة العمّال والفلاحين! ما هذه المهزلة؟! عن أي عمّال يتحدّثون؟ هل العمّال هم فقط مَن يشتغلون في مؤسّسات الدولة؟ حسنًا؛ ربّما ظروفُهم أفضل. ولكنّي أنا أيضًا عاملٌ، وقبل ذلك مواطن؛ ولا أجد لنفسي مكانًا في هذا الجحيم. ماذا عليّ أن أفعل حتّى أعيش؟ هل أسرق كما يسرق التجّار وكبارُ المسؤولين؟" وحين سُئل إنْ جرّب السرقة يومًا، أجاب ببساطة: "نعم، حين كنتُ مراهقًا، لكنّني لم أرتح للأمر، وفضّلتُ الشقاء كما ترى. وإن جئتَ للحقّ، فقد فعلتُ ذلك من باب الفضول، لا بغاية السرقة فقط." ثمّ يضيف:
"تسلّلتُ يومًا إلى أحد البيوت، وكنتُ أعرف مسبّقًا أنّ أصحابه في الخارج. فتّشتُ الأدراج والخزن والثياب، فلم أجد ما يستحقّ السرقة. كنتُ خائفًا ومرتبكًا. ورغم ذلك، حرصتُ على ألّا يلاحظ أصحابُ البيت أنّ هناك مَن اقتحم بيتهم. لا أعلم لماذا! ربّما بسبب صورة ابنتهم الجميلة المعلّقة في الصالون، والتي شعرتُ أنّها تراقبني طوال الوقت، وتهيّأ لي أنّها ستغضب لو تركتُ خلفي بعض الفوضى. والحقّ أنّني فكّرتُ في أن أسرقَ الصورة، لكنّي في آخر لحظة تراجعت..."
ثمّ يناقش التقرير ظروفَ العمل، والصعوبات التي تواجه العمّال، والرواتب والأجور، ووضعَ نقابة العمّال، والكثير من الأمور التي تقضّ مضاجعَ الناس، عمّالًا أو موظّفين. واستغربتُ أن يرِد مثلُ هذا المقطع في تقرير صحفيّ مليء بالأرقام والإحصاءات، والأغرب أن يمرّ من تحت ناظرَي المحرّر أو الرقيب!
***
انتهيتُ من القراءة، وبقي كلامُ مصطفى يشغل بالي. أعجبتني صراحتُه وعفويّتُه. وسألتُ إنْ كانت هناك فرصةٌ للقائه، فوعدني صديقي بأن يجمعني به. وبالفعل، التقينا بعد أيّام في بيت كمال، ووجدتُ أنّه يتمتّع بوجه جميل وقوام رياضيّ وروحٍ مرحة. وعرفتُ أيضًا أنّه كان يدرس هندسة الميكانيك قبل أن تدفعه الظروفُ إلى وقف تسجيله في الجامعة، وإلى العمل من أجل لقمة العيش. عمل بداية سائقَ سيّارة أجرة، ثمّ محاسبًا في مطعم للوجبات السريعة، فدهّانًا، قبل أن ينتهي به الحال مساعدَ طيّان. كان كمال يستمع إلى حديثنا، ويُسجّل في دفتره بعض الملاحظات، حين انتبه إليه مصطفى، ومازحه قائلًا: "حاسس حالي حدا مهمّ." وضحك، وضحكنا معه، وعلّق كمال: "لو لم تكن مهمًّا لما سألني عنكَ رجالُ الأمن."
هنا امتقع وجهُ مصطفى وتغيّرتْ لهجتُه، وقال برجاء: "تحبّ الله، لا تمزح معي هيك مزح!" إلّا أنّ كمالًا لم يكن يمزح، وروى لنا كيف استدعاه رجالُ الأمن، وسألوه عن كلّ شخصٍ ورد اسمُه في التقرير. ونصحه بأن يهيّئ نفسه لاستدعاءٍ مشابه، وأنّ عليه ألّا يجزع لأنّ الأمر كلّه مجرّد روتين. لكنّ تطميناته لم تنفع، وبقي مصطفى واجمًا، وظهرتْ على محيّاه علاماتُ الرعب. لم نفهم سببَ خوفه إلّا حين روى لنا كيف أُوقف منذ مدّة بسبب تشابهِ اسمِه مع اسم أحد المطلوبين، وكيف قضى شهرًا في السجن ذاق فيها الويلاتِ ورأى الموتَ بأمّ العين. كان المحقّقون يصرّون على أنّه الشخص المطلوب، وعلى وجوب إخبارهم كيف يهرّب السلاحَ إلى داخل البلاد، ومن هم شركاؤه. لكنّهم، بعد أن تأكّدوا بطرقهم الخاصّة من صدق أقواله، أطلقوا سراحه، فخرج وفي معصميه وظهره جراحٌ لم تُشْفَ إلّا بعد أسابيع. أمّا الجراح التي أدمتْ روحه فقال عنها بحزن: "ستبقى ندوبُها ما حييتُ تذكّرني بالظلم الذي تعرّضتُ له."
بعد استماعنا إلى هذه القصّة المُكربة، وجدتُ أنّه من المناسب أن أغيّر وجهةَ الحديث؛ فسألتُه عن صورة الفتاة التي تكلّم عنها في التقرير. ويبدو أنّني وُفّقتُ في مسعاي، فابتسم قائلًا: "حدث هذا منذ زمن طويل. وما لم أقله في التقرير هو أنّني تعرّفتُ إليها بعد عدّة سنوات في الجامعة، وأصبحنا صديقين، ثمّ مشروعَ حبيبين. ولولا الظروف التي تمرّ فيها البلاد، والتي دفعتْ عائلتَها إلى بيع كلّ ممتلكاتهم والهربِ إلى تركيا، ومن هناك إلى أوروبا، لكنّا الآن زوجين ربّما. ولكنْ ماتت قصّتنا قبل أن تبدأ." وأكمل: "كان اسمُها أفروديت..." قاطعته: "أفروديت هي ربّةُ الحبّ والجمال عند اليونانيين القدماء." قال: "كانت اسمًا على مسمّى." قاطعتُه ثانيةً: "هل رويتَ لها محاولتَكَ سرقةَ منزلهم؟" فأجابني ضاحكًا: "لم أفعل. أظنّها كانت ستتركني في الحال." ثمّ تابع:
"كانت فنّانة تشكيليّة. تعرّفتُ إليها في معرض للوحاتها المائيّة التي تصوّر الطبيعةَ وحياة الناس اليوميّة. كانت لوحاتها غنيّةً بالتفاصيل والألوان. وقد وصفتُ المعرض بأنّه مهرجان للألوان والضوء. أعجبها الوصف، وتحدّثنا عن المدرسة الانطباعيّة وكلود مونيه وبول سيزان. للأسف لم أستطع أن أستحضر من ذاكرتي سوى هذين الاسمين، لكنْ كان لذلك وقعٌ جميلٌ عندها. هكذا أصبحنا صديقين. ثمّ تطوّرتْ علاقتُنا. وبعد أسبوعين قلتُ لها الكلمةَ السحريّة (بحبّك). أذكر أنّها ابتسمتْ بخجل ولم تردّ. لكنّي قرأتُ في عينيها ما جعل قلبي يطمئنّ. وفي المساء، وصلتني منها رسالةٌ على جوّالي من كلمتين فقط (وأنا كمان). فشعرتُ أنّ الدنيا أخيرًا ابتسمت لي."
توقّف مصطفى عن الكلام، وبدا أنّه يستعيد في ذاكرته حدثًا ما. سألته أن يُكمل. فقال بحزن: "هذا كلّ شيء." وتابع بعد قليل من الصمت: "في صبيحة اليوم التالي تمّ توقيفي كما حدّثتُكَ. وعندما خرجتُ من السجن عرفتُ أنّها سافرتْ. ومن يومها لم أسمع عنها أيّ خبر."
"يا لهذا الوجع!" وجدتني أكلّم نفسي وأنا أتمعّن في قسماته. وفجأةً بدأ يدندن أغنيةً حزينةً، وكان صوتُه شجيًّا، فاقشعرّ جسدي، وأحسستُ برغبةٍ في البكاء. لكنّي ضبطتُ نفسي بصعوبة، وأصختُ السمع:
" يا صخرة المينا لا تشمتي فينا... ياما على أعتابك وقفوا حبايبنا... وقفوا أهالينا
لميل البحر تلتك صار دايب... عليكي كتر ما وقفوا حبايب... فيكي سرّ من خطوة حبيبي
لمّا عن بلادي كنت غايب... يا هل ترى بيعود ماضينا... يا صخرة المينا؟"
نظرتُ إلى كمال فوجدتُه ساهمًا، وكنتُ أغالب الدمع في الوقت الذي توقّف فيه مصطفى عن الغناء واعتذرَ عن جوّ الحزن الذي فرضه علينا. وأضاف بعد تردّد: "ثمّة إشاعة تقول إنّ مركبهم لم يصل أوروبا وغرق قبالة السواحل اليونانيّة، ولم ينجُ سوى القليل من الركّاب. أمّا الباقي فقد ابتلعهم البحر وتكفّلت بأشلائهم الأسماك." وتوقّف من جديد عن الكلام، وبدا أنّه صار في عالم آخر. لكنّني تجاسرتُ وسألته: "وماذا فعلتَ أنت؟" فأجابني بعد تنهيدةٍ عميقة: "لا شيء سوى أنّني امتنعتُ عن أكل السمك منذ ذلك الحين."
بعد عدّة أيّام فوجئتُ باتّصال من كمال يخبرني فيه أنّه استُدعي إلى الخدمة العسكريّة الاحتياطيّة. وحين ذهبتُ لوداعه وجدتُ مصطفى وبعضَ الأصدقاء. سهرنا حتّى الفجر، وتحدّثنا بألف موضوع وموضوع، وشربنا حتّى انتشينا، وغنّى لنا مصطفى بصوته الجميل، وبكى بعضُنا، وشتمْنا الوضعَ الذي وصلنا إليه. وقبل أن نغادر أصرّ كمال على أن نأخذ صورةً جماعيّةً ليحتفظَ بها على جواله، ذكرى تُرافقه وتخفّف من حزنه في أوقات الشدّة. تناقلنا الصورةَ عبر جوّالاتنا، وحفظتُها في ملفّ يحمل اسم " أصدقاء." وفي طريقي إلى البيت، انقبض قلبي وشعرتُ أنّني لن ألتقي كمالًا بعد اليوم.
لاحقًا، عملتُ على مساعدة مصطفى. فاتّصلتُ بعددٍ من أصدقائي ومعارفي، واستطعتُ تأمين عمل له بشروط إنسانيّة أفضل، وبأجرٍ أعلى بكثير ممّا كان يتقاضاه في عمله السابق. وهذا ما أتاح له العودةَ إلى الجامعة ومتابعة دراسته. وصرنا نلتقي دائمًا. وكلّما عرفتُه أحببتُه أكثر، ولم أندم يومًا على مساعدتي له. وبقي هو ممتنًّا لي ولصديقي كمال الذي كان السببَ في تعارفنا.
***
لم يستدع الأمنُ مصطفى للتحقيق كما توقّع كمال. وبقي يعيش تحت هذا الهاجس لمدّة طويلة، حتّى صار يتمنّى أن يطلبوه وينتهي من هذا الهمّ. لكنّ القدر كان يخطّط لشيء آخر، فحصل ما لم يكن في الحسبان؛ إذ توفّيت أختُه المريضة فجرَ أحد الأيّام، ولحقتْ بها أمُّه بعد شهور قليلة. فوجد نفسه وحيدًا، معلّقًا في الهواء، تتقاذفه الأحزان. وبرغم ذلك، استطاع أن يتوازن من جديد، ويُنهي دراستَه الجامعيّة بدرجة "جيّد." وفجأةً قرّر أن يسافر للبحث عن مستقبله في أوروبا كما يفعل الكثيرُ من الشباب هذه الأيّام. لم أشجّعه على ذلك لكنّه كان مصرًّا، فتمنّيتُ له التوفيق. وهكذا، خلال أسابيع استطاع بيعَ منزلهم الصغير وقبضَ الثمن، ثم ودّعني عبر الهاتف وانقطعتْ أخبارُه منذ ذلك الحين.
لم أفقد الأمل. مازلت أنتظر اتّصالًا يخبرني فيه أنّه وصل سالمًا إلى حيث يريد. ما زلتُ أتذكّره كلّما سمعتُ وديع الصافي يغنّي "يا صخرة المينا،" وكلّما رأيتُ عمّالَ البناء. ما زلتُ أتذكّره كلّما اتّصل بي كمال ليخبرني أنّه بخير، وكلّما شاهدتُ على شاشة التلفاز مآسي اللاجئين. ما زلتُ أتذكّره وأتمنّى أن يلتقي أفروديت التي لا بدّ من أنّه سيبحث عنها هناك. على أمل أن تكون الإشاعة مجرّد إشاعة. ما زلتُ أتذكّره كلّما وُضعَ أمامي طبقٌ من السّمك، فأمتنعُ عن الطعام وأقول: "الله كريم. سنأكل السمك ذات يوم. وسنتحلّق حول طاولةٍ واحدةٍ، أنا وكمال ومصطفى وأفروديت. وسنشرب نخبَ بلادنا، ونغنّي حتّى مطلع الضوء."
اللاذقيّة
ورَدَ هذا المقطعُ الغريب في تقرير تحت عنوان حول العمل والعمّال والحقوق المستباحة، من إعداد صديقي الصحفيّ كمال، وضمّنه عدّة لقاءات مع العمّال وأرباب العمل، ومصطفى ــــ صاحبُ الكلام أعلاه ــــ واحد من الأوّلين. ويقول في مقطعٍ آخر: "كيف أتزوّج! أسعار البيوت خرافيّة، ومثلها الإيجار. والرواتب هزيلة. هذا طبعًا إذا التقيتُ ابنةَ الحلال." ثمّ يشرح: "الراتب لا يكفي لأسبوع واحد، ولا أفهم كيف يعيش الناسُ هذه الأيّام!" ويكمل: "يقولون دولة العمّال والفلاحين! ما هذه المهزلة؟! عن أي عمّال يتحدّثون؟ هل العمّال هم فقط مَن يشتغلون في مؤسّسات الدولة؟ حسنًا؛ ربّما ظروفُهم أفضل. ولكنّي أنا أيضًا عاملٌ، وقبل ذلك مواطن؛ ولا أجد لنفسي مكانًا في هذا الجحيم. ماذا عليّ أن أفعل حتّى أعيش؟ هل أسرق كما يسرق التجّار وكبارُ المسؤولين؟" وحين سُئل إنْ جرّب السرقة يومًا، أجاب ببساطة: "نعم، حين كنتُ مراهقًا، لكنّني لم أرتح للأمر، وفضّلتُ الشقاء كما ترى. وإن جئتَ للحقّ، فقد فعلتُ ذلك من باب الفضول، لا بغاية السرقة فقط." ثمّ يضيف:
"تسلّلتُ يومًا إلى أحد البيوت، وكنتُ أعرف مسبّقًا أنّ أصحابه في الخارج. فتّشتُ الأدراج والخزن والثياب، فلم أجد ما يستحقّ السرقة. كنتُ خائفًا ومرتبكًا. ورغم ذلك، حرصتُ على ألّا يلاحظ أصحابُ البيت أنّ هناك مَن اقتحم بيتهم. لا أعلم لماذا! ربّما بسبب صورة ابنتهم الجميلة المعلّقة في الصالون، والتي شعرتُ أنّها تراقبني طوال الوقت، وتهيّأ لي أنّها ستغضب لو تركتُ خلفي بعض الفوضى. والحقّ أنّني فكّرتُ في أن أسرقَ الصورة، لكنّي في آخر لحظة تراجعت..."
ثمّ يناقش التقرير ظروفَ العمل، والصعوبات التي تواجه العمّال، والرواتب والأجور، ووضعَ نقابة العمّال، والكثير من الأمور التي تقضّ مضاجعَ الناس، عمّالًا أو موظّفين. واستغربتُ أن يرِد مثلُ هذا المقطع في تقرير صحفيّ مليء بالأرقام والإحصاءات، والأغرب أن يمرّ من تحت ناظرَي المحرّر أو الرقيب!
***
انتهيتُ من القراءة، وبقي كلامُ مصطفى يشغل بالي. أعجبتني صراحتُه وعفويّتُه. وسألتُ إنْ كانت هناك فرصةٌ للقائه، فوعدني صديقي بأن يجمعني به. وبالفعل، التقينا بعد أيّام في بيت كمال، ووجدتُ أنّه يتمتّع بوجه جميل وقوام رياضيّ وروحٍ مرحة. وعرفتُ أيضًا أنّه كان يدرس هندسة الميكانيك قبل أن تدفعه الظروفُ إلى وقف تسجيله في الجامعة، وإلى العمل من أجل لقمة العيش. عمل بداية سائقَ سيّارة أجرة، ثمّ محاسبًا في مطعم للوجبات السريعة، فدهّانًا، قبل أن ينتهي به الحال مساعدَ طيّان. كان كمال يستمع إلى حديثنا، ويُسجّل في دفتره بعض الملاحظات، حين انتبه إليه مصطفى، ومازحه قائلًا: "حاسس حالي حدا مهمّ." وضحك، وضحكنا معه، وعلّق كمال: "لو لم تكن مهمًّا لما سألني عنكَ رجالُ الأمن."
هنا امتقع وجهُ مصطفى وتغيّرتْ لهجتُه، وقال برجاء: "تحبّ الله، لا تمزح معي هيك مزح!" إلّا أنّ كمالًا لم يكن يمزح، وروى لنا كيف استدعاه رجالُ الأمن، وسألوه عن كلّ شخصٍ ورد اسمُه في التقرير. ونصحه بأن يهيّئ نفسه لاستدعاءٍ مشابه، وأنّ عليه ألّا يجزع لأنّ الأمر كلّه مجرّد روتين. لكنّ تطميناته لم تنفع، وبقي مصطفى واجمًا، وظهرتْ على محيّاه علاماتُ الرعب. لم نفهم سببَ خوفه إلّا حين روى لنا كيف أُوقف منذ مدّة بسبب تشابهِ اسمِه مع اسم أحد المطلوبين، وكيف قضى شهرًا في السجن ذاق فيها الويلاتِ ورأى الموتَ بأمّ العين. كان المحقّقون يصرّون على أنّه الشخص المطلوب، وعلى وجوب إخبارهم كيف يهرّب السلاحَ إلى داخل البلاد، ومن هم شركاؤه. لكنّهم، بعد أن تأكّدوا بطرقهم الخاصّة من صدق أقواله، أطلقوا سراحه، فخرج وفي معصميه وظهره جراحٌ لم تُشْفَ إلّا بعد أسابيع. أمّا الجراح التي أدمتْ روحه فقال عنها بحزن: "ستبقى ندوبُها ما حييتُ تذكّرني بالظلم الذي تعرّضتُ له."
بعد استماعنا إلى هذه القصّة المُكربة، وجدتُ أنّه من المناسب أن أغيّر وجهةَ الحديث؛ فسألتُه عن صورة الفتاة التي تكلّم عنها في التقرير. ويبدو أنّني وُفّقتُ في مسعاي، فابتسم قائلًا: "حدث هذا منذ زمن طويل. وما لم أقله في التقرير هو أنّني تعرّفتُ إليها بعد عدّة سنوات في الجامعة، وأصبحنا صديقين، ثمّ مشروعَ حبيبين. ولولا الظروف التي تمرّ فيها البلاد، والتي دفعتْ عائلتَها إلى بيع كلّ ممتلكاتهم والهربِ إلى تركيا، ومن هناك إلى أوروبا، لكنّا الآن زوجين ربّما. ولكنْ ماتت قصّتنا قبل أن تبدأ." وأكمل: "كان اسمُها أفروديت..." قاطعته: "أفروديت هي ربّةُ الحبّ والجمال عند اليونانيين القدماء." قال: "كانت اسمًا على مسمّى." قاطعتُه ثانيةً: "هل رويتَ لها محاولتَكَ سرقةَ منزلهم؟" فأجابني ضاحكًا: "لم أفعل. أظنّها كانت ستتركني في الحال." ثمّ تابع:
"كانت فنّانة تشكيليّة. تعرّفتُ إليها في معرض للوحاتها المائيّة التي تصوّر الطبيعةَ وحياة الناس اليوميّة. كانت لوحاتها غنيّةً بالتفاصيل والألوان. وقد وصفتُ المعرض بأنّه مهرجان للألوان والضوء. أعجبها الوصف، وتحدّثنا عن المدرسة الانطباعيّة وكلود مونيه وبول سيزان. للأسف لم أستطع أن أستحضر من ذاكرتي سوى هذين الاسمين، لكنْ كان لذلك وقعٌ جميلٌ عندها. هكذا أصبحنا صديقين. ثمّ تطوّرتْ علاقتُنا. وبعد أسبوعين قلتُ لها الكلمةَ السحريّة (بحبّك). أذكر أنّها ابتسمتْ بخجل ولم تردّ. لكنّي قرأتُ في عينيها ما جعل قلبي يطمئنّ. وفي المساء، وصلتني منها رسالةٌ على جوّالي من كلمتين فقط (وأنا كمان). فشعرتُ أنّ الدنيا أخيرًا ابتسمت لي."
توقّف مصطفى عن الكلام، وبدا أنّه يستعيد في ذاكرته حدثًا ما. سألته أن يُكمل. فقال بحزن: "هذا كلّ شيء." وتابع بعد قليل من الصمت: "في صبيحة اليوم التالي تمّ توقيفي كما حدّثتُكَ. وعندما خرجتُ من السجن عرفتُ أنّها سافرتْ. ومن يومها لم أسمع عنها أيّ خبر."
"يا لهذا الوجع!" وجدتني أكلّم نفسي وأنا أتمعّن في قسماته. وفجأةً بدأ يدندن أغنيةً حزينةً، وكان صوتُه شجيًّا، فاقشعرّ جسدي، وأحسستُ برغبةٍ في البكاء. لكنّي ضبطتُ نفسي بصعوبة، وأصختُ السمع:
" يا صخرة المينا لا تشمتي فينا... ياما على أعتابك وقفوا حبايبنا... وقفوا أهالينا
لميل البحر تلتك صار دايب... عليكي كتر ما وقفوا حبايب... فيكي سرّ من خطوة حبيبي
لمّا عن بلادي كنت غايب... يا هل ترى بيعود ماضينا... يا صخرة المينا؟"
نظرتُ إلى كمال فوجدتُه ساهمًا، وكنتُ أغالب الدمع في الوقت الذي توقّف فيه مصطفى عن الغناء واعتذرَ عن جوّ الحزن الذي فرضه علينا. وأضاف بعد تردّد: "ثمّة إشاعة تقول إنّ مركبهم لم يصل أوروبا وغرق قبالة السواحل اليونانيّة، ولم ينجُ سوى القليل من الركّاب. أمّا الباقي فقد ابتلعهم البحر وتكفّلت بأشلائهم الأسماك." وتوقّف من جديد عن الكلام، وبدا أنّه صار في عالم آخر. لكنّني تجاسرتُ وسألته: "وماذا فعلتَ أنت؟" فأجابني بعد تنهيدةٍ عميقة: "لا شيء سوى أنّني امتنعتُ عن أكل السمك منذ ذلك الحين."
بعد عدّة أيّام فوجئتُ باتّصال من كمال يخبرني فيه أنّه استُدعي إلى الخدمة العسكريّة الاحتياطيّة. وحين ذهبتُ لوداعه وجدتُ مصطفى وبعضَ الأصدقاء. سهرنا حتّى الفجر، وتحدّثنا بألف موضوع وموضوع، وشربنا حتّى انتشينا، وغنّى لنا مصطفى بصوته الجميل، وبكى بعضُنا، وشتمْنا الوضعَ الذي وصلنا إليه. وقبل أن نغادر أصرّ كمال على أن نأخذ صورةً جماعيّةً ليحتفظَ بها على جواله، ذكرى تُرافقه وتخفّف من حزنه في أوقات الشدّة. تناقلنا الصورةَ عبر جوّالاتنا، وحفظتُها في ملفّ يحمل اسم " أصدقاء." وفي طريقي إلى البيت، انقبض قلبي وشعرتُ أنّني لن ألتقي كمالًا بعد اليوم.
لاحقًا، عملتُ على مساعدة مصطفى. فاتّصلتُ بعددٍ من أصدقائي ومعارفي، واستطعتُ تأمين عمل له بشروط إنسانيّة أفضل، وبأجرٍ أعلى بكثير ممّا كان يتقاضاه في عمله السابق. وهذا ما أتاح له العودةَ إلى الجامعة ومتابعة دراسته. وصرنا نلتقي دائمًا. وكلّما عرفتُه أحببتُه أكثر، ولم أندم يومًا على مساعدتي له. وبقي هو ممتنًّا لي ولصديقي كمال الذي كان السببَ في تعارفنا.
***
لم يستدع الأمنُ مصطفى للتحقيق كما توقّع كمال. وبقي يعيش تحت هذا الهاجس لمدّة طويلة، حتّى صار يتمنّى أن يطلبوه وينتهي من هذا الهمّ. لكنّ القدر كان يخطّط لشيء آخر، فحصل ما لم يكن في الحسبان؛ إذ توفّيت أختُه المريضة فجرَ أحد الأيّام، ولحقتْ بها أمُّه بعد شهور قليلة. فوجد نفسه وحيدًا، معلّقًا في الهواء، تتقاذفه الأحزان. وبرغم ذلك، استطاع أن يتوازن من جديد، ويُنهي دراستَه الجامعيّة بدرجة "جيّد." وفجأةً قرّر أن يسافر للبحث عن مستقبله في أوروبا كما يفعل الكثيرُ من الشباب هذه الأيّام. لم أشجّعه على ذلك لكنّه كان مصرًّا، فتمنّيتُ له التوفيق. وهكذا، خلال أسابيع استطاع بيعَ منزلهم الصغير وقبضَ الثمن، ثم ودّعني عبر الهاتف وانقطعتْ أخبارُه منذ ذلك الحين.
لم أفقد الأمل. مازلت أنتظر اتّصالًا يخبرني فيه أنّه وصل سالمًا إلى حيث يريد. ما زلتُ أتذكّره كلّما سمعتُ وديع الصافي يغنّي "يا صخرة المينا،" وكلّما رأيتُ عمّالَ البناء. ما زلتُ أتذكّره كلّما اتّصل بي كمال ليخبرني أنّه بخير، وكلّما شاهدتُ على شاشة التلفاز مآسي اللاجئين. ما زلتُ أتذكّره وأتمنّى أن يلتقي أفروديت التي لا بدّ من أنّه سيبحث عنها هناك. على أمل أن تكون الإشاعة مجرّد إشاعة. ما زلتُ أتذكّره كلّما وُضعَ أمامي طبقٌ من السّمك، فأمتنعُ عن الطعام وأقول: "الله كريم. سنأكل السمك ذات يوم. وسنتحلّق حول طاولةٍ واحدةٍ، أنا وكمال ومصطفى وأفروديت. وسنشرب نخبَ بلادنا، ونغنّي حتّى مطلع الضوء."
اللاذقيّة