تفسير اختفاء فوزي المشفتر
-1-
جمعنا فوزي ليلة اختفائه وقال لنا :
- الليلة سأفتحُ (الطاروق) ،وأرشُ الملحَ حوله، وسأدخل ، إن رأيتم الضباب انهزموا ، وإن سمعتم صراخي تجاهلوا ،المهم انسوني حتى الصباح ، بعدها فتشوا عني.
صمت فوزي محدّقاً في كل فردٍ منّا ، نحن أفراد عصابته الصغيرة ، كنا نهابه ونستلذ بصحبته ، لذا كانت طلباته مجابة دوماً ، في إرسال رسالة إلى حبيبة من حبيباته ، أو إزعاج بيتٍ من بيوت أعدائه ، حتى أننا حرقنا باب بقالية جارنا حين منع فوزي من إطلاق الصواريخ النارية قرب دكانه .
(طاروق) حينّا مشهور جداً ، فهو قديم من زمن الاستعمار الفرنسي ، لا أحد يجرؤ على فتحه ، حتى عمال البلدية كانوا يتجنبون فتحه بعد حادثة العامل المنحوس الذي حاول فتح (الطاروق)، رافضاً توسلات الحيّ فحاول فتحه.
صرخة العامل المنحوس، تناقلتها الألسن ، كحديث متواتر أو تاريخ مهم نُقل إلينا وطُلب منّا نقله ، لذا قلنا جميعاً لفوزي:
- ولكن (الطاروق) مسكون!؟
ضحك فوزي وأشعل سيجارةً، راقبنا جمرتها، وطريقة زفره للدخان ،
وقال :
- غلط العامل المنحوس ، رفضه للطريقة المثلى للدخول.
تسربت شائعات كثيرة، كلها تدّل على أن نفراً من الشياطين استوطنوا( الطاروق) ، وكان ما حصل للعامل المنحوس بسبب ذلك، إلا أن البلدية نجحت فيما بعد بسدّ منافذه، وفتح مجرى أخر للصرف الصحي باستعمال أنابيب بيتونية ، بعد تبرع أحد أفراد الحيّ بهدم جزء من بيته لتغير مسرى الطريق الجديد .
وحين كررنا السؤال بصيغة مختلفة عن كيفية الدخول ، ضحك وقال :
- قرأت كتابا يقول بأن طريقة الدخول الى عالم الشياطين ، نثر الملح حول الباب، والدوران ثلاثين مرة، عندها يظهر دخان مثل الضباب، فيكون بدء الإذن بالدخول، أو ألسنة نار تمنع الدخول.
أطلقنا عليه لقب (المشفتر) لأن جلّ حديثه عن النساء ، ويشرح لنا تفاصيل تجعلنا نضحك ونتغامز، وتجري حلاوتها في أعماقنا، فتجعلنا نتقبل قيادته لنا . فهو يبشرنا بعالم نقترب منه ، عالم الرجولة والنساء.
استنكرنا طلبه ، ويبدو أنه أحس تكاسلنّا، وهو بحاجة إلينا لنرفع بعض الحجارة التي غطّت (الطاروق) فقال مشجعاً:
- سمعت أن هناك قوارير عطر ، تجعل الصغير رجلاً، والعجوز شاباً، وتلحقه كل النساء، سأعطي لكل واحد منكم زجاجة عطر ..
كلمة تحولنا لرجال، كانت كافية لشحن طاقتنا، ودون تردد كنا نساعده في إزالة الحجارة الصغيرة على ضوء القمر في ليلة صيف ساخنة،ووقف البعض منّا يحاول التغطية بتصنّع اللعب كي لا ينتبه أحد من الحيّ بما نفعله..وإن كانوا يدركون بأننا لن نقترب لتوارث الخبر عنه .وبعد دقائق من العمل، تبين لنّا الغطاء المعدني لما أزلنّا بعض الحجارة ،عندها توقف فوزي وطلب منا الابتعاد والمراقبة.
نثر فوزي الملح حول (الطاروق) ،وفتل فتلة واحدة..الثانية ..الثالثة ..وبدأنا نعد ، بهمسٍ نُسمع أنفسنا..وبدأ فوزي يُسرع الوتيرة، وأغمضت كي أتغلب على الدوخة التي أصابتني جراء المراقبة والعد، ولم أفتح عينني إلا لحظة سماع صوت مطب، أو سقوط، وحين فتحت عيني، كان لفحة من الغبار، ولم يكن فوزي موجوداً ..
التفت إلى رفاقي وسألتهم:
- هل دخل ؟
- ......
وعدت اسأل:
- هل هرب؟
- ....
- كم لفة دار ؟
- ....
كان السكوت هو الجواب ، اكتشفت أن الكل كان مغمضاً عينيه ، فلم نعرف كم لفة دار ، وما الذي حدث بعد ذلك؟
ولم يجرؤ أحد منا الاقتراب من (الطاروق) .وهربنا إلى بيوتنا ناقضين عهدنا بعدم الكشف عن السرّ.
اجتمع أهالي الحيّ على صياح أم فوزي المطلّقة ، تبكي ولدها الوحيد ، و اتفقوا على الانتظار حتى الصباح ، وإخبار البلدية إن لم يظهر . فعدنا مع أهالينا والصفعات تسبق كلامهم ، وأمضينا الليلة على تبريد أمهاتنا لأجسادنا المعاقبة ..
طبعا اختفى فوزي،ولم تنجح البلدية في كشف الطاروق كاملاً واكتفت بالفحص الخارجي وقالت ( لا يمكن أن يكون هنا، فلا يوجد أثر لإنسان أو حتى حيوان )!.
ماتت أم فوزي بحسرة فقيدها ، ولم نجرؤ على فتح السيرة جرّاء تهديد الأهالي لنا ، فكنا حتى فيما بيننا نتجاهل سيرته وإن حصل حديث عنه نكتفي بلقبه ، ونجتنب( الطاروق) الذي اكتسب لقباً جديداً على لسان البقال لماّ قال:
- الطاروق ابتلع المشفتر .
فأصبح اسمه (طاروق) المشفتر.
***
-2-
حين أكملتُ عدد الدورات .. لم أصدق ما جرى ، كأني سقطت من علو، ففقدت الوعي، سمعت همساً و أصواتاً ميّزتها، تنادي عليّ ،تسأل عنّي، إلا أني لم أقو على الإجابة ، وحين لم يظهر الملكان أدركت أنني لم أمت بعد ، مع أني أحسست بخفة جسمي ، وتحرر حواسي من جسدي ، عرفت هذا من الذي بدأت أراه ، وأسمعه ، وأشمّه.
كنت مصراً على دخول مخدعها ، زوجة البقال الفاتنة ، الساحرة ، بمشيتها ، ورائحتها وقوامها ،خاصة نهدها الكاعب ، وجيدها الدقيق ، وردفها المكور ، لمحتها مرة وهي ترمي الزبالة من باب بيتها ، كان الفجر في يوم قائظ ، وكنت عائداً من سهرة ، لمحت معصمها الأبيض الملون بالذهب ،وعنقها المكلل بالذهب ، أدركت لحظتها جمال الذهب، وكأنها تفاجأت بي ، فأسرّها شكلي ، عرفت هذا من تركها باب الدار مفتوحاً، تُخرجُ القمامة على دفعات ، فرأيت اهتزاز صدرها في الإقبال ، وارتجاج ردفيها في الأدبار ، وحين رمت أخر كومة انحنت فرأيت النهدين متحررين، كمنفاخين ينتظران يدي طفل تلعبان بهما، وكدت أكون ذلك الطفل المدلل لولا البقال الذي انقضّ عليها وجرّها من شعرها ورمقني بغضب .
قررت وخططت الدخول إلى بيتها ، وحلمت كمشها عند المطبخ تغسل الصحون ، أو داخل الحمّام تنظف الجسد الذي نجسه البقال ، تخيلته الضخم السمين ، يخنقها بكرشه ، ويطرّشها بلعابه ، ويطمرها بشواربه الكثيفة البيضاء ، والمصفرة من الدخان، وأني الفارس القادم لإنقاذها .
كنت أعرف من الحارة ، أن الطاروق القديم له منفذ الى الطاروق الجديد، وأنني عبر الطاروق أصل إلى بيتها. وقصة الطاروق خرافة زرعها جدّ البقال ، لما استولى على البيت من ضابط فرنسي هرب بعد الجلاء ،بحجة أنه صاحب البيت، ويقال أن مالك البيت الحقيقي خبأ كنوزه الذهبية في أرض الدار أبان الاحتلال الفرنسي، وحين حاول جدّ البقال أخراج الكنز، أُصيب بمسّ من الجن الذين تولوا حراسة الكنز، الذي يصبح ملكاً لهم بحكم العادة بعد أربعين سنة من الدفن.
- فوزي ، لقد فعلتها أخيراً؟
أدهشني سماع الصوت وعدم رؤية صاحبه، وأن شعرت بوجوده
- من أنت ؟
- وهل يفيدك معرفتي؟ ستكتشف أشياء تهمّك أكثر من معرفتي.
لم أعرف مصدر الصوت ، ولا أعرف كيف أصفه ، كان يدخل القلب مباشرة ، فبدأت أرى دوائر ملونة ، بألوان قوس قزح ، حمراء ، زرقاء ، صفراء ، خضراء ، بيضاء، سوداء ، دوائر بنية وذهبية، دوائر رمادية وأخرى فضية ، ورأيت هذه الدوائر تجتمع و تفترق ، تتقاتل أو تتناسل ، تتحد أو تنفصل ، أحياناً أرى الدوائر ثنائية، وأحيانا ثلاثية،رباعية ، خماسية ، سداسية ، تسير مع بعضها كتلة واحدة تتشاجر مع بعضها أحياناً وتتصافح أحياناً أخرى ..
لم أشعر بجوع أو عطش، ولا تعب أو ارهاق ، ولا سعادة أو قوة ، كان فقط شعور أني بدأت أبصر ، أرى دوائر ملونة، تحيط بكتل متحركة، وأكثر ما تأثرت به ، لحظة رؤية دوائر تنفصل عن الكتلة، فتلمع شرارة قوية، أدرك أنني لو رأيتها في غير هذا الظرف لعميت، بل لحرقت من شدة وهجها .
لم أعرف طول النفق ، ولكني أدرك جيداً بأني مشيت طويلاً، كمن جاب الأرض على قدميه ، ولم أر طول النفق أو شكله أو ما يحويه، فالدوائر تشغلني وتهديني الطريق، حتى وصلت إلى نفق كريه الرائحة ، وباب خشبي قديم، رفسته ففتح، لأجد نفسي في العراء ..
أدركت لحظتها ، أني خرجت من النفق ، وأني فشلت في إيجاد الكنز، أو الوصول إلى بيت زوجة البقال، ولكني فرحت باكتسابي ميزة رؤية الدوائر، وعلمت لحظتها حين أقبلت سيارة، بأن الكتل التي تحيط بها الدوائر هي كتل بشرية ، عرفت هذا لما توقف السائق، فرأيت دائرة بيضاء حول رأسه.
تطلع نحوي وسألني :
-إلى أين؟!
فقلت له :
- حارة الطاروق.
***
-3-
قلت في سرّي:
وما الذي يمنع تكرار الحدث ، فأهل الكهف ناموا ثلاثمئة عام قبل أن يفيقوا ، وعزيز رقد مئة عام قبل عودته ، والنبي الياس والخضر عليهما السلام يلتقيان مرة كل عام في مكة المكرمة ، والدجال مازال حبيساً يتنظر ساعة خروجه ، ولما لا يكون فوزي نام أربعين سنة وعاد ؟!.
لم أصدق حين قُرع جرسُ المنزل ليلاً ، بأن فوزي المشفتر هو الطارق ، عرفته من شكله الذي لم ولن أنساه ..إنه هو، بصوته ، وشحمه ، حتى بنطاله (الشلصتو) وقميصه (المخنصر)، ونطاقه الذي حلمت به كثيراً ولم أرتده يوماً ، ذلك النطاق العريض، حين ملكت ثمنه والقرار في ارتدائه كانت موضته قد انتهت .
ضحك فوزي حين رأني أفتح له الباب مذعوراً ، مبهوتاً ، وقال:
- كنتُ أعلمُ أنكَ الوحيد الباقي هنا .
- فوزي؟!
- دعني أدخل أولاً .
كنت أظنه حلماً، نبهت نفسيّ أكثر من مرة ، وفوزي يذكّرني بمغامراتنا
وبالبقّال الذي توفي، وزوجته الصبية التي تركت البيت بعد أخذ حصتها من الوراثة التي تقاسمها أخوة البقال ، حولوا البيت إلى بناء من خمسة طوابق.
-لقد تغير كلّ شيء يا فوزي.
- الملابس والأبنية فقط ، فأنت كما أنت.
-مضت أربعون عاما على الحكاية؟
- حسب زمنك هنا ، أما أنا فلم أشعر بالزمن إلا ثواني.
أضحكني فوزي كثيراً ، بعد أن قص لي حكايته التي ذكرتها على لسانه ، وطلبت منه أن يدخل الحمام ، وقد جهزت له زوجتي غرفة الضيوف ، و أحضرت له لباس أحد الأولاد ، وقد استنكرت صداقة شاب من عمر أولادي، فقلت لها أنه ابن أحد رفاقي القدامى ، وأنه قادم من بلاد بعيدة.
بعد الحمام ، رفض تناول شيء ، وقال :
- دعني أنام حتى أفيق بنفسي ، لا تزعجني ، فأني لم أنم منذ تلك الليلة .
تركته يتمدد على الفراش الذي أعد له، غط في النوم لحظة وضع رأسه على الوسادة .عدت إلى غرفة النوم، أدخن على غير عادتي ..
كنت مشتتاً، بين الماضي والحاضر والمستقبل ، ففوزي ظاهرة حقيقة أمامي ، عاد بقصة ليست أغرب من شكله الذي لم يتغير ، كأن زمن اختفائه لا يتجاوز الساعات وليس أربعين سنة .
قلقي شعرت به زوجتي ، حين رجعتُ من تفقدي لفوزي للمرة الثالثة مخافة أن تتكرر ظاهرة أهل الكهف ، فيموت دون أن افهم منه تفاصيل الدوائر التي يراها ، لعل الفضول الأكبر معرفة لون دائرتي وشكلها ، فأنا لم أصدق عندما قال لي أنه لا يرى دوائر الأحباب.
نادراً ما اشعر بثقل الوقت ، خاصة في الليل ، مرّت سنوات طويلة ولم أشعر فيها بقلق أو أرق ، وعادة ما أغوص في النوم لحظة دفن رأسي تحت الوسادة ، أما الليلة وبعد عودة فوزي ، كان صعبا ً على التحقيق.
فكرت في جمع أصدقائي ، أفراد شلة عصابة فوزي ، أو حتى من تبقى ممن يتذكر فوزي وهم كثر بلا شك ، ولكني لا أعرف إلا القليل ، فبعض أعضاء الشلة رحلوا عن المدنية ، وبعضهم عن الحيّ ، وبعضهم عن الحياة . ما أقسى لحظة استرجاع الماضي، وما أصعب عودة الماضي...
-لا هذا كثير..
قالت زوجتي وتابعت:
- أرق ودخان وغريب ؟ ..أريد تفسيراً..!
لا فائدة من التهرب ، عليّ أن أشارك أحدهم في هذا الحمل، ومن أفضل من زوجتي فقلت :
-حسنا ً، ولكن عليك الصبر حتى صباح الغد .
- لا ..الآن أصرُّ أكثر.
- تعرفين قصة أهل الكهف؟
- ومن لا يعرف قصتهم ؟
- أُريدكِ أن تختصريها لي .
- جماعة من المؤمنين هربوا من كافر ، أوت كهفاً، فأنامهم الله ثلاثة قرون ، ثم بعثهم وقد تغير الحال ..وما دخل قصتهم بموضوعنا؟!.
- تعرفين أن لي صديقاً اسمه فوزي.
- ذلك الذي ابتلعه الطاروق وماتت أمه حسرة عليه؟
- نعم ؟
- وما الذي ذكّرك به؟!
- إنه هو .
- من؟!
- الذي ينام في غرفة الضيوف.
لم تصرخ ، أو تلطم خديها، بل حدّقت في وجهي ، تتفحصني
- تقصد أحد أقاربه؟
- بل هو ؟
- ولكن ؟
- لا أعرف ، أنا مثلك ، ليتني احتفظ بصورة له، لأثبت لك من هو..سننتظر حتى الصباح ،سنفهم منه ، ونتأكد.
زوجتي قوية ، مؤمنة، ولا تخاف الجن ، ولأول مرة أرى القلق والخوف في عينيها ، ليس المهم تبرير ذلك الخوف عليّ أو من فوزي ، المهم رأيت الخوف والقلق ، فزاد خوفي وقلقي .
- يقول أنه عاد من عالم غريب لم يشعر به إلا ثواني .
- قد يكون غشاشاً جاء ليسرقنا.
- ماذا تقصدين ؟
- يأتي بعد أربعين عاما ولم يتغير كما هو ؟ أهل الكهف تغيروا.
- ولكنه يعرف تفاصيل مدهشة عن حياتي وتاريخ الحيّ .
- سأحضر لك فنجان قهوة.
منطقية زوجتي ، ولكن ما ذكّرني به فوزي لا يمكن لأحد غيرنا أن يعرفه.
فيوم تبولي مخافة البقّال اكتشاف الرسالة التي أرسلها فوزي لا يعرفها أحد سواه ..فذكّرني بها كما ذكّرني عن ذلك المستأجر الذي حل يوما وكان يعتنق ديانة غريبة ، رسم فوزي حوله دائرة بالطبشور، فظلّ يصرخ حتى مسحنا الدائرة ، وقال:
- اليوم بعد رؤيتي للدوائر اكتشفت أن لكل إنسان دائرة لا يستطيع الخروج منها....الدوائر تطلب منا عدم الخروج وتحذرنا .. هذه الدوائر على مقاييس البشر، فتجدها تتقاطع مع بعضها فتتوافق ، أو تتجاور مع بعضها فتتشاجر ، أو تتنافر ، فكل معلومة ضمن الدائرة تكون موافقة للجميع وما خارجها مرفوض ..
انضمت زوجتي إلى أرقي ، سهرت معي ، شربنا القهوة وتناوبنا على تفقد الضيف فكان غارقاً في النوم، فارداً ذراعيه كأنه يسبح على ظهره
على سطح بركة ماء لا فراش .
الدوائر شغلت ذهني حتى الفجر ، فوزي يعود بعد أربعين سنة،وقد أتقن لغة الدوائر ، سبقني مرة أخرى ، أنا الدارس ، صاحب شهادة عليا ، وأب لأولاد ناجحين ، يأتي فوزي بشبابه وبفكر لا يسبقه أحد..!؟
هل ما حصل عليه بقوة إيمانه أم مغامراته؟! وربما عظمة فضوله وطموحه..!؟..وبدأت أفكر بالدوائر ..الذرة تتألف من نواة وتدور حولها الالكترونات وفق مدارات ..الشمس وتدور حولها الكواكب
نهد المرأة دائري ، الحلمة مكورة ، نحن ندور حول الشمس والقمر يدور حولنا ..تذكرت صديقي الذي رفض الزواج من ابنة ثري وقال يومها: (تعلمنا ان الالكترونات تدور في مداراتها وان حاولت الانتقال من مدار أدنى إلى أعلى تحتاج إلى طاقة، وإن انتقلت من مدار أعلى إلى مدار أدنى تعطي طاقة ..وأنا غير قادر على اكتساب الطاقة، ولا هي مستعدة للتنازل عن طاقتها) ..ضحكنا يومها منه ..ولكن فوزي يوافقه ..
اجفلتني سعلة فوزي الغريبة ، إنها نفس السعلة حين يمرض، ويضحك حين نقول له بسبب الدخان ، ويقول بأنها كذبة اخترعها الكبار حتى لا نصير كباراً .
تكرر السعال ، هرولت إلى الغرفة مذعورا ً، لاكتشف معجزة أخرى
وجدت فوزي مرتفعا عن الفراش ، أو هكذا تهيأ لي ، كان هناك حدّ فاصل هو الفراغ بين جسد فوزي والفراش ..ولم يك يسعل ، حدّقت في وجهه، شعرت بنفس الهيبة، والخوف منه ، رجعت إلى زوجتي، قبلتُها وعاشرتها، علّني أفرغ خوفي و قلقي مع شهوتي التي خمدت ونار الدوائر مستمرة .
أذان الفجر ونّس وحشتي ، دفعني إلى الإغتسال للذهاب إلى المسجد. اطلب من ربي كشف سرّ الليلة. صببتُ الماء على عجل، دخلت زوجتي مبتسمة :
- لقد رحل صاحبك !
لم أصدق، ارتديت ملابسي على عجل و اقتحمت غرفة الضيوف، تنهدت كان نائماً، باسطاً ذراعيه كأنه يسبح، والمسافة الفاصلة مع الفراش موجودة ..عدت إلى غرفتي ، فوجدتها تحمل شيئاً بيديها وقالت:
- طلب مني أن أهديك هذا النطاق .
أمسكت بالنطاق وعدت ثانية إليه، فوجدته قد استيقظ، وقد ارتدى ملابس بيضاء ، همس مبتسماً:
- لن يصدقني غيرك ، فلا تقل لهم.
لم أجب ولم أصدّه ، رأيته يخرج من الباب ، دون أن يدوس على الأرض فلحقته ، كان يسير بهدوء وبخفة نحو الطاروق، وما أن وصل، التفت إليّ وقد أصبح فوق الطاروق، رفع ذراعه ملوحاً ، و بدأ يغوص في الطاروق مثل الغاطس في الرمال المتحركة حتى اختفى..
ربطت خصري بنطاقه واتجهت نحو المسجد أصلي صلاة الفجر جماعة .
-1-
جمعنا فوزي ليلة اختفائه وقال لنا :
- الليلة سأفتحُ (الطاروق) ،وأرشُ الملحَ حوله، وسأدخل ، إن رأيتم الضباب انهزموا ، وإن سمعتم صراخي تجاهلوا ،المهم انسوني حتى الصباح ، بعدها فتشوا عني.
صمت فوزي محدّقاً في كل فردٍ منّا ، نحن أفراد عصابته الصغيرة ، كنا نهابه ونستلذ بصحبته ، لذا كانت طلباته مجابة دوماً ، في إرسال رسالة إلى حبيبة من حبيباته ، أو إزعاج بيتٍ من بيوت أعدائه ، حتى أننا حرقنا باب بقالية جارنا حين منع فوزي من إطلاق الصواريخ النارية قرب دكانه .
(طاروق) حينّا مشهور جداً ، فهو قديم من زمن الاستعمار الفرنسي ، لا أحد يجرؤ على فتحه ، حتى عمال البلدية كانوا يتجنبون فتحه بعد حادثة العامل المنحوس الذي حاول فتح (الطاروق)، رافضاً توسلات الحيّ فحاول فتحه.
صرخة العامل المنحوس، تناقلتها الألسن ، كحديث متواتر أو تاريخ مهم نُقل إلينا وطُلب منّا نقله ، لذا قلنا جميعاً لفوزي:
- ولكن (الطاروق) مسكون!؟
ضحك فوزي وأشعل سيجارةً، راقبنا جمرتها، وطريقة زفره للدخان ،
وقال :
- غلط العامل المنحوس ، رفضه للطريقة المثلى للدخول.
تسربت شائعات كثيرة، كلها تدّل على أن نفراً من الشياطين استوطنوا( الطاروق) ، وكان ما حصل للعامل المنحوس بسبب ذلك، إلا أن البلدية نجحت فيما بعد بسدّ منافذه، وفتح مجرى أخر للصرف الصحي باستعمال أنابيب بيتونية ، بعد تبرع أحد أفراد الحيّ بهدم جزء من بيته لتغير مسرى الطريق الجديد .
وحين كررنا السؤال بصيغة مختلفة عن كيفية الدخول ، ضحك وقال :
- قرأت كتابا يقول بأن طريقة الدخول الى عالم الشياطين ، نثر الملح حول الباب، والدوران ثلاثين مرة، عندها يظهر دخان مثل الضباب، فيكون بدء الإذن بالدخول، أو ألسنة نار تمنع الدخول.
أطلقنا عليه لقب (المشفتر) لأن جلّ حديثه عن النساء ، ويشرح لنا تفاصيل تجعلنا نضحك ونتغامز، وتجري حلاوتها في أعماقنا، فتجعلنا نتقبل قيادته لنا . فهو يبشرنا بعالم نقترب منه ، عالم الرجولة والنساء.
استنكرنا طلبه ، ويبدو أنه أحس تكاسلنّا، وهو بحاجة إلينا لنرفع بعض الحجارة التي غطّت (الطاروق) فقال مشجعاً:
- سمعت أن هناك قوارير عطر ، تجعل الصغير رجلاً، والعجوز شاباً، وتلحقه كل النساء، سأعطي لكل واحد منكم زجاجة عطر ..
كلمة تحولنا لرجال، كانت كافية لشحن طاقتنا، ودون تردد كنا نساعده في إزالة الحجارة الصغيرة على ضوء القمر في ليلة صيف ساخنة،ووقف البعض منّا يحاول التغطية بتصنّع اللعب كي لا ينتبه أحد من الحيّ بما نفعله..وإن كانوا يدركون بأننا لن نقترب لتوارث الخبر عنه .وبعد دقائق من العمل، تبين لنّا الغطاء المعدني لما أزلنّا بعض الحجارة ،عندها توقف فوزي وطلب منا الابتعاد والمراقبة.
نثر فوزي الملح حول (الطاروق) ،وفتل فتلة واحدة..الثانية ..الثالثة ..وبدأنا نعد ، بهمسٍ نُسمع أنفسنا..وبدأ فوزي يُسرع الوتيرة، وأغمضت كي أتغلب على الدوخة التي أصابتني جراء المراقبة والعد، ولم أفتح عينني إلا لحظة سماع صوت مطب، أو سقوط، وحين فتحت عيني، كان لفحة من الغبار، ولم يكن فوزي موجوداً ..
التفت إلى رفاقي وسألتهم:
- هل دخل ؟
- ......
وعدت اسأل:
- هل هرب؟
- ....
- كم لفة دار ؟
- ....
كان السكوت هو الجواب ، اكتشفت أن الكل كان مغمضاً عينيه ، فلم نعرف كم لفة دار ، وما الذي حدث بعد ذلك؟
ولم يجرؤ أحد منا الاقتراب من (الطاروق) .وهربنا إلى بيوتنا ناقضين عهدنا بعدم الكشف عن السرّ.
اجتمع أهالي الحيّ على صياح أم فوزي المطلّقة ، تبكي ولدها الوحيد ، و اتفقوا على الانتظار حتى الصباح ، وإخبار البلدية إن لم يظهر . فعدنا مع أهالينا والصفعات تسبق كلامهم ، وأمضينا الليلة على تبريد أمهاتنا لأجسادنا المعاقبة ..
طبعا اختفى فوزي،ولم تنجح البلدية في كشف الطاروق كاملاً واكتفت بالفحص الخارجي وقالت ( لا يمكن أن يكون هنا، فلا يوجد أثر لإنسان أو حتى حيوان )!.
ماتت أم فوزي بحسرة فقيدها ، ولم نجرؤ على فتح السيرة جرّاء تهديد الأهالي لنا ، فكنا حتى فيما بيننا نتجاهل سيرته وإن حصل حديث عنه نكتفي بلقبه ، ونجتنب( الطاروق) الذي اكتسب لقباً جديداً على لسان البقال لماّ قال:
- الطاروق ابتلع المشفتر .
فأصبح اسمه (طاروق) المشفتر.
***
-2-
حين أكملتُ عدد الدورات .. لم أصدق ما جرى ، كأني سقطت من علو، ففقدت الوعي، سمعت همساً و أصواتاً ميّزتها، تنادي عليّ ،تسأل عنّي، إلا أني لم أقو على الإجابة ، وحين لم يظهر الملكان أدركت أنني لم أمت بعد ، مع أني أحسست بخفة جسمي ، وتحرر حواسي من جسدي ، عرفت هذا من الذي بدأت أراه ، وأسمعه ، وأشمّه.
كنت مصراً على دخول مخدعها ، زوجة البقال الفاتنة ، الساحرة ، بمشيتها ، ورائحتها وقوامها ،خاصة نهدها الكاعب ، وجيدها الدقيق ، وردفها المكور ، لمحتها مرة وهي ترمي الزبالة من باب بيتها ، كان الفجر في يوم قائظ ، وكنت عائداً من سهرة ، لمحت معصمها الأبيض الملون بالذهب ،وعنقها المكلل بالذهب ، أدركت لحظتها جمال الذهب، وكأنها تفاجأت بي ، فأسرّها شكلي ، عرفت هذا من تركها باب الدار مفتوحاً، تُخرجُ القمامة على دفعات ، فرأيت اهتزاز صدرها في الإقبال ، وارتجاج ردفيها في الأدبار ، وحين رمت أخر كومة انحنت فرأيت النهدين متحررين، كمنفاخين ينتظران يدي طفل تلعبان بهما، وكدت أكون ذلك الطفل المدلل لولا البقال الذي انقضّ عليها وجرّها من شعرها ورمقني بغضب .
قررت وخططت الدخول إلى بيتها ، وحلمت كمشها عند المطبخ تغسل الصحون ، أو داخل الحمّام تنظف الجسد الذي نجسه البقال ، تخيلته الضخم السمين ، يخنقها بكرشه ، ويطرّشها بلعابه ، ويطمرها بشواربه الكثيفة البيضاء ، والمصفرة من الدخان، وأني الفارس القادم لإنقاذها .
كنت أعرف من الحارة ، أن الطاروق القديم له منفذ الى الطاروق الجديد، وأنني عبر الطاروق أصل إلى بيتها. وقصة الطاروق خرافة زرعها جدّ البقال ، لما استولى على البيت من ضابط فرنسي هرب بعد الجلاء ،بحجة أنه صاحب البيت، ويقال أن مالك البيت الحقيقي خبأ كنوزه الذهبية في أرض الدار أبان الاحتلال الفرنسي، وحين حاول جدّ البقال أخراج الكنز، أُصيب بمسّ من الجن الذين تولوا حراسة الكنز، الذي يصبح ملكاً لهم بحكم العادة بعد أربعين سنة من الدفن.
- فوزي ، لقد فعلتها أخيراً؟
أدهشني سماع الصوت وعدم رؤية صاحبه، وأن شعرت بوجوده
- من أنت ؟
- وهل يفيدك معرفتي؟ ستكتشف أشياء تهمّك أكثر من معرفتي.
لم أعرف مصدر الصوت ، ولا أعرف كيف أصفه ، كان يدخل القلب مباشرة ، فبدأت أرى دوائر ملونة ، بألوان قوس قزح ، حمراء ، زرقاء ، صفراء ، خضراء ، بيضاء، سوداء ، دوائر بنية وذهبية، دوائر رمادية وأخرى فضية ، ورأيت هذه الدوائر تجتمع و تفترق ، تتقاتل أو تتناسل ، تتحد أو تنفصل ، أحياناً أرى الدوائر ثنائية، وأحيانا ثلاثية،رباعية ، خماسية ، سداسية ، تسير مع بعضها كتلة واحدة تتشاجر مع بعضها أحياناً وتتصافح أحياناً أخرى ..
لم أشعر بجوع أو عطش، ولا تعب أو ارهاق ، ولا سعادة أو قوة ، كان فقط شعور أني بدأت أبصر ، أرى دوائر ملونة، تحيط بكتل متحركة، وأكثر ما تأثرت به ، لحظة رؤية دوائر تنفصل عن الكتلة، فتلمع شرارة قوية، أدرك أنني لو رأيتها في غير هذا الظرف لعميت، بل لحرقت من شدة وهجها .
لم أعرف طول النفق ، ولكني أدرك جيداً بأني مشيت طويلاً، كمن جاب الأرض على قدميه ، ولم أر طول النفق أو شكله أو ما يحويه، فالدوائر تشغلني وتهديني الطريق، حتى وصلت إلى نفق كريه الرائحة ، وباب خشبي قديم، رفسته ففتح، لأجد نفسي في العراء ..
أدركت لحظتها ، أني خرجت من النفق ، وأني فشلت في إيجاد الكنز، أو الوصول إلى بيت زوجة البقال، ولكني فرحت باكتسابي ميزة رؤية الدوائر، وعلمت لحظتها حين أقبلت سيارة، بأن الكتل التي تحيط بها الدوائر هي كتل بشرية ، عرفت هذا لما توقف السائق، فرأيت دائرة بيضاء حول رأسه.
تطلع نحوي وسألني :
-إلى أين؟!
فقلت له :
- حارة الطاروق.
***
-3-
قلت في سرّي:
وما الذي يمنع تكرار الحدث ، فأهل الكهف ناموا ثلاثمئة عام قبل أن يفيقوا ، وعزيز رقد مئة عام قبل عودته ، والنبي الياس والخضر عليهما السلام يلتقيان مرة كل عام في مكة المكرمة ، والدجال مازال حبيساً يتنظر ساعة خروجه ، ولما لا يكون فوزي نام أربعين سنة وعاد ؟!.
لم أصدق حين قُرع جرسُ المنزل ليلاً ، بأن فوزي المشفتر هو الطارق ، عرفته من شكله الذي لم ولن أنساه ..إنه هو، بصوته ، وشحمه ، حتى بنطاله (الشلصتو) وقميصه (المخنصر)، ونطاقه الذي حلمت به كثيراً ولم أرتده يوماً ، ذلك النطاق العريض، حين ملكت ثمنه والقرار في ارتدائه كانت موضته قد انتهت .
ضحك فوزي حين رأني أفتح له الباب مذعوراً ، مبهوتاً ، وقال:
- كنتُ أعلمُ أنكَ الوحيد الباقي هنا .
- فوزي؟!
- دعني أدخل أولاً .
كنت أظنه حلماً، نبهت نفسيّ أكثر من مرة ، وفوزي يذكّرني بمغامراتنا
وبالبقّال الذي توفي، وزوجته الصبية التي تركت البيت بعد أخذ حصتها من الوراثة التي تقاسمها أخوة البقال ، حولوا البيت إلى بناء من خمسة طوابق.
-لقد تغير كلّ شيء يا فوزي.
- الملابس والأبنية فقط ، فأنت كما أنت.
-مضت أربعون عاما على الحكاية؟
- حسب زمنك هنا ، أما أنا فلم أشعر بالزمن إلا ثواني.
أضحكني فوزي كثيراً ، بعد أن قص لي حكايته التي ذكرتها على لسانه ، وطلبت منه أن يدخل الحمام ، وقد جهزت له زوجتي غرفة الضيوف ، و أحضرت له لباس أحد الأولاد ، وقد استنكرت صداقة شاب من عمر أولادي، فقلت لها أنه ابن أحد رفاقي القدامى ، وأنه قادم من بلاد بعيدة.
بعد الحمام ، رفض تناول شيء ، وقال :
- دعني أنام حتى أفيق بنفسي ، لا تزعجني ، فأني لم أنم منذ تلك الليلة .
تركته يتمدد على الفراش الذي أعد له، غط في النوم لحظة وضع رأسه على الوسادة .عدت إلى غرفة النوم، أدخن على غير عادتي ..
كنت مشتتاً، بين الماضي والحاضر والمستقبل ، ففوزي ظاهرة حقيقة أمامي ، عاد بقصة ليست أغرب من شكله الذي لم يتغير ، كأن زمن اختفائه لا يتجاوز الساعات وليس أربعين سنة .
قلقي شعرت به زوجتي ، حين رجعتُ من تفقدي لفوزي للمرة الثالثة مخافة أن تتكرر ظاهرة أهل الكهف ، فيموت دون أن افهم منه تفاصيل الدوائر التي يراها ، لعل الفضول الأكبر معرفة لون دائرتي وشكلها ، فأنا لم أصدق عندما قال لي أنه لا يرى دوائر الأحباب.
نادراً ما اشعر بثقل الوقت ، خاصة في الليل ، مرّت سنوات طويلة ولم أشعر فيها بقلق أو أرق ، وعادة ما أغوص في النوم لحظة دفن رأسي تحت الوسادة ، أما الليلة وبعد عودة فوزي ، كان صعبا ً على التحقيق.
فكرت في جمع أصدقائي ، أفراد شلة عصابة فوزي ، أو حتى من تبقى ممن يتذكر فوزي وهم كثر بلا شك ، ولكني لا أعرف إلا القليل ، فبعض أعضاء الشلة رحلوا عن المدنية ، وبعضهم عن الحيّ ، وبعضهم عن الحياة . ما أقسى لحظة استرجاع الماضي، وما أصعب عودة الماضي...
-لا هذا كثير..
قالت زوجتي وتابعت:
- أرق ودخان وغريب ؟ ..أريد تفسيراً..!
لا فائدة من التهرب ، عليّ أن أشارك أحدهم في هذا الحمل، ومن أفضل من زوجتي فقلت :
-حسنا ً، ولكن عليك الصبر حتى صباح الغد .
- لا ..الآن أصرُّ أكثر.
- تعرفين قصة أهل الكهف؟
- ومن لا يعرف قصتهم ؟
- أُريدكِ أن تختصريها لي .
- جماعة من المؤمنين هربوا من كافر ، أوت كهفاً، فأنامهم الله ثلاثة قرون ، ثم بعثهم وقد تغير الحال ..وما دخل قصتهم بموضوعنا؟!.
- تعرفين أن لي صديقاً اسمه فوزي.
- ذلك الذي ابتلعه الطاروق وماتت أمه حسرة عليه؟
- نعم ؟
- وما الذي ذكّرك به؟!
- إنه هو .
- من؟!
- الذي ينام في غرفة الضيوف.
لم تصرخ ، أو تلطم خديها، بل حدّقت في وجهي ، تتفحصني
- تقصد أحد أقاربه؟
- بل هو ؟
- ولكن ؟
- لا أعرف ، أنا مثلك ، ليتني احتفظ بصورة له، لأثبت لك من هو..سننتظر حتى الصباح ،سنفهم منه ، ونتأكد.
زوجتي قوية ، مؤمنة، ولا تخاف الجن ، ولأول مرة أرى القلق والخوف في عينيها ، ليس المهم تبرير ذلك الخوف عليّ أو من فوزي ، المهم رأيت الخوف والقلق ، فزاد خوفي وقلقي .
- يقول أنه عاد من عالم غريب لم يشعر به إلا ثواني .
- قد يكون غشاشاً جاء ليسرقنا.
- ماذا تقصدين ؟
- يأتي بعد أربعين عاما ولم يتغير كما هو ؟ أهل الكهف تغيروا.
- ولكنه يعرف تفاصيل مدهشة عن حياتي وتاريخ الحيّ .
- سأحضر لك فنجان قهوة.
منطقية زوجتي ، ولكن ما ذكّرني به فوزي لا يمكن لأحد غيرنا أن يعرفه.
فيوم تبولي مخافة البقّال اكتشاف الرسالة التي أرسلها فوزي لا يعرفها أحد سواه ..فذكّرني بها كما ذكّرني عن ذلك المستأجر الذي حل يوما وكان يعتنق ديانة غريبة ، رسم فوزي حوله دائرة بالطبشور، فظلّ يصرخ حتى مسحنا الدائرة ، وقال:
- اليوم بعد رؤيتي للدوائر اكتشفت أن لكل إنسان دائرة لا يستطيع الخروج منها....الدوائر تطلب منا عدم الخروج وتحذرنا .. هذه الدوائر على مقاييس البشر، فتجدها تتقاطع مع بعضها فتتوافق ، أو تتجاور مع بعضها فتتشاجر ، أو تتنافر ، فكل معلومة ضمن الدائرة تكون موافقة للجميع وما خارجها مرفوض ..
انضمت زوجتي إلى أرقي ، سهرت معي ، شربنا القهوة وتناوبنا على تفقد الضيف فكان غارقاً في النوم، فارداً ذراعيه كأنه يسبح على ظهره
على سطح بركة ماء لا فراش .
الدوائر شغلت ذهني حتى الفجر ، فوزي يعود بعد أربعين سنة،وقد أتقن لغة الدوائر ، سبقني مرة أخرى ، أنا الدارس ، صاحب شهادة عليا ، وأب لأولاد ناجحين ، يأتي فوزي بشبابه وبفكر لا يسبقه أحد..!؟
هل ما حصل عليه بقوة إيمانه أم مغامراته؟! وربما عظمة فضوله وطموحه..!؟..وبدأت أفكر بالدوائر ..الذرة تتألف من نواة وتدور حولها الالكترونات وفق مدارات ..الشمس وتدور حولها الكواكب
نهد المرأة دائري ، الحلمة مكورة ، نحن ندور حول الشمس والقمر يدور حولنا ..تذكرت صديقي الذي رفض الزواج من ابنة ثري وقال يومها: (تعلمنا ان الالكترونات تدور في مداراتها وان حاولت الانتقال من مدار أدنى إلى أعلى تحتاج إلى طاقة، وإن انتقلت من مدار أعلى إلى مدار أدنى تعطي طاقة ..وأنا غير قادر على اكتساب الطاقة، ولا هي مستعدة للتنازل عن طاقتها) ..ضحكنا يومها منه ..ولكن فوزي يوافقه ..
اجفلتني سعلة فوزي الغريبة ، إنها نفس السعلة حين يمرض، ويضحك حين نقول له بسبب الدخان ، ويقول بأنها كذبة اخترعها الكبار حتى لا نصير كباراً .
تكرر السعال ، هرولت إلى الغرفة مذعورا ً، لاكتشف معجزة أخرى
وجدت فوزي مرتفعا عن الفراش ، أو هكذا تهيأ لي ، كان هناك حدّ فاصل هو الفراغ بين جسد فوزي والفراش ..ولم يك يسعل ، حدّقت في وجهه، شعرت بنفس الهيبة، والخوف منه ، رجعت إلى زوجتي، قبلتُها وعاشرتها، علّني أفرغ خوفي و قلقي مع شهوتي التي خمدت ونار الدوائر مستمرة .
أذان الفجر ونّس وحشتي ، دفعني إلى الإغتسال للذهاب إلى المسجد. اطلب من ربي كشف سرّ الليلة. صببتُ الماء على عجل، دخلت زوجتي مبتسمة :
- لقد رحل صاحبك !
لم أصدق، ارتديت ملابسي على عجل و اقتحمت غرفة الضيوف، تنهدت كان نائماً، باسطاً ذراعيه كأنه يسبح، والمسافة الفاصلة مع الفراش موجودة ..عدت إلى غرفتي ، فوجدتها تحمل شيئاً بيديها وقالت:
- طلب مني أن أهديك هذا النطاق .
أمسكت بالنطاق وعدت ثانية إليه، فوجدته قد استيقظ، وقد ارتدى ملابس بيضاء ، همس مبتسماً:
- لن يصدقني غيرك ، فلا تقل لهم.
لم أجب ولم أصدّه ، رأيته يخرج من الباب ، دون أن يدوس على الأرض فلحقته ، كان يسير بهدوء وبخفة نحو الطاروق، وما أن وصل، التفت إليّ وقد أصبح فوق الطاروق، رفع ذراعه ملوحاً ، و بدأ يغوص في الطاروق مثل الغاطس في الرمال المتحركة حتى اختفى..
ربطت خصري بنطاقه واتجهت نحو المسجد أصلي صلاة الفجر جماعة .