تساءل سيبيس: فيم قولك إن الإنسان لا ينبغي أن يستل حياته، وأنه يجب على الفيلسوف أن يُعدَّ نفسه ليلحق بالموتى؟
فأجاب سقراط: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس فهلا سمعتماه يتحدث عن هذا؟
إني يا سقراط لم أفهم قوله أبداً.
ليست كلماتي كذلك إلا صدى، ولكني شديد الرغبة في أن اروي ما سمعته، فالحق أني مادمت مرتحلاً إلى غير هذا المكان فيجب ألا يُشْغَلَ الفكرُ ويدور الحديث إلا حول هذا الرجل الذي أوشك أن أقوم به، وماذا عساي أن أفعل خيراً من هذا منذ الآن إلى أن تغرب الشمس؟.
إذن فحدثني يا سقراط، لماذا استقر الرأي على ألا يكون الانتحار حقاً مشروعاً؟ لقد سمعت فيلولاوس يقيناً يؤكد ذلك عندما كان يمكث بيننا في طيبة؛ وثم أناس آخرون يقولون مثل هذا القول، ولو أن أحداً منهم لم يستطع قط أن يفهمني ما يقول
فأجاب سقراط. ولكنك يجب أن تحاول الفهم ما استطعت، ولابد أن يأتي اليوم الذي تفهم فيه، أحسبك تعجب لماذا تشذ هذه الحالة وحدها، ومعظم الشرور قد تجيء بالخير عرضاً (لأنه أليس من الجائز أن يكون الموت كذلك أفضل من الحياة في بعض الظروف؟) وإذا كان خيراً للإنسان أن يموت، فما الذي يمنع أن يقدم لنفسه الخير بنفسه؛ ألزامٌ عليه أن ينتظر من غيره يد الإحسان؟
فقال سيبيس ضاحكاً في لغته الدُّورية القومية: أي وحق جوبتر!
فأجاب سقراط - إني أُسلّم بأن في هذا تناقضاً ظاهراً، ولكن قد لا يكون هذا التناقض حقيقياً، هناك مذهب جرت به الألسنة في الخفاء بأن الإنسان سجين، وليس له الحق في يفتح باب سجنه ليفر هارباً، إن ذلك إشكال عظيم لست أفهمه فهماً دقيقاً، ولكني أعتقد مع ذلك أن الآلهة هم أولياؤنا وأننا مِلْكٌ لهم، أفلست ترى ذلك؟
قال سيبيس - نعم، إني أوافق على ذلك.
- فلو أن ثوراً مثلاً مما تملك أنت أو حماراً، شاءت له إرادته أن يحيد بنفسه عن الطريق، على حين أنك لم تُشِرْ له برغبتك في وجوب موته، أفلا تسخط عليه، ثم ألا تعاقبه إن استطعت؟
فأجاب سيبيس - يقينا .
- وإذن فقد يكون في القول بأن الإنسان يجب أن ينتظر، وألا يُهلك حياته بنفسه، حتى يقضي الله فيه أمراً، كما فعل بي الآن، سندٌ من العقل.
قال سيبيس - نعم يا سقراط، إن في ذلك ولا ريب سنداً من العقل، ولكن كيف بعد هذا تستطيع أن توائم بين هذه العقيدة الصحيحة في ظاهرها وهي أن الله مولانا ونحن له عبيد، وبين ما كنا نضيفه إلى الفيلسوف من رغبة في الموت؟ أما أن يرغب من هم أبلغ الناس حكمة، في ترك هذا العمل الذي تحكمهم فيه الآلهة، وهو خير الحاكمين، فلا يسلم به العقل، لأنه يستحيل على صاحب الحكمة أن يظن بنفسه المقدرة، لو أطلقت له حرية العمل على أن يعني بنفسه أكثر مما تُعنى به الآلهة، ربما توهم ذلك المأفون، وقد يحتج بأن خيراً له أن يفر من سيده دون أن يضع في اعتباره بأن واجبه هو أن يثبت حتى النهاية، لا أن يفر من الخير فراراً لا حكمة فيه. أما الرجل الحكيم فلا أخاله إلا راغباً في أن يكون أبداً مع من هو خير منه. أنظر يا سقراط. فهذا يناقض ما قد قيل الساعة تواً، إذ يترتب على هذا الأساس أن يأسف ذو الحكمة لفراق الحياة، وأن يغتبط له الجهول .
فصادفت حماسة سيبيس فيما يظهر غبطة من سقراط، فالتفت إلينا وقال: هاكم رجلاً لا يبرح متسائلاً، ولا تكفي لإقناعه الفترة القصيرة، وليست كل حجة ترضيه.
فأضاف سمياس: ولكن اعتراضه الآن يبدو لي على شيء من القوة، فأي غناء عسى أن يكون في ذي الحكمة الحق، إذا هو ابتغى أن يلوذ بالفرار، وأن يستخف بترك سيده الذي هو أفضل منه؟ وليت أخال سيبيس إلا مشيراً إليك، فهو يظن أن أنك لا تتردد في تركنا، بل لا تتردد في ترك الآلهة الذين هم كما اعترفت أولى أمرنا الصالحون.
فأجاب سقراط: نعم ذاك قول يستقيم مع العقل، ولكن أهو في ظنك دعوى ينبغي أن أجيب عنها كما لو كنت أمام القضاء؟
قال سمياس: ذلك ما كنا نبتغي.
إذن فلأحاول أن ألقي في نفوسكم أثراً خيراً ما تركت حين كنت أدافع عن نفسي أمام القضاة، فلست أتردد يا سيبيس وسمياس في الاعتراف بوجوب الأسى من الموت، إذا لم أكن راسخ العقيدة بأني ذاهب إلى طائفة أخرى من الآلهة ذوي الخير والحكمة (وإني لأوقن بهذا يقيني بأي شيء آخر من هذا القبيل) وإلى الراحلين من الرجال (وإن كنت لا أقطع بهذا قطعي بالأولى) وهم يَفْضُلون هؤلاء الذين أخلفُهم ورائي، فلست لهذا أبتئس، كما كان يُنتظر أن أفعل، لأني آمل خيراً، بأن ثمت شيئاً لا يزال مدخراً للموت، وهو كما قد قيل منذ القدم أدنى جداً إلى الخير منه إلى الشر.
قال سمياس: ولكن هل تريد أن تستصحب أراءك معك يا سقراط فلا تنقلها إلينا! إنا قد نرجو أيضاً أن نساهم في ذلك النفع، وأنت إذا وفقت بعد ذلك لإقناعنا، كل ذلك منك رداً على ما اتُّهمتَ به.
فأجاب سقراط - سأبذل وسعي، ولكن دعوني أستمع أولاً لما يريده أقريطون. إنه كان قد هم أن يقول لي شيئاً
فأجاب أقريطون: أردت أن أقول يا سقراط أن الخادم الذي أمر بإعطائك السم قد أنبأني، لأبلغك، بأنه يحسن بك ألا تكثر الكلام لأنه يزيد من الحرارة، وهذه تؤثر في فعل السم؛ لقد اضطر أحياناً أولئك الذي أثاروا نفوسهم أن يجرعوا السم مرتين أو ثلاثاً.
قال سقراط: إذن فليؤد واجبه، وليتأهب لإعطاء السم مرتين أو ثلاثاُ، إذا لزم الأمر، وحسبنا هذا.
فأجاب أقريطون: لقد كدت أوقن بأنك ستقول ذلك، ولكني لم أجد محيصاً عن إرضائه.
قال سقراط: لا تأبه به.
وهانذا الآن أجيبكم - أنتم يا قضاتي - فأبين لكم أن من عاش فيلسوفاً حقاً، معه الحجة في أن ينعم بالاً إذا ما اقترب من الموت، وأنه قد يرجو أن يصيب في العالم الآخر بعد الموت أعظم الخير. سأشرح لكما أي سيبيس وسيماس كيف يمكن أن يكون هذا، فيغلب فيما أرى أن يسيء الناس الظن بطالب الفلسفة الصحيح، لأنهم لا يدركون أنه أبداً دائب السعي وراء الموت والموتى. وإن صح أنه ما برح راغباً في الموت طوال حياته، ففيم الجزع إذا ما تهيأت له غايته التي كان لا يفتأ ساعياً إليها راغباً فيها.
فضحك سمياس وقال: إني وإن كنت لا أسوق القول متندراً هازلاً، لأقسم بأنه لا يسعني إلا أن اضحك إذا ما فكرت فيما سيقوله هذا العالم اللعين، حين يخبَّر بهذا - سيقولون بأن هذا بالغ الحق - ومَنْ في دُورِنا من أهل، سيؤيدونهم، في قولهم بأن الحياة التي يتمناها الفلاسفة هي لا شيء غير الموت، وإنهم قد تبينوهم فإذا هم حقيقيون بالموت الذي يتمنون.
- وهم على حق يا سمياس في قولهم هذا، إذا استثنيت منه هذه العبارة: (إنهم تبينوهم) لأنهم لم يتبينوا طبيعة هذا الموت الذي يتمناه الفيلسوف الحق، ولا كيف هو حقيق بالموت أو راغب فيه، فلندعهم وليتحدث بعضنا إلى بعض قليلاً: أنحن معتقدون في وجود ما يسمى بالموت؟
فأجاب سمياس: كن من ذلك على يقين.
- وهل يكون الموت إلا انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت الروح بذاتها مفصولة عن الجسد، وقام الجسد مفصولاً عن الروح - أليس ذلك هو الموت؟
فأجاب - هو كذلك. وليس شيئاً غير هذا.
- وما قولك يا صديقي في مسألة أخرى، أحب أن تدلي إلي برأيك فيها، وقد تلقى إجابتك عنها ضوءاً على موضوع بحثنا، هل ترى جديراً بالفيلسوف أن يعني بلذائذ الأكل والشرب - إن صح أن تدعى هذه لذائذ؟
فأجاب سيماس: لا، ولا شك.
- وماذا تقول في لذة الحب، أينبغي له أن يُعنى بها؟
- لا ينبغي بحال من الأحوال.
- وهل يجوز له أن يطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد - كحيازة اللباس الفاخر، والنعال، مثلاً، أو غيرهما من زينات البدن؟ ألا يجدر به بدلاً من أن يعني بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟
- يجب أن أقرر بأن الفيلسوف الحق ينبغي أن يزدريها.
- ألست ترى أن ينصرف بكليته إلى الروح لا إلى البدن؟
إنه يود أن يتخلص من البدن وأن يعود إلى الروح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
- ذلك حق.
- وترى الفلاسفة يلتمسون في مثل هذا الأمر كل سبيل لفصل الروح عن الجسد أكثر مما يفعل سائر الناس جميعاً.
- ذلك صحيح
- بينا يعتقد سائر الناس يا سمياس ان حياة تخلو من لذائذ البدن ولا تأخذ منها بقسط، ليست حقيقة بالبقاء، بل يرون أن إنساناً لا يفكر في مسرات الجسد، يكاد يكون كالأموات.
ذلك جد صحيح
وبعد فماذا عسانا أن نقول عن السبل الحقيقية التي تقتضيها المعرفة؟ إن كان ثمت ما يدعو الجسم للمساهمة في تحصيلها، فهل يكون عائقاً لها أم معيناً عليها؟ أعني هل يأتينا البصر والسمع بحقيقة ما؟ أليس هما دليلين خاطئين كما لا يفتأ ينبئنا الشعراء؟ فان كان خاطئين ومبهمين، فماذا عسى أن يقال عن سائر الحواس؟ ولا أحسبكم معارضين في أنهما أضبط الحواس.
فأجاب سمياس: يقيناً.
- وإذن فمتى تدرك الروح الحقيقة؟ - لأنها إن أشركت معها الجسم فيما تحاول أن تبحثه، فهي مخدوعة لا محالة.
- نعم، هذا صحيح
- أفلا يجب إذن أن ينكشف لها الوجود بوساطة الفكر، إن كان له أن ينكشف.
- نعم
- وأحسن ما يكون الفكر حينما ينحصر في حدود نفسه، حتى لا يشغله شيء من هذه - فلا أصوات ولا مناظر ولا ألم ولا لذة مطلقاً - وذلك إنما يكون عندما يصبح الفكر أقل اتصالاً بالجسد، فلا يصله منه حس ولا شعور، بل يتصرف بتطلعه إلى الكون.
- هذا جد صحيح .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المصدر: مجلة الرسالة العدد 82 ، التاريخ 28 - 01 - 1935.
(*) نشرت بكتاب " محاورات أفلاطون" ترجمة زكي نجيب محمود، طبعة مكتبة الأسرة،2001، ص 163 : 171.
فأجاب سقراط: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس فهلا سمعتماه يتحدث عن هذا؟
إني يا سقراط لم أفهم قوله أبداً.
ليست كلماتي كذلك إلا صدى، ولكني شديد الرغبة في أن اروي ما سمعته، فالحق أني مادمت مرتحلاً إلى غير هذا المكان فيجب ألا يُشْغَلَ الفكرُ ويدور الحديث إلا حول هذا الرجل الذي أوشك أن أقوم به، وماذا عساي أن أفعل خيراً من هذا منذ الآن إلى أن تغرب الشمس؟.
إذن فحدثني يا سقراط، لماذا استقر الرأي على ألا يكون الانتحار حقاً مشروعاً؟ لقد سمعت فيلولاوس يقيناً يؤكد ذلك عندما كان يمكث بيننا في طيبة؛ وثم أناس آخرون يقولون مثل هذا القول، ولو أن أحداً منهم لم يستطع قط أن يفهمني ما يقول
فأجاب سقراط. ولكنك يجب أن تحاول الفهم ما استطعت، ولابد أن يأتي اليوم الذي تفهم فيه، أحسبك تعجب لماذا تشذ هذه الحالة وحدها، ومعظم الشرور قد تجيء بالخير عرضاً (لأنه أليس من الجائز أن يكون الموت كذلك أفضل من الحياة في بعض الظروف؟) وإذا كان خيراً للإنسان أن يموت، فما الذي يمنع أن يقدم لنفسه الخير بنفسه؛ ألزامٌ عليه أن ينتظر من غيره يد الإحسان؟
فقال سيبيس ضاحكاً في لغته الدُّورية القومية: أي وحق جوبتر!
فأجاب سقراط - إني أُسلّم بأن في هذا تناقضاً ظاهراً، ولكن قد لا يكون هذا التناقض حقيقياً، هناك مذهب جرت به الألسنة في الخفاء بأن الإنسان سجين، وليس له الحق في يفتح باب سجنه ليفر هارباً، إن ذلك إشكال عظيم لست أفهمه فهماً دقيقاً، ولكني أعتقد مع ذلك أن الآلهة هم أولياؤنا وأننا مِلْكٌ لهم، أفلست ترى ذلك؟
قال سيبيس - نعم، إني أوافق على ذلك.
- فلو أن ثوراً مثلاً مما تملك أنت أو حماراً، شاءت له إرادته أن يحيد بنفسه عن الطريق، على حين أنك لم تُشِرْ له برغبتك في وجوب موته، أفلا تسخط عليه، ثم ألا تعاقبه إن استطعت؟
فأجاب سيبيس - يقينا .
- وإذن فقد يكون في القول بأن الإنسان يجب أن ينتظر، وألا يُهلك حياته بنفسه، حتى يقضي الله فيه أمراً، كما فعل بي الآن، سندٌ من العقل.
قال سيبيس - نعم يا سقراط، إن في ذلك ولا ريب سنداً من العقل، ولكن كيف بعد هذا تستطيع أن توائم بين هذه العقيدة الصحيحة في ظاهرها وهي أن الله مولانا ونحن له عبيد، وبين ما كنا نضيفه إلى الفيلسوف من رغبة في الموت؟ أما أن يرغب من هم أبلغ الناس حكمة، في ترك هذا العمل الذي تحكمهم فيه الآلهة، وهو خير الحاكمين، فلا يسلم به العقل، لأنه يستحيل على صاحب الحكمة أن يظن بنفسه المقدرة، لو أطلقت له حرية العمل على أن يعني بنفسه أكثر مما تُعنى به الآلهة، ربما توهم ذلك المأفون، وقد يحتج بأن خيراً له أن يفر من سيده دون أن يضع في اعتباره بأن واجبه هو أن يثبت حتى النهاية، لا أن يفر من الخير فراراً لا حكمة فيه. أما الرجل الحكيم فلا أخاله إلا راغباً في أن يكون أبداً مع من هو خير منه. أنظر يا سقراط. فهذا يناقض ما قد قيل الساعة تواً، إذ يترتب على هذا الأساس أن يأسف ذو الحكمة لفراق الحياة، وأن يغتبط له الجهول .
فصادفت حماسة سيبيس فيما يظهر غبطة من سقراط، فالتفت إلينا وقال: هاكم رجلاً لا يبرح متسائلاً، ولا تكفي لإقناعه الفترة القصيرة، وليست كل حجة ترضيه.
فأضاف سمياس: ولكن اعتراضه الآن يبدو لي على شيء من القوة، فأي غناء عسى أن يكون في ذي الحكمة الحق، إذا هو ابتغى أن يلوذ بالفرار، وأن يستخف بترك سيده الذي هو أفضل منه؟ وليت أخال سيبيس إلا مشيراً إليك، فهو يظن أن أنك لا تتردد في تركنا، بل لا تتردد في ترك الآلهة الذين هم كما اعترفت أولى أمرنا الصالحون.
فأجاب سقراط: نعم ذاك قول يستقيم مع العقل، ولكن أهو في ظنك دعوى ينبغي أن أجيب عنها كما لو كنت أمام القضاء؟
قال سمياس: ذلك ما كنا نبتغي.
إذن فلأحاول أن ألقي في نفوسكم أثراً خيراً ما تركت حين كنت أدافع عن نفسي أمام القضاة، فلست أتردد يا سيبيس وسمياس في الاعتراف بوجوب الأسى من الموت، إذا لم أكن راسخ العقيدة بأني ذاهب إلى طائفة أخرى من الآلهة ذوي الخير والحكمة (وإني لأوقن بهذا يقيني بأي شيء آخر من هذا القبيل) وإلى الراحلين من الرجال (وإن كنت لا أقطع بهذا قطعي بالأولى) وهم يَفْضُلون هؤلاء الذين أخلفُهم ورائي، فلست لهذا أبتئس، كما كان يُنتظر أن أفعل، لأني آمل خيراً، بأن ثمت شيئاً لا يزال مدخراً للموت، وهو كما قد قيل منذ القدم أدنى جداً إلى الخير منه إلى الشر.
قال سمياس: ولكن هل تريد أن تستصحب أراءك معك يا سقراط فلا تنقلها إلينا! إنا قد نرجو أيضاً أن نساهم في ذلك النفع، وأنت إذا وفقت بعد ذلك لإقناعنا، كل ذلك منك رداً على ما اتُّهمتَ به.
فأجاب سقراط - سأبذل وسعي، ولكن دعوني أستمع أولاً لما يريده أقريطون. إنه كان قد هم أن يقول لي شيئاً
فأجاب أقريطون: أردت أن أقول يا سقراط أن الخادم الذي أمر بإعطائك السم قد أنبأني، لأبلغك، بأنه يحسن بك ألا تكثر الكلام لأنه يزيد من الحرارة، وهذه تؤثر في فعل السم؛ لقد اضطر أحياناً أولئك الذي أثاروا نفوسهم أن يجرعوا السم مرتين أو ثلاثاً.
قال سقراط: إذن فليؤد واجبه، وليتأهب لإعطاء السم مرتين أو ثلاثاُ، إذا لزم الأمر، وحسبنا هذا.
فأجاب أقريطون: لقد كدت أوقن بأنك ستقول ذلك، ولكني لم أجد محيصاً عن إرضائه.
قال سقراط: لا تأبه به.
وهانذا الآن أجيبكم - أنتم يا قضاتي - فأبين لكم أن من عاش فيلسوفاً حقاً، معه الحجة في أن ينعم بالاً إذا ما اقترب من الموت، وأنه قد يرجو أن يصيب في العالم الآخر بعد الموت أعظم الخير. سأشرح لكما أي سيبيس وسيماس كيف يمكن أن يكون هذا، فيغلب فيما أرى أن يسيء الناس الظن بطالب الفلسفة الصحيح، لأنهم لا يدركون أنه أبداً دائب السعي وراء الموت والموتى. وإن صح أنه ما برح راغباً في الموت طوال حياته، ففيم الجزع إذا ما تهيأت له غايته التي كان لا يفتأ ساعياً إليها راغباً فيها.
فضحك سمياس وقال: إني وإن كنت لا أسوق القول متندراً هازلاً، لأقسم بأنه لا يسعني إلا أن اضحك إذا ما فكرت فيما سيقوله هذا العالم اللعين، حين يخبَّر بهذا - سيقولون بأن هذا بالغ الحق - ومَنْ في دُورِنا من أهل، سيؤيدونهم، في قولهم بأن الحياة التي يتمناها الفلاسفة هي لا شيء غير الموت، وإنهم قد تبينوهم فإذا هم حقيقيون بالموت الذي يتمنون.
- وهم على حق يا سمياس في قولهم هذا، إذا استثنيت منه هذه العبارة: (إنهم تبينوهم) لأنهم لم يتبينوا طبيعة هذا الموت الذي يتمناه الفيلسوف الحق، ولا كيف هو حقيق بالموت أو راغب فيه، فلندعهم وليتحدث بعضنا إلى بعض قليلاً: أنحن معتقدون في وجود ما يسمى بالموت؟
فأجاب سمياس: كن من ذلك على يقين.
- وهل يكون الموت إلا انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت الروح بذاتها مفصولة عن الجسد، وقام الجسد مفصولاً عن الروح - أليس ذلك هو الموت؟
فأجاب - هو كذلك. وليس شيئاً غير هذا.
- وما قولك يا صديقي في مسألة أخرى، أحب أن تدلي إلي برأيك فيها، وقد تلقى إجابتك عنها ضوءاً على موضوع بحثنا، هل ترى جديراً بالفيلسوف أن يعني بلذائذ الأكل والشرب - إن صح أن تدعى هذه لذائذ؟
فأجاب سيماس: لا، ولا شك.
- وماذا تقول في لذة الحب، أينبغي له أن يُعنى بها؟
- لا ينبغي بحال من الأحوال.
- وهل يجوز له أن يطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد - كحيازة اللباس الفاخر، والنعال، مثلاً، أو غيرهما من زينات البدن؟ ألا يجدر به بدلاً من أن يعني بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟
- يجب أن أقرر بأن الفيلسوف الحق ينبغي أن يزدريها.
- ألست ترى أن ينصرف بكليته إلى الروح لا إلى البدن؟
إنه يود أن يتخلص من البدن وأن يعود إلى الروح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
- ذلك حق.
- وترى الفلاسفة يلتمسون في مثل هذا الأمر كل سبيل لفصل الروح عن الجسد أكثر مما يفعل سائر الناس جميعاً.
- ذلك صحيح
- بينا يعتقد سائر الناس يا سمياس ان حياة تخلو من لذائذ البدن ولا تأخذ منها بقسط، ليست حقيقة بالبقاء، بل يرون أن إنساناً لا يفكر في مسرات الجسد، يكاد يكون كالأموات.
ذلك جد صحيح
وبعد فماذا عسانا أن نقول عن السبل الحقيقية التي تقتضيها المعرفة؟ إن كان ثمت ما يدعو الجسم للمساهمة في تحصيلها، فهل يكون عائقاً لها أم معيناً عليها؟ أعني هل يأتينا البصر والسمع بحقيقة ما؟ أليس هما دليلين خاطئين كما لا يفتأ ينبئنا الشعراء؟ فان كان خاطئين ومبهمين، فماذا عسى أن يقال عن سائر الحواس؟ ولا أحسبكم معارضين في أنهما أضبط الحواس.
فأجاب سمياس: يقيناً.
- وإذن فمتى تدرك الروح الحقيقة؟ - لأنها إن أشركت معها الجسم فيما تحاول أن تبحثه، فهي مخدوعة لا محالة.
- نعم، هذا صحيح
- أفلا يجب إذن أن ينكشف لها الوجود بوساطة الفكر، إن كان له أن ينكشف.
- نعم
- وأحسن ما يكون الفكر حينما ينحصر في حدود نفسه، حتى لا يشغله شيء من هذه - فلا أصوات ولا مناظر ولا ألم ولا لذة مطلقاً - وذلك إنما يكون عندما يصبح الفكر أقل اتصالاً بالجسد، فلا يصله منه حس ولا شعور، بل يتصرف بتطلعه إلى الكون.
- هذا جد صحيح .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المصدر: مجلة الرسالة العدد 82 ، التاريخ 28 - 01 - 1935.
(*) نشرت بكتاب " محاورات أفلاطون" ترجمة زكي نجيب محمود، طبعة مكتبة الأسرة،2001، ص 163 : 171.