كانت تهتز بقوة ، توشك أن تنقلب، وإذا انقلبت ستلوث كل شيء من حولها، وقد تنكسر فتجرح أحد الركاب، أو تبقى قطعها المتناثرة هنا وهناك، فتؤذي من يلمسها أو يحتك بها بشكل أو بآخر ..
تمتد يده إليها عند كل انعطاف أو حفرة في الطريق، وقد تصل هذه اليد أو لاتصل، المهم أنه يحاول أن يفعل شيئاً ما كي لا تنقلب ..
اليد الأخرى تثبت مقود الحافلة كي لا تشذ عن مسارها فتنقلب هي الأخرى ..
اليدان تتابعان ..
اليمنى تترك المقود، تصل إلى نصف المسافة، وقد تجتازها كلها .. وعندما تتأكد أن الكأس لن تنقلب بما فيها، تعود إلى مكانها وتتشبث مع رفيقتها بمقود الحافلة ..
اليسرى تحاول أن تلتحم مع المقود كي تكون قادرة على ضبط الحركة لوحدها إن احتاج الأمر.
ركاب الحافلة القريبون من السائق، بدؤوا هم أيضاً يراقبون الكأس بشيء من القلق :
- أستطيع أن أمسكها لك ..
وافق في البداية، ناوله الكأس .. ثم أحس بالحرج .. كيف سيتناولها من هذا الراكب عند كل رشفة .. فاستردها وأعاد محاولة تثبيتها على غطاء المحرك ..
راكب آخر نادى من المقعد الثاني على راكب أقرب :
- ثبتها بشيء ما .. نخاف أن تنقلب فيقلبنا معها ..
أزعجت العبارة السائق فأعاد مسك الكأس الساخن بين يديه، وبدأ يرتشف الشاي بشيء من السرعة .. تفاجأ بسيارة تتجاوز أخرى مواجهته، خفف من سرعته بفرامل تنبه لها الجميع، لكن الأبصار كلها تعلقت بكأس الشاي التي أعادها ثانية إلى موضع غير مستو على غطاء المحرك إلى جواره ..
تلمظ راكب آخر معلناً عن اشتهائه للشاي الساخن في هذا الصباح البارد .. فكر في عبارة ما تعيد التوازن النفسي للسائق الذي بدا متوتراً بعض الشيء :
- والله يا عمي كاس شاي دافي بهادا الصباح بيسوا مصاري ..
رفعت العبارة من حدة توتر السائق، على عكس ما كان يتوقعه هذا الآخر .. فأخذ يرتشف الشاي بسرعة أكبر معتمداً على يده اليسرى فقط في القيادة ..
أحس باقي الركاب بأن شيئاً ما غير طبيعي يحدث في مقدمة الحافلة، فأطلق أحدهم لصوته العنان :
- على هالحالة منوصل بكرة ..
انتقل بصر السائق إلى المرآة الماثلة في الأعلى ليتعرف إلى صاحب الصوت، ولما لم يستطع التعرف إليه، لعن في سره هؤلاء الركاب الذين لا يتركونه يفعل ما يشتهي في هذا الصباح الخريفي البارد .. ثم أعاد جل تركيزه إلى الطريق الماثل أمامه وكأس الشاي التي قاربت على الإنتهاء ..
عدت إلى نافذتي بعد أن هدأ المشهد تماماً .. رؤوس أشجار تنخطف أمامي، بقع صفراء وخضراء تعبر مسرعة فلا تشدني في شيء .. لقد بات مرآها مكروراً عادياً .. وبدأ ذهني يسترجع أحداث ليلة البارحة ..
) زوجتي تعلن بصرامة وأنا أذاكرها بأننا يجب أن نفتش عن عمل آخر كي نغطي نفقات الأولاد في الجامعة :
- بصراحة .. أنا لم أعد قادرة على العمل بعد هذا العمر ..
فأحاول أن أبرر لها صرامتها :
- معها حق .. لقد بدأت العمل باكراً وتقاعدت في سن مبكرة، وأفنت جسدها في الخدمة .. وفي النهاية دفعها ذوو الشأن إلى استقالة مبكرة لأنها لم تسهل لهم أمورهم ..
وأنا أشهق ولا ألحق بأي نوع من التوازن أمام راتب أحسه يتقزم بدل أن يتنامى ...
أتذكر صراخ أحد زملائي في العمل منذ أيام في وجهي :
- إي يا أخي انت ما عرفت تعيش .. أمضيت عمرك شعارات ومبادئ ... وطن وأبناء وطن .. قل لي بالله عليك ماذا جنيت من كل هذا ..؟ ها أنت بالكاد تعيش ولا تعرف كيف تؤمن نفقات أولادك في الجامعة ....)
عاد السائق إلى محاولته معرفة صاحب الصوت المتهكم بعد أن أنهى رشف الشاي حتى آخر قطرة .. كان معظمهم مغمض العينين أو ساهماً ببصره من خلال نافذته ..
رمى الكأس جانباً، كادت تقع في أرض الحافلة، فحاول أن يفعل شيئاً كي لا يحدث ذلك ..
مال بجسده نحوها .. تأرجحت الحافلة وبدا عدم التوازن في خط سيرها، تنبه لذلك فاستقام مجدداً .. وسمع لغطاً من المقاعد الخلفية، كاد يشتم بعلانيته الفاضحة، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة مركزاً بصره إلى الأمام ..
(عدت إلى صرامة الزوجة وصراخ أحد الزملاء، خفت صوت الصراخ في رأسي عندما علت حدة صراخ أحد الأولاد في وجهي :
- والله ذنبكم على جنبكم .. أنتم أتيتم بنا إلى هذه الدنيا وعليكم أن تتكفلوا بمعيشتنا ودراستنا، نحن لا نزال في المرحلة الجامعية .. يمكنكم أن تطلبوا منا فعل شيء ما عندما تتهيأ لنا ظروف العمل في مراحل عمرية لاحقة ..
- لكنني كنت أدرس وأعمل ..
- هذا في زمانكم .. الزمن يتغير يا أبي ..
وبكيت لأنني لم أجد من إجابة سوى البكاء ...)
كانت الكأس الدبقة مرمية في مقدمة الحافلة وقد كفت عن التأرجح، لكن السائق كان لا يكف عن النظر إليها حيناً ليتأكد من هدوئها، ومعاودة التأكد من شخص ذاك الذي أفقده بعض توازنه منذ بعض الوقت ليس إلا ..
* محمد عزوز
)من مجموعته القصصية الخامسة " جدراني أولى " برسم الطبع)