عصام حسن - كامل وحسنة يتحوّلان إلى كائنيْن سحريّيْن.. قصة قصيرة


(كان الفصل شتاءً، وكانت الريحُ تصفر في الخارج، وأغصانُ الأشجار تتقصّف، فيبدو صوتُها كطلقات الرصاص).

ربّما كان من الأفضل لو بدأتُ بعبارة "كان يا ما كان في قديم الزمان،" وهي كلمات سحريّة تعفيني من شَرْطَي الزمان والمكان. فحكايتي "مقطوعة من شجرة" بلا حسبٍ ولا نسب. غير أنّ أحداثها قد تحصل؛ أو ربّما حصلتْ في أكثر من مكان.

هذه حكاية كامل وحسنة، الطفلة الجميلة التي استيقظتْ ذاتَ صباح على مَن ينتشلها من عالمها البريء، ويرمي بها في أحضان رجلٍ غريب، لتصبح زوجةً مطالبةً بأمورٍ لم تسمع عنها إلّا لِمامًا، وبشكلٍ مشوّهٍ جعلها تنفر وتشمئزّ من عالم الرجال. فابنة عمّتها "كريمة" أقسمتْ لها أنّ الرجل في ليلة الدخلة يمتطي زوجتَه كما تُمتطى الحمير، ويسوقها في أرجاء البيت كي تتعرّف إلى غرفهِ وزواياه، فتصبح مطيعةً لا ترفع صوتها في وجهه، وتفعل ما يُطلَب منها دون نقاش.

كان هذا مرعبًا بالنسبة إلى حسنة، التي اعتادت تسلّقَ الأشجار بحثًا عن أعشاش العصافير، ومطاردةَ صغار الخراف الخرقاء، وتزيينَ خصلات شعرها بأزهار النرجس وشقائق النعمان، والغوصَ في مياه النهر القريب لتضيء أعماقَه بعرْيها الجميل، قبل أن تستلقي على ضفّته فوق الأعشاب الطريّة وتتملّى زرقة السماء من خلال رموشها المبتلة بالماء، هكذا؛ إلى أن تعود عصرًا مع الرعيان وتستمع إلى حكاياتهم عن المغاور المليئة بالجنّ والعفاريت والأفاعي الضخمة ذات القرون وعن بطولاتهم في الدفاع عن أبقارهم وثيرانهم ضدّ كلّ هؤلاء مجتمعين. ولم تكن لتصدّقهم، إلّا أنّ حكاياتهم كانت تُشعرها بالإثارة، فتطالبهم بالمزيد.

هكذا كانت تقضي حسنة جلّ أوقاتها حرّةً كعصفورةٍ حدودُها السّماء. فكيف ترضى أن يمتطيَها أيٌّ كان، ولأيّ سببٍ من الأسباب؟!

وها هي جارتها، جميلة المجنونة، تزيد الطينَ بلّةً، فتخبرها أنّ الرجال يملكون بين أفخاذهم أشياءَ ضخمةً ذاتَ أنيابٍ حادّةٍ، يُقحمونها في فروج النساء، فتنهشُ أغشيةَ بكاراتهنّ، وتضع في بطونهنّ بيضًا كبيض الحمام، يتحوّل بقدرة قادرٍ بعد تسعة أشهر إلى بناتٍ وصبيان. ثم تنتقل إلى آلام الولادة، فتشرح كيف يشقّ الأطبّاءُ المرأةَ من أسفلها بسكّينٍ كبيرة، كما تُشقّ بطونُ الأسماك، فيخرج الطفلُ مع كتلة لحميّة ضخمة، تُرغَم على أكلها نيئةً كما تفعل القططُ وبعضُ الحيوانات. لذا من الحكمة، كما ترى، ألّا تسلِّمَ المرأةُ نفسَها إلى الأطبّاء، والأسلمُ بقاؤها في بيتها معزَّزةً مكرَّمةً. والأسلمُ الاستعانةُ بالداية، التي تُخرج الطفلَ من بطن أمه كالشعرة من العجين، وتكتفي بتضميد الجراح ـــــ إن حصلتْ ــــــ ببعض الخرق المضمّخة بعصائرَ شافيةٍ ومساحيقَ من أوراق النباتات الجافّة ذاتِ الروائح العطريّة، كالريحان والحبق والزعتر وإكليل الجبل معجونةً بزيت الزيتون والغار. وهذا كلّه على خلاف ما يقوم به الأطبّاءُ بعد عمليّة الولادة، حيث يُخاط فرجُ المرأة بوساطة المسلّة وخيوطِ القنّب، ويُغلق بالكامل... باستثناء ثقبٍ صغيرٍ بمقدار خرم الإبرة يُترك لتصريف البول، ولا يُعاد فتحُه إلّا بعد أربعين يومًا، ويرافق ذلك آلامٌ رهيبةٌ أين منها آلامُ الوضع والمخاض. ولم تكن جميلة المجنونة لتتوقف عن سرد ترّهاتها لو لم تر حسنةَ تُفرغ ما في جوفها، وتركض مبتعدةً لتختبئ في مكان سرّيّ تلجأ إليه كلّما خافت أو احتاجت الانفرادَ بنفسها.

كان هذا أبرز ما تعرفه حسنة عن الجنس والولادة والأمومة والمتعة وعالم الذكور. صحيح أنّها لم تتأكّد من هذه المعلومات، لكنّها لم تنسها يومًا، وبقيتْ في ذهنها لتحوِّل أحلامَها الجنسيّة الحديثةَ العهد إلى كوابيس تستيقظ منها مذعورةً على الدوام.

وُلدتْ حسنة ذاتَ ربيع، وماتت والدتُها بعد مجيئها إلى هذه الحياة بأيّام قليلة بسبب عمليّة الولادة التي تمّت في الزريبة بين أرجل بقرتهم الوحيدة حين كانت تحلبها فجرَ يومٍ من الأيّام. كانت أمُّ حسنة هزيلة الجسد، وكانت ـــــ مثل كلّ النساء في تلك الأيام ـــــ تعمل حتّى وهي في هذا الوضع؛ لذا لا غرابة في أن تستيقظ فجرًا وتذهب لتجلب الحطب ثم تكنس الزريبة وتحمل المخلّفات إلى المزبلة البعيدة ثم تعود لتحلب البقرة وتجهّز طعامَ الإفطار لأطفالها وزوجها، الذي يكون في هذه الأثناء قد استيقظ وخرج بدوره ليقوم ببعض الأعمال.

كانت أمّ حسنة تعلم أنها ستلد بين ساعةٍ وأخرى؛ فهذه ليست أوّلَ ولادةٍ لها، والتجاربُ الأربع السابقة جعلتها تستسهل الأمر. لذا حين شعرتْ بالمغص لم تأبه كثيرًا ورأت أنّها تستطيع إنهاءَ حلب البقرة وباقي الأعمال قبل أن تذهب إلى البيت وتستدعي جارتها، أمَّ سلمى، كما في المرّات السابقة، لتساعدها في عمليّة الولادة، إذ كانت قد جهّزت مسبّقًا كلَّ ما ستحتاجه لهذا الأمر. لكنّ القدر لم يمهلْها، وتتالت المغصاتُ أسرعَ وأعظم، فقرّرت الذهابَ فورًا إلى البيت. وما إنْ وقفتْ حتّى دارت بها الدنيا وسقطتْ أرضًا، فخافت وصارت تصرخ مستغيثة، إلّا أنّ أصواتها ذهبتْ أدراج الرياح؛ فالجميع نيام أو خرجوا باكرًا إلى أعمالهم في الحقول والبساتين جريًا على عادة الفلّاحين قبل أن يشتدّ وهجُ الشمس. وهكذا وجدتْ نفسها بعد لحظات وجهًا لوجه مع كائن صغير يتخبّط بين قدميها، تكسوه الدماءُ والبولُ وبقايا روث البقرة التي كانت تراقب ما يحصل وتجترّ طعامها بهدوءٍ أغاظ أمَّ حسنة وجعلها تشتمها بصوت مبحوح عدّة مرّات، بينما كانت تسبح في القاذورات التي اخترقتْها ولوّثتْ جراحَها النازفة، ما سبّب لها التهاباتٍ حادّةً، تمّ التعاملُ معها بإهمال، فأودت بحياتها القصيرة التي قضتها في مغالبة الطبيعة القاسية وخدمة أبيها ومن بعده زوجها وبيتها وأولادها الصغار. لكنْ قبل وفاتها، وأثناء صحواتها القصيرة من الهلوسة جرّاء ارتفاع حرارتها، طلبتْ من زوجها أن يُطلق اسم "حسنة" على الصغيرة، وأن يعتني بها جيّدًا بعد أن أخبرته أنّها ستموت من دون شكّ. ولم يستطع الزوج إنقاذها، وماتت في حضنه في اليوم التالي، وهما على ظهر الحمار، حين حاول نقلها إلى "المشفى الوطنيّ" في المدينة التي تبعد عن قريتهم عشرات الكيلومترات.

عاشت حسنة مع خالتها، زوجةِ أبيها، الذي لم ينتظر طويلًا كي يتزوّج، إلى أن صارت في عمر المراهقة وبدأتْ تلفت الأنظار. وتجنّبًا للقيل والقال، وللتخفّف من بعض الأحمال، فقد وافق والدُها على أوّلِ مَن طلب يدها. وحصل ذلك ببساطة شديدة، حين زارهم أبو كامل يومًا، وفاجأه أنّ حسنة صارت بهذا الجمال، وهو الذي يتذكّر جيّدًا مأساةَ ولادتها وكأنّها حصلتْ بالأمس. وقبل أن ينهي زيارته طلب يدَها من أبيها لابنه كامل، ووعده بأنّها ستعيش عيشةَ الأميرات، وأنّه سيقدّم لها هديّةَ زواج، قطعةَ أرضٍ، يمكنه استثمارُها كيفما يشاء، بالإضافة إلى أساورَ من الذهب لم تلبس مثلَها فتاةٌ من قريتهم أو من الجوار. لم يفكّر والد حسنة كثيرًا ووافق على الفور. هكذا صارت حسنة من نصيب كامل النمّوز، الذي لم يكلّمها أو يلتقِ بها وجهًا لوجه يومًا، لكنّها كانت بطلة أحلامه المطلقة خلال الفترة الأخيرة. لذا سُرّ سرورًا عظيمًا حين سمع والدَه صبيحةَ أحد الأيّام يهمس باسمها ويخبر أمّه إنّه وجد أخيرًا العروسَ المناسبةَ لكامل، المُضربِ عن الزواج.

في الحقيقة لم يكن كامل مضربًا عن الزواج، إلّا أنّ رفضه للفكرة كان في سياق الحرب الباردة التي يخوضها ضدّ والده الظالم. ولأنّه لا يملك الجرأةَ اللازمة للوقوف في وجهه مباشرةً فقد اختار أن يُظهر نوعًا من اللامبالاة تجاه أيّ أمرٍ يفرحه أو يرغب فيه. فإن اصطاد أبوه بعضَ العصافير وعبّر عن فرحه بصيده الثمين كان كامل يمتنع عن الطعام ويدّعي أنه لا يحبّ لحمَ العصافير؛ وإن اشترى له حذاءً جديدًا كان يمشي حافي القدمين بحجة أنّ الحذاء لم يناسب قدميه. كذلك كان يتجاهل نداءاته حين يحتاجه في أمر ما، ويدّعي أنّه لم يسمعه ولو كان على مسافة مترٍ منه. بل إنّه بقي لعدّة سنوات مدّعيًا الخرسَ احتجاجًا على تصرّفٍ قام به والده وندم عليه؛ لكنّ الندم لم ينفعه ـــــ فكامل لا ينسى مَن آذاه.

كان هذا النوعُ من السلوك طريقتَه الوحيدة للانتقام من ظلم أبيه، وبقي عليه حتّى صار رجلًا. لكنّ الأمر مختلف اليوم: فحسنة شيءٌ آخر لا يمكن تجاهلُه أو رفضُه؛ حسنة التي راقبها مرارًا وهي تغسل الثيابَ على ضفّة النهر مشمّرةً عن فخذيها، وصوتُها العذبُ يصدح بأغاني الحصّادين والعشّاق والرعاة؛ حسنة التي جعلتْ لياليَه تتحوّل إلى كرنفالٍ للرغبة والشهوة والحب واللذّات. وكم تمنّى لو يستطيع ضمَّها إلى صدره في الواقع كما كان يفعل في أحلامه، وإبقاءَها هناك إلى أن تكبر وتصبحَ من نصيبه. لكنه كان في قرارة نفسه يعلم أنّ ذلك لن يحصل بسبب صغر سنّها. لذا لم يفصح عن رغباته لأمّه، ولم يملك الجرأة على مخاطبة حسنة وجهًا لوجه، ومن رابع المستحيلات مفاتحة والده بالأمر لأنّ الحرب قائمة بينهما ولن يتنازل بعد هذا العمر ويرمي بأسلحته من أجل فتاة. لكنْ ها هي الفرصة التي حلم بها تأتيه اليوم على قدميها، وإنْ رفضها فعلى الأرجح أن يبقى عازبًا طيلة الحياة، وهذا ما لا يريده على الإطلاق.

إذًا لن يكون مضطرًّا إلى الاستسلام. هكذا فكّر. بل يمكنه الحصولُ على مراده من دون تنازلات مباشرة. ولكنْ صار لزامًا عليه تغييرُ أسلوبه في التعاطي، وإظهارُ بعض الليونة. لذا، ما إنْ ذكرتْ والدتُه الأمرَ حتى وافق. دهشتْ والدتُه، ولكنّ ذلك لم يمنعها من إطلاق الزغاريد وإمطار ابنها بالقبلات. وخلال دقائق انتشر الخبر مع صوت الزغاريد، ودار اسم حسنة على كلّ لسان، وقال بعضً الحاسدين إنّ كامل النمّوز اشترى حسنة بأموال أبيه. لكنّه لم يشغل باله بهذا الكلام، فكان عرسٌ شارك فيه الجميع...

إلّا حسنة، التي بدت، وهي تخرج برفقة عريسها في نهاية الاحتفال، كمن يُساق إلى منصّة الإعدام.

***

ومضت الأيّام. إلى يوم كانت القرية نائمةً فيه، وكان زجاجُ نوافذ بيوتها الصغيرة وأغصانُ الأشجار العارية المبلّلة بمياه الأمطار تعكس أضواءَ البرق المتتالية، فتبدو كشجرةٍ مزيّنةٍ في عيد الميلاد. في تلك الأيّام كانت السهرات تنتهي عند التاسعة مساءً، وكان محبّو السهر من الرجال يتجاوزون ذلك الوقتَ بساعة أو ساعتين لا أكثر: يمجّون سجائرَهم بهدوء، ويشربون العرقَ البلديّ قرب المواقد المليئة بالجمر، حيث تشوى البطاطا والبصل، وفي بعض الأحيان الدوّام* أو الكستناء. ونادرًا ما كنتَ ترى امرأةً تطيل السهر؛ فالنساء كنّ ينمن باكرًا من شدّة الاجهاد، إذ إنّ أعمال البيت الكثيرة والاعتناءَ بالأطفال ومشاركةَ العائلة في شغل الأرض لا تترك لهنّ فرصةً للاستمتاع بسهرات الليل المتأخّرة، فيأوين إلى فراشهنّ كالقتيلات، بعد إنجاز مهامهنّ البيتيّة المختلفة. ومن شذّت عن هذه القاعدة رأيتَها تجلس جانبًا تحوك شالاتِ الصوف أو تُصلح جواربَ الأطفال وثيابَهم الداخليّة وتلقّم الموقدَ بالحطب اللازم عند الضرورة، ونادرًا ما كانت تشارك في الحديث؛ وإذا فعلتْ فمشاركتُها تقتصر على تعليقٍ بسيط أو إضافة معلومة لا تقدِّم ولا تؤخّر.

هكذا كانت الحال في ذلك المساء البارد في بيت كامل النمّوز، حين انتهت السهرةُ باكرًا ولم يكن يشعر برغبة في النوم؛ فمفعول العرق أيقظ فيه رغبةً ذكوريّةً أجّجها حديثُ ضيوفه عن عاهرات المدينة وعن المغامرات الجنسية الماجنة، وأجّجتها كذلك رؤيتُه الآن لحسنة التي مضى على زواجه منها ثلاثةُ أشهر من دون أن يحصل بينهما ما يحصل بشكل طبيعيّ بين الأزواج! لذا استجمع شجاعته، المدعومة بتأثير المشروب الثقيل، واندسّ قربها في الفراش، ثمّ احتضنها من الخلف ملصقًا جسدَه بجسدها الدافئ، مادًّا يدَه الخشنة تحت ثوبها، متلمّسًا الطريقَ فوق تفاصيل جسدها البضّ ليصلَ إلى طراوة نهديْها، مطلقًا تأوّهاتِه المحمومة. انتفضتْ مذعورةً كأنّ أفعى لدغتها، مُحاولةً باستبسالٍ مقاومةَ يديه اللتين بدأتا تعبثان بجسدها هنا وهناك، ولم تستطع الإفلاتَ هذه المرّة كما في المرّات السابقة حين كانت تنجح وتبتعد بعد أن تكيلَ له بعض الركلات. اليوم فقدتْ قدرتها على المقاومة بسبب النعاس والتعب الشديد، فسلّمتْه نفسها فجأةً كأنّها ماتت، أو كأنّ الأمر لا يعنيها باستثناء بضع آهاتٍ مكتومةٍ ضاعت بين لهاثه وصوتِ الرعد الذي عاد يهزّ أركانَ بيتهما. أفلح كامل أخيرًا في تعرية حسنة، ممزّقًا ثياَبها تمزيقًا، واستطاع لمسَ جسدها حيث شاء، لكنه أخفق في ما هو أهمّ بالنسبة إليه؛ فحسنة بقيتْ كما جاءته: عذراءَ حتّى العظم!

لم تكن حسنة قد تجاوزت الرابعة عشرة حين أغلق زوجُها خلفهما البابَ واختلى بها في تلك الليلة المشهودة، ليلةِ العرس. لكنّ خجل كامل، ورهبة حسنة، حالا دون نجاح الأمر. غير أنّ أمّه ووالدَه وعمّاته، وخالتها أمَّ أبيها، ووالدها وعمّاتها وأخواتها، وبعض المقرّبين، كانوا جميعًا في الخارج بانتظار خروجه إليهم بالمنديل الأبيض ملطّخًا بالدم. كانت الزغاريد تملأ الفضاء، وكان والدُه يطلق الرصاص احتفالًا بابنه البكر. لكنّ كامل كان يجفل مع كلّ طلقة، ويستعيد في ذهنه ماضيَه مع أبيه الذي لم يفوّتْ فرصةً للسخرية منه ومن عجزه عن النطق السليم؛ فـكامل ما يزال يتأتئ كما كان منذ طفولته، الأمر الذي سبب له خجلًا رافقه طوال حياته وجعله شخصًا انطوائيًّا.

بدأتْ مشكلة كامل في النطق حين طلب منه والدُه ذات يوم، وهو في السادسة من العمر، الذهابَ إلى بيت عمّه وجلب لترٍ من العرق البلدي، فذهب وحصل على المراد. لكنه في طريق العودة تعثّر ووقع ولم يبقَ من العرق سوى ما امتصّتْه ثيابُه وشعرُه الأشعثُ الطويل. وما إن رآه والدُه معفّرًا بالتراب، تفوح منه رائحة العرق، حتّى جنّ جنونُه، فربطه إلى جذع شجرة، وأشعل النار قربه، وهدّده بإشعاله هو الآخر إنْ كرّر في المستقبل هذا الأمر. كان كامل يبكي بحرقة، ويركل الأرضَ برجليْه، محاولًا الابتعادَ عن النار، التي شعر بها تلفح جسدَه وتكاد تصل ألسنتُها إليه. ولكنْ هيهات؛ فالحبال كانت مشدودةً بقوّة حول خصره وقدميه. وعندما أنهكه التعبُ وتملّك منه الرعبُ، حاول النطقَ طالبًا الصفحَ، فوجد نفسه عاجزًا عن الكلام، فأخذ يصرخ بألفاظ مبهمة أخافت والدَه الذي سارع إلى حلّ وثاقه، ولكنْ بعد فوات الآوان: فكامل، الذي كان يثرثر طيلة النهار ويقلّد أصوات الطيور والحيوانات، فقد النطق فجأةً، وبقي هكذا لعدّة أشهر، قبل أن يعود صوته، لكنْ مع تأتأة لازمته إلى اليوم. إلّا أنّه تظاهر بالخرس عامًا كاملًا. وها هو يجلس مع عروسه على طرف السرير، يرتجف من الرهبة، غيرَ قادر على الكلام، في الوقت الذي ينتظر منه الجميعُ شيئًا لن يستطيع القيام به تحت هذا الضغط.

شيئًا فشيئًا نفد صبرُ المحتفلين في الخارج. بل إنّ والده طرق الباب بعنف، مرفقًا طرقاته بعدة طلقات من بندقيته في الهواء. فما كان من كامل إلّا أن استلّ سكينه التي يفرم بها الدخّانَ، ثم جرح أسفل قدمه جرحًا صغيرًا، ومسح الدمَ بالمنديل، قبل أن يشقّ البابَ، ويرمي به خارجًا في وجه أبيه، الذي التقطه ورفعه فوق رأسه، لتتعالى الزغاريدُ، ومعها لعلعةُ الرصاص، ثم ليعمّ الهدوء، وليبقى "الزوجان" وحدهما، لا ثالث لهما سوى صمتهما، الذي امتدّ وامتدّ، إلى أن شعرا بالنعاس، فنام كلّ منهما في فراش مستقل. واستمرّ الوضع على هذا المنوال ثلاثة أشهر كانت حسنة تتجنّب خلالها أيّ اتصال به سوى بعض الكلمات الضرورية، وكان هو يبقى معظم النهار خارج البيت. إلى أن حصل ما حصل بينهما مساءً، ولم يكن أمرًا يبعث على السرور لأيّ منهما.

في الصباح الباكر استيقظ الزوجان على هرجٍ ومرج. وما إنْ فتح كامل البابَ حتى وجد أمامه عمّه يخبره بأنّ والده وُجِد ميتًا تحت شجرة البلّوط حيث كان يتبوّل فجرَ كلّ يوم. بُهت كامل إلى درجة أنّه لم ينتبه إلى مغادرة عمّه، ووجد نفسه حافي القدمين والريحُ تلسع جسده المستور بثيابه الداخليّة لا غير. استدار ودخل مسرعًا ليخبر حسنة المقهورة، الغاضبة منه، أنّ أباه وجد ميتًا تحت الشجرة التي ربطه إلى جذعها ذات يوم. تلقّت حسنة الخبر ببرود، ثم تثاءبت قائلة: "الله يرحمه." وعندما أزاحت اللحافَ لتخرج من الفراش ظهرتْ عارية تمامًا، تتقافز حول جسدها الفتيّ الشياطينُ والعفاريتُ وكلُّ ما يُخرج الرجل عن اتّزانه ويُدخله في عالم الشهوات العمياء. نظر كامل إليها وقد اختلطتْ مشاعرُه: فمن جهةٍ استاء لردّة فعلها الباردة، ومن جهةٍ ثانية كاد يُغمى عليه من شدّة الشهوة رغم ما حصل قبل ساعات.

لم يكن كامل قد رأى جسدَ حسنة بهذا الجلاء، على الرغم من مرور ثلاثة أشهر على زواجهما. فقد كان يكتفي بخلع ثيابه التحتيّة تحت اللحاف، بينما تبقى هي بكامل ثيابها تقاوم رغباته. كانت الآن عاريةً تمامًا، يرتسم على طول جسدها ظلالُ حديدِ النافذة القريبة، فبدت مسوّرةً عصيّةَ المنال. لم يستطع كامل المقاومة. كانت عيناه تستعجلان مسحَ الأجزاء العارية قبل أن تغطّيها الأقمشةُ بنقوشها التي جعلتْ نظرَه يزوغ. انتبهتْ حسنة إلى نظراته المجنونة، وغطّت صدرَها بحركة عفوية، وتكوّرت على الفراش، قبل أن تُفاجأ به يقترب منها وينزع عنها ثوبَها بعنف، ثم يطرحها أرضًا، ويرتمي فوقها، ليهصر جسدها تحته، مقتحمًا بوّابات متعتها خلال ثوان.

لأوّل مرّة تشعر حسنة بشيء "مختلف": شيءٍ جعلها تتلوّى تحته بلذّةٍ، وتتأوّه بصوتٍ عالٍ طغى على صوته وشهقاته، وتخطّى جدرانَ بيتهما، وصولًا إلى أسماع بعض المعزّين الواقفين أمام بيت المرحوم، فراحوا يتلفّتون يمنةً ويسرةً غيرَ مصدّقين! وتتالت التأوّهاتُ والشهقات، وتصاعدتْ نحو الفضاء، حاملةً معها كامل وحسنة بعيدًا عن هذا العالم، لدقائق قليلة تحوّلا فيها إلى كائنين سحرييْن. كان كامل يسبح مع أجمل أحلامه التي تحوْلتْ إلى حقيقة تشعّ بين يديْه، حقيقةٍ اسمُها حسنة تضمّه بين ذراعيها، وتنتفض بروحها قبل جسدها، إلى أن غابت عن الوعي للحظة حين شعرتْ بجسده يتقوّس فوقها، مطلقًا شهقةً أخيرةً، شاركته بمثلها، قبل أن تسلم نفسَها للتعب، مبلّلةً بالعرق، وبماء اللذة الدافئ، وبكلّ شيء.

عندما انتبها لنفسيهما قاما فجأةً مذعوريْن، وأسرع كلّ منهما يرتدي ملابسَه بعيدًا عن نظرات الآخر، ومن دون أن ينطقا بحرف. اتّجه كامل نحو الباب وهو مايزال يزرّر فتحة بنطاله. وما إنْ وضع فردتي حذائه في قدميه حتى فتح الباب واندفع خارجًا وهو يسوّي سترته ويلفّ شالَ الصوف حول رقبته. وخلال لحظات وجد نفسه مصلوبًا أمام نظرات المعزّين. شقّ طريقه بينهم، إلى أن بلغ جثّة أبيه المغطّاة بملاءة بيضاء. أزاح طرفَها عن وجهه، ونظر إليه مليًّا كما لو أنه لا يعرفه، ثم أعطى أوامره بحزمٍ ومن دون أدنى تأتأة:

ــــ ليُغسل الميت ويُكفّن ويُدفن بأسرع وقت. فإكرامُ الميتِ دفنُه.

***

في المساء، بعد الدفن، وبعد الانتهاء من مراسم العزاء، عاد كامل النمّوز إلى بيته، محمولًا على أجنحة الشوق، ليجد حسناه بانتظاره على أحرّ من الجمر.

اللاذقيّة

*الدوّام: ثمر البلوط أو السنديان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...